النص الكامل للحوار الذي نُشر في مجلة (النيل والفرات)
العدد رقم 20 الصادر في 15 يونيو 2022
أجرت
الحوار: د. أماني إبراهيم
حوارنا في هذا العدد مع أديب امتدت تجربته الإبداعية على
مدى نصف قرن من الزمان، أصدر خلالها عشرات الأعمال من مقالات وقصص وأشعار، وارتبط
اسمه في الأوساط الأدبية العربية بـ (القصة الومضة)، إنه الأديب مجدي شلبي، الذي
يسعدنا أن نلقي الضوء على مسيرته الأدبية من خلال الحوار التالي:
ـ حدثنا عن تجربتك الإبداعية في الكتابة الأدبية:
ـ إن الكتابة وليدة القراءة، إذ تستحيل الكتابة في أي موضوع دون رصيد سابق
من الاطلاع والمعرفة، فلا انفصال بين هذه وتلك؛ إلا أنني أود الحديث في البداية عن
خطواتي الأولى على طريق القراءة؛ معترفا بأن الفطرة هي التي تخط مسيرة الإنسان،
وتدفعه نحو طريقه الأول، بفعل ميول وغرائز ورغبات تولد معه، دون أن يكون له دخل في
إيجادها؛ فمنذ صغري كنت شغوفا بالقراءة والاطلاع، ولما لم يكن متاحا لي ـ وقتها
ـ إلا الكتب المدرسية؛ فقد استطعت
استيعابها والتفوق الدراسي فيها، غير أن هذا النهم المعرفي، لم تشبعه تلك العلوم
والآداب التقليدية المحددة والمفروضة فرضا؛ فأعلنت ـ في مرحلة لاحقة ـ تمردي
عليها، وساعدني على هذا وجود مكتبة ـ لزوج شقيقتي ـ كانت زاخرة بأمهات الكتب في
شتى المجالات؛ فرحت أنهل من معينها المتدفق، غير المحدد بمنهج ولا نهج... واستمرت
رحلتي مع القراءة الحرة، من خلال حرصي على شراء الكتب بديلا عن شراء حذاء أو قميص
أو بنطال جديد؛ استجابة طبيعية لما جبلت عليه من اهتمام بالجوهر أكثر من اهتمامي
بالمظهر، وهو الأمر الذي دفعني منذ 13 سنة (24 أغسطس 2009م) لتخصيص أحد مقالاتي في
جريدة الرياض السعودية بعنوان (بين المظهر والجوهر) للحديث عن قضية المظاهر
الخادعة، كواحدة من تناقضات الحياة، ولا تخلو كتاباتي القصصية والشعرية وغيرها من
إشارة لتلك المفارقات المدهشة.
ـ ما الذي دفعك لسبر أغوار أكثر من حقل أدبي؟
ـ إن التنوع في الكتابة جاء نتيجة طبيعية لتنوع القراءة، ومن ثم أجد
العبارة الأولى من النص تأتيني بصياغة دالة على القالب المناسب لها؛ فتصبح: إما
قصيدة، أو رباعية، أو قصة، أو ومضة، أو مقالا، أو خاطرة... ولي في كل مجال من هذه
المجالات كتبا؛ بلغ مجموعها ـ حتى الآن 15 كتابا، وتحت الطبع أربعة كتب أخرى.
ـ ألا ترى أن عدم التخصص الأدبي يؤدي إلى التشتت ويقلل
من قيمة المنتج الإبداعي؟
صحيح أن التخصص يرتقي بالعمل الأدبي ويوفر الجهد والوقت على المبدع، لكنني
لا أشغل نفسي بتصنيف أجناسي محدد ومسبق، وإلا كنت كمن يشمر عن ساعده ويقول: (نويت
كتابة قصيدة أو قصة أو مقال...)!، إنني ضد الاختلاق والافتعال، ومع التخصص الذي
يسبقه ـ ويواكبه ـ إلمام عام بالمجالات الأخرى أيضا؛ فلا غنى للأديب عن الأخلاق
والفلسفة والدين والعلم والتاريخ والفن، وقبل هذا كله الإلمام بقواعد اللغة، وعلم
البيان؛ لكون اللغة هي وعاء الفكر، ووسيلة التعبير الأدبي، على غرار الرسم الذي
يأتي معبرا عن الفكر بالخطوط والألوان، والموسيقى التي تعبر عنه بالأنغام
والألحان.
ـ هل ترى أن (الموسيقى قد تكون يوماً اللغة العالمية
للجنس البشري) كما قال أفلاطون؟
ـ لقد تخطينا بالفعل مسألة ارتباط الموسيقى بالأدب، خصوصا الشعر بقوافيه
وأوزانه، وتزاوجهما لإنجاب الأغنية؛ فأضحينا حاليا أمام دعوات لأن يشترك القاص
والروائي أيضا مع موسيقار وملحن بغية كتابة سيمفونيات وتسجيلها على أشرطة، تكون
مرفقة بالكتاب الذي سيقرؤه المتلقي بالتوازي مع السماع، والمدهش حقا ـ والذي يؤكد
حقيقة ما ذكره أفلاطون ـ أن بعض الباحثين ابتكروا بالفعل برنامجا يحول الأعمال
الأدبية وخاصة الرواية إلى مقطوعات موسيقية!، وأعتقد أن هذا البرنامج سيوقعني في
ورطة؛ إذ كيف سيتم تحويل (القصة الومضة) ـ التي تتكون من كلمتين أو ثلاث أو أربع ـ
إلى مقطوعة موسيقية؟!.
ـ أليست (القصة الومضة) هي ذاتها (القصة القصيرة جدا)
التي يُجمع النقاد والباحثين على أنها نشأت سنة1925م؟
ـ لكل جنس أدبي خصائصه التي تميزه عن غيره، في الوقت الذي ترتبط فيه جميع
الأجناس الأدبية بسمات مشتركة؛ فالقصة القصيرة جدا ترتبط بالقصة القصيرة ارتباطا
وثيقا من حيث المقومات الأساسية، لكنها تتميز عنها بخصوصية الإيجاز الشديد
والإضمار والإدهاش، أما (القصة الومضة) فهي نتاج مزاوجة أجريتها بين (أدب
التوقيعات) و(فن القص)؛ بهدف خلق جنس أدبي جديد ومبتكر، يتوافق مع إيقاع العصر،
ويفتح المجال أمام المبدعين، ليخرجهم من أزمة سبق التناول، ومن ثم يطلق حرية
القارئ أيضا للتحليق في فضاءات غير نمطية وأكثر رحابة من القوالب الأدبية
المعتادة؛ وذلك على نحو ما حدث من مزاوجة بين (المقامة) و(المقال) لإنتاج (المقال
المقامي)، والمزاوجة بين (المسرح) و(الشعر) لإنتاج (المسرح الشعري)، والمزاوجة بين
(الشعر) و(النثر) لإنتاج (قصيدة النثر)... ومن المتوقع أن تستمر تلك المزاوجات بين
الأجناس الأدبية، وفي المقابل ستستمر محاولات التصدي لكل جديد، ولن يوقف تلك
المحاولات المناهضة؛ إلا السعي نحو تجويد المنتج الإبداعي من خلال نصوص تطبيقية،
تكون أكثر قوة و قدرة على الصمود، و إثبات الوجود أمام سلطة النقد، وهو ما نسعى إليه
على مدى السنوات التسع الماضية، من خلال رابطتنا العربية للومضة القصصية، وما صدر
عنها من كتب ورقية (كنوز القصة الومضة)، فضلا عما أصدره بعض الأعضاء من كتب خاصة
بكل منهم؛ وهو ما يؤكد أننا نسير بهذا الجنس الأدبي الجديد خطوات مهمة على طريق
إثبات استقلاليته وتفرده وتميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، رغم وجود بعض
الكتاب ممن يسيرون في الاتجاه المعاكس بنشرهم نصوصا ـ على مواقع التواصل الاجتماعي
ـ يطلقون عليها قصة ومضة، وهي لا تمت لهذا الفن الأدبي بصلة.
ـ ما هي رؤيتك للمشهد الأدبي والثقافي بشكل عام في ظل
استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟
ـ أرى أن وسائل التواصل الاجتماعي؛ استطاعت أن تحفز الموهوبين ـ خصوصا
المهمشين والبعيدين عن الأضواء ـ وتطلق طاقاتهم الكامنة وتمنحهم الفرصة للكتابة
والنشر بأيسر السبل وبوسائل عديدة ومنوعة: مقروءة ومسموعة ومصورة؛ فتحقق
لإبداعاتهم سرعة الانتشار، والتواصل المباشر والتفاعل المستمر بينهم وبين جمهور
عريض من القراء والكتاب والنقاد، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار
أجناس أدبية جديدة منها (القصة الومضة) التي خصصت لها أربع مجموعات: (الرابطة
العربية للومضة القصصية) و(المسابقة اليومية في الومضة القصصية) و(خصوصية الومضة
القصصية) و(ومضات مجدي شلبي القصصية)، وهناك عشرات المجموعات الأدبية التي تعنى
بتقديم الأدب الراقي؛ منها على سبيل المثال (واحة الأدب في الكويت) التي أسستها
وتشرف عليها الأديبة الكويتية الأستاذة/ شمسه العنزي، وأشرف بالقيام فيها بدور
المنسق العام لمسابقاتها في القصة القصيرة والقصيرة جدا...
ـ ولكن ألا ترى أن سهولة النشر وسرعته؛ قد تجيء على حساب
جودة المنتج الأدبي؟
ـ لا يمكن التعميم في هذا الشأن؛ فكما أن سهولة النشر تأتي ـ أحيانا ـ
بكتابات تخالف البناء الفني للأجناس الأدبية التقليدية أو المبتكرة ـ كما ذكرت
آنفا ـ وتكون في معظمها ركيكة وسطحية، فضلا عن ترهات قصصية وشعرية، تنال من
الإعجاب والتهليل ما يثير التعجب والاندهاش، إلا أننا ـ على الجانب الآخر ـ لا
ننكر وجود كتابات رائعة تستحق الإشادة بها، والوقوف عندها موقف المؤيد والداعم لدور
تلك الوسائل الحديثة في إثراء الحياة الثقافية، والزمن كفيل بفرز الصالح من
الطالح، ولا يفوتني هنا أن أشير إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت
عموما في كشف السرقات الأدبية وفضح مرتكبيها أيضا.
ـ ألا يعتبر الاقتباس أو ما يطلقون عليه (التناص) سرقة
أدبية؟
ـ التناص: استحضار نص أدبي داخل نص أدبيّ آخر (تضمين)، وهو مؤشر على سعة
اطلاع الكاتب، واستجلابه من مخزونه الفكري مايحفزه على الكتابة المنفتحة، بدلالات
وتأويلات جديدة، وبحسب رؤية الكاتبة الفرنسية جوليا كريستيفا: "التناص: أحد
مميزات النص الأساسية التي تحيل علي نصوص أخري سابقة عنها أو معاصرة لها"
وتضيف: "إن کل نص هو عبارة عن (لوحة فسيفسائية) من الاقتباسات وکل نص هو
تشّرب وتحويل لنصوص أخري". ويؤكد هذا المعنى الشاعر الفرنسي بول فاليري؛
بقوله: "إن الأسد أو النّمر هو في حقيقته قطيع خراف مَهْضومة".
أما السرقة: فهي الأخذ المقصود نسخا أو سلخا أو مسخا مع الإنكار، ونسبة
النص لغير صاحبه، وهنا يبرز موضوع من يُكتب لهم أيضا، وهي قضية مطروحة بقوة على
الساحة الأدبية الآن، فضلا عن قضايا أخرى عديدة، منها: العائد المادي من الأدب،
وعلاقة الأدباء بدور النشر... وغيرها.
ـ هل ترى أن النشر الالكتروني أضحى بديلا عن النشر
الورقي؟
ـ لا يمكن أن يكون هذا بديلا عن ذاك؛ فحميمية العلاقة بين القارئ والمطبوع
الورقي لها خصوصيتها وتفردها وتميزها، إلا أن وسيلة النشر الالكتروني هي الأيسر
والأسرع، والأقل تكلفة والأكثر تفاعلا والأوسع انتشارا، خصوصا في ظل تسارع
الأحداث، ومواكبة الظروف الطارئة؛ كتلك التي حدثت خلال جائحة كورونا.
ـ لقد تابعنا ما قدمته أثناء تلك الفترة مما يمكن وصفه
بـ (سوق عكاظ افتراضي)؛ حدثنا عن هذه التجربة، وما الهدف منها، وهل تحقق هذا
الهدف؟
ـ إن فكرة عقدي لندوات افتراضية جاءت على خلفية توقف الأنشطة الأدبية في
المواقع الثقافية خلال جائحة كورونا؛ فاستدعيت ـ افتراضيا ـ 322 شاعرا من فحول
الشعراء العرب، من تسعة عصور مختلفة، بهدف إحداث حالة من المقاربات الشعرية بينهم
في موضوعات محددة، تجاوزت المئة موضوع، وأعتقد أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ
الأدب العربي التي تتم فيها هذه المقاربات الشعرية الافتراضية، ليتعرف منها القارئ
الكريم والباحث المتخصص على إبداع مئات الشعراء العرب، الذين غيبهم عن ذاكرتنا
الأدبية طغيان أسماء عشرات منهم فقط، وأتمنى أن أتمكن من طباعة هذه المقاربات
الشعرية في كتاب ورقي؛ لتعم الفائدة ويتحقق الهدف من هذا المشروع الأدبي غير
المسبوق.
ـ هل لديك مشاريع أدبية أخرى غير (القصة الومضة)
و(المقاربات الشعرية)؟
ـ نعم هناك (المقال المقامي) وقد نشرت عديد من المقالات المقامية في صحف
ومجلات مصرية وعربية، وجمعتها في أربعة كتب، وهناك (الرباعيات) و(الشعر العامي)
وقد أصدرت أربعة دواوين شعرية فيهما، وتحت الطبع ثلاثة دواوين أخرى، وهناك سلسلة
كتابات بعنوان (سألني حفيدي): دعوة للتفكر، وسلسلة مقالات (نقطة ومن أول السطر):
دعوة للتدبر، أما (القصة القصيرة جدا) فقد أصدرت أربع مجموعات قصصية، وتحت الطبع
ثلاث مجموعات أخرى، وفي (التوقيعات الأدبية) أصدرت كتابين والثالث تحت الطبع، وفي
(الومضة القصصية) أصدرت كتابا واحدا، وآخر تحت الطبع، فضلا عن مشروع (خلاصة الآراء
اللغوية في المختلف عليه من الألفاظ العربية) وهي مجموعة مقالات بحثية في معاجم
اللغة العربية، أعنى فيها بتقديم تلك الألفاظ في مادتها الأولية (أي الحروف
الثلاثة الأولى للكلمة واشتقاقاتها ودلالاتها المتعددة)، مشفوعة بشواهد شعرية تقرب
المعنى وتؤكد عليه؛ بهدف إثبات حقيقة ثراء لغتنا العربية وغناها، وما تتميز به من
خصائص فريدة؛ كتلك التي يطلق عليها في علوم اللغة (الأضداد)، وهي الكلمات التي
تحمل المعنى وضده في آن واحد، فضلا عن حرصي على البحث في بعض الكلمات التي رسخ في
المفهوم الشعبي أنها عامية؛ للكشف عن أصلها الفصيح، وقد بلغ عدد تلك الأبحاث ما
يقارب المئة.
ـ لقد استوقفني اسم هذه المؤسسة التي اتخذت من رمز نهر النيل ونهر الفرات ـ اللذان يعدان أغزر نهرين في الوطن العربي ـ اسما لها، وهو رمز دال على عمق العلاقة بين الأدب المصري القديم والأدب السومري؛ باعتبارهما أقدم الآداب المعروفة عبر التاريخ...
فتحية تقدير واحترام للشاعر الكبير الأستاذ/ ناجي عبد المنعم الذي أسس هذا
الصرح الثقافي الهام وعلى ما يقدمه من مشاريع أدبية، وخالص الشكر لكم ولأعضاء أسرة
تحرير هذه المجلة الغراء على تكرمكم بنشر هذا الحوار، وبالتوفيق دائما بإذن
الله.