(9) من النثر العربي الجاهلي (سجع الكهان)
إعداد/ مجدي شلبي
(*):
ــ مقدمة:
لقد أشرنا من قبل إلى أن الأدب الشعبي (التراثي)، ينقسم إلى قسمين: النثر
والشعر، وقد بدأنا في الحلقات السابقة بالآداب التراثية النثرية باعتبارها "أسبق
من الشعر في الوجود؛ وذلك لأن النثر ليس إلا ترقيماً لما يتبادل بين الناس من كلام".
(ويكيبيديا)
وقد تكرمت مجلتنا
المرجعية هذه (النيل والفرات) بنشر حلقاتي الثمان الماضية: (1) مقدمة تعريفية
بالأدب الشعبي التراثي وأهمية دراسته وكيفية الاستفادة منه. (2) أدب الحكايات
والقصص التراثية وعرض بعض النماذج من: (كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وحكايات جحا،
وما سبقها من حكايات في الأدب الفرعوني). (3) أدب المقامة، وتعريف بها، وعرض بعض
النماذج منها، والإشارة إلى ما قمت به من مزاوجة بينها وبين أدب المقال؛ منجبا
(المقال المقامي) وعرض بعض النماذج منه. (4) أدب التوقيعات والحكم والأمثال، وعرض
بعض النماذج منها والإشارة إلى ما قمت به من مزاوجة بينها وبين فن القص؛ منجبا
(القصة الومضة/ الومضة القصصية) وعرض بعض النماذج منها. (5) أدب الوصايا، وتعريف
به، ومعنى (الإيصاء) لغة، وعرض بعض النماذج من أدب الوصايا. (6) أدب الرسائل،
وتعريف به، وأنواعه، وعرض بعض النماذج منه. (7) أدب الخطابة، وتعريف به، وأنواع
الخطابة، وعناصرها، وأهدافها، وعرض بعض النماذج منها. (8) أدب الحوار، وتعريف به،
وتعريف بالسفسطائية، وعناصر الحوار المتسم بالأدب، وأنواعه، وأغراضه، وعرض بعض
النماذج الإسلامية منه.
وبقي أن نشير في
هذه الحلقة الأخيرة إلى ما عُرف بـ (سجع الكهان)،
والتعريف به، وتوضيح الفرق بين (الكاهن) و(العراف) و(الساحر)، ومن هم أشهر الكهان
في الجاهلية، ونبذة مختصرة عن بعضهم، وعرض بعض النماذج من (سجع الكهان)، ثم نختتم
الحلقة بأشعار على هامش هذا الموضوع النثري؛ وهذا هو الموضوع:
(أولا) تعريف (سجع الكهان):
(سجع الكهان): نوع من أنواع النثر العربي في العصر الجاهلي، وهو عبارة عن كلام
غير مفهوم يطلقه الكاهن، الذي يدعي معرفة الغيب، والنطق باسم الآلهة، والتواصل مع
الجن وتسخيرهم لخدمته!، ولأن ذلك الكلام (المسجوع) غير مفهوم؛ فقد كان يضفي على
الكاهن قداسة، يستميل بها السامعين، الذين يلجؤون إليه، للاستعانة بقدراته الخارقة
للاطلاع على الغيبيات والتحكم في مصائر الناس.
(ثانيا) الفرق بين (الكاهن) و(العراف) و(الساحر):
ــ (الكاهن) هو: الذي يدعي أن لديه القدرة على معرفة الغيب؛ من خلال
التواصل مع الجن؛ فهو يتحدث فقط عن المستقبل.
ــ (العراف) هو: الذي يتحدث عن الشيء الذي جرى، كأن يخبرك أين موضع ضالتك،
ويدلك على مكان وجودها، فهو يتعامل مع ماحدث في الماضي، ولا يخبر عن المستقبل.
وقد نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن الاعتماد على العرافين
والكهان: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه
وعلى آله وسلم).
ــ (الساحر) هو: الذي يقوم بأعمال السحر في: تفكك الأسرة، الإصابة بالأمراض
المزمنة، العنوسة، عدم الإنجاب، الحب والكراهية... إلخ؛ فهو يفعل في الحاضر ويسعى
للإضرار بالناس، يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية 102 من سورة البقرة: (واتبعوا
ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
السحر ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر
فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن
الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس
ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون).
وقد تجتمع هذه الصفات الثلاث كلها في شخص واحد.
(ثالثا) السحر الحلال:
يكمن السحر الحلال في بلاغة البيان وبديع الكلام؛ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إنَّ من البيان لسحراً). يقول الشاعر/ ابن عبد ربه:
بكفَّهِ ساحرُ البيانِ إذا *** أدارَهُ في صحيفةٍ سَحَرا
يَنطِقُ في عُجمةٍ بلفظتهِ *** نُصَمُّ عنها وتُسْمِع البَصَرا
نوادرٌ يقرعُ القلوبَ بها *** إنْ تَسْتبِنْها وجدْتَها صُورَا
يكادُ عنوانُها لرَوْعتهِ *** يُنْبيكَ عن سرِّها الَّذي اسْتَترا.
(رابعا) أشهر الكهان في الجاهلية:
أشهر الكهان في الجاهلية: عفيراء، عوف بن ربيعة (كاهن تهامة)، شقًّا،
وسطيحًا (أكهن الكهان)، وزبراء (كاهنة بني رئام)، وسلمى بن أبي حيّة (أكهن العرب)،
والشعثاء، و(كاهنة ذي الخَلَصَة)، والكاهنة السعدية، والزرقاء بنت زهير، والغيطلة
القرشية،...
(خامسا) نبذة مختصرة عن بعض هؤلاء الكهان:
* (الكاهن شقًّا): هو شق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسر بن عبقر بن
أنمار بن نزار، وقيل أنه سمي (شقًّا) لأنه كان كشق إنسان؛ له عين واحدة، ويد واحدة،
ورجل واحدة!.
* (الكاهن سطيح): هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي بن ذئب، من بني مازن
غسان، من الأزد: كاهن جاهلي، من المعمرين، قيل أنه عمر ستة قرون، وكان العرب
يحتكمون إليه ويرضون بقضائه، وكان يُضرب المثل بجودة رأيه، وقيل أنه ولد لحماً على
وضم (والوضم جرائد النخيل) ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والعنق والكتفين،
ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه!.
والأكثر إدهاشا أن السهيلي ذكر "أنهما ولدا في يوم واحد، وكان ذلك يوم
ماتت طريفة بنت الخير الحميرية". والكاهنة طريفة بنت الخير تلك كانت زوجة ملك
حمير عمرو بن عامر، ولها قصة طويلة لا يتسع المقام لعرضها هنا، ولكن يكفي ـ ونحن
نتحدث الآن عن عجائب الصفات والمواقف ـ أن نشير إلى أن سبب إطلاق اسم (مزيقاء) على
الملك عمرو بن عامر؛ هو أنه كان يلبس كل يوم حلتين في الصباح، ويخلعهما في المساء
ويمزقهما، حتى لا يلبسهما أحد من بعده!.
(سادسا) نماذج
من (سجع الكهان):
1ــ يروى أن الكاهنة عفيراء قالت في تفسير رؤيا (مرثد بن كلال): "رأيتَ
أعاصيرَ زوابعْ بعضُها لبعضٍ تابعْ، يقفوها نهرٌ متدافعْ، وسمعتَ فيما أنتَ سامعْ
دعاءً ذي جرسٍ صادعِ: هلموا إلى المشارعِ رويٍ جارعٍ وغرقٍ كارعٍ".
2ــ يروى أن كاهن تهامة عوف بن ربيعة قال لبني أسد: "يا عبادي! قالوا:
لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق
رأسه الصخب، هذا دمه ينشعب، وهذا غدًا أول من يسلب. قالوا: من هو يا ربنا؟ قال:
لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر صاحية، فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق
لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبته وقتلوه".
3ــ يروى أن شقًّا وسطيحًا اتفقا على تعبير رؤيا رآها ربيعة بن نصر اللخمي
أحد ملوك العرب، فأخبره سطيح بإغارة الحبشة على بلاد اليمن بسجع متكلف، يبعث على
التردد في تصديقه، إذ قال: "أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم
الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش". وقال شق: "أحلف بين الحرتين من
إنسان ليهبطن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران".
4ــ يروى أن كاهنة بني رئام زبراء، أنذرت قومها غارة عليهم، فقالت: "واللوح
الخافق والليل الغاسق، والصبح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر
الوادي ليأدوا ختلًا، ويحرق أنيابًا عصلا، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا، ولا تجدون
عنه معلًا".
5ــ يروى عن سلمى بن أبي حيّة (أكهن العرب) قوله: "والأرض والسماء،
والعقاب والعنقاء، واقعة ببقعاء، لقد نفّر المجد بني العُشَراء للمجد والسناء".
6ــ روي أن ذا يزن الملك أرسل إلى الكاهن سطيح (كاهن الكهان) لأمرٍ لا شك
فيه. فلما قدم عليه أراد أن يجرب علمه قبل حكمه فخبأ له دينارا تحت قدميه ثم أذن
له فدخل فقال له الملك: ماخبأت لك ياسطيح؟! فقال سطيح: حلفت بالبيت والحرم، والحجر
الأصم، والليل إذا أظلم، والصبح إذا تبسم، وبكل فصيح وأبكم: لقد خبأت لي دينارا
بين النعل والقدم. فقال الملك: من أين علمك هذا ياسطيح؟ فقال: من قبل أخ لي جني
ينزل معي إذا نزلت.
فقال الملك: أخبرني عما يكون في الدهر، فقال سطيح: إذا غارت الأخيار وقادت
الأشرار، وكذب بالأقدار، وحمل المال المال بالأوقار، وخشعت الأبصار لحامل الأوزار،
وقطعت الأرحام، وظهرت الطغام لمستحلي الحرام، في حرمة الإسلام، وأختلفت الكلمة،
وعفرت الذمة، وقلت الحرمة، وذلك عند طلوع الكوكب الذي يفزع العرب، وله شبه الذنب،
فهنالك تنقطع الامطار، وتجف الأنهار، وتختلف الأعصار، وتغلو الاسعار، في جميع
الاقطار. ثم تقبل البربر بالرايات الصفر، على البراذين البتر (السبر)، حتى ينزلوا
مصر فيخرج رجل من ولد صخر، فيبدل الرايات السود بالحمر، فيبيح المحرمات، ويترك
النساء بالثدايا معلقات، وهو صاحب نهب الكوفة، فرب بيضاء الساق مكشوفة على الطريق
مردوفة، بها الخيل محفوفة، قد قتل زوجها، وكثر عجزها، وأستحل فرجها؛ فعندها يظهر
ابن النبي المهدي، وذلك إذا قتل المظلوم بيثرب، وابن عمه في الحرم، وظهر الخفي؛ فوافق
الوسمي فعند ذلك يقبل المشوم بجمعه الظلوم فيطاهي (فيتظاهر) الروم، ويقتل القروم،
فعندها يكسف الكسوف، إذا جاء الزحوف، وصف الصفوف، ثم يخرج ملك من اليمن، من صنعاء
أو عدن، أبيض كالقطن اسمه حسين أو حسن، فيذهب بخروجه غمر الفتن، فهناك يظهر مباركا
زكيا، وهاديا مهديا، وسيدا علويا. فيفرج الناس إذا أتاهم بمن الله الذي هداهم،
فيكشف بنوره الظلماء، ويظهر به الحق بعد الخفاء، ويفرق الاموال في الناس بالسواء،
ويغمد السيف فلا يسفك الدماء، ويعيش الناس في البشر والهناء، ويغسل بماء عدله عين
الدهر من القذى ويرد الحق على أهل القرى، ويكثر في الناس الضيافة والقرى، ويرفع
بعدله الغواية والعمى، كأنه كان غبارا فانجلى، فيملا الارض عدلا وقسطا والايام
حبا، وهو علم للساعة بلا امتراء.
(سابعا) أشعار على هامش هذا الموضوع النثري:
يقول الشاعر/ صردر:
يا كاهنَ الحبِّ خبرّنى مَن الجانى *** عينى التي عِشقت أم طَرْفَى الرانى
ولو علِمتَ الذي يجرى على كبدي *** لقلتَ إنهما في الحبِّ سِيّانِ.
فأخال الشاعر/ عباس محمود العقاد يرد على صردر؛ بقوله:
سحر دنياك يا أُخَيَّ قديم *** سوف يبقى، ويذهب الكهانُ
أفيمضي بسحرها كاهن ما *** ت وفيها الشموس والأغصانُ؟
أفيمضي بسحرها كاهن ما *** ت وفيها الثغور والأجفانُ؟.
ــ أخيرا وليس آخرا:
بهذه الحلقة التاسعة التي خصصتها لـ(سجع الكهان في الجاهلية) أكون قد
استعرضت آخر حلقات الآداب التراثية النثرية، مفسحا المجال في القادم ـ بإذن الله ـ
للبحث في الآداب التراثية الشعرية، وذلك لاستكمال إثراء هذا الباب (الأدب الشعبي/
التراثي) بهذه الأبحاث التي تعتبر مرجعا مبسطا يفتح الباب أمام الدارسين الذين
يتطلعون بشغف واهتمام للبحث والتنقيب في محيط أدبنا العربي التراثي، وصولا للمزيد
من الدرر واللآلئ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر