(10) مكانة القريض في الأدب عند فطاحل العرب
إعداد/ مجدي شلبي
(*):
ــ
مقدمة:
لقد انهينا
بالحلقة التاسعة حديثنا عن النثر باعتباره أحد روافد الأدب الشعبي التراثي، وبقي
أن نتاول في الحلقات القادمة موضوع (القريض/ الشعر/ ديوان العرب)؛ يقول الشاعر/ جميل
صدقي الزهاوي:
الشعر ديوان العرب
*** والشعر عنوان الأدب
ويحفظ الاخلاق أن
*** تمسها يد العطب
يصور الإحساس منهم
في *** الرضى وفي الغضب
والزهر في أشواكه
*** كالعين حولها الهدب
وهو الذي أذكى
الشعو *** ر بالظهور والغلب
وهو إلى الوحي يمت
*** من قديم بالنسب
وهو سرور للذي ***
فيه السرور قد نضب
ان يكن النثر الفضة
*** (فالقريض) الذهب.
ــ معنى
القريض:
(القريض) هو: الشعر،
و(فن القريض) يعني: قواعد نظم الشعر، و(قرض الشعر) أي: نظمه وقاله، وحيا وإلهاما؛
يقول الشاعر/ علي الجارم:
فتاة القريض اهبطي من عل *** مَدَدْتُ يَدَيَّ، فَلَا تَبْخَلِي
كَبَا بِفَتَى الشِّعْرِ طُولُ الصُّعُودِ *** فَإِنْ كُنْتِ رَاحِمَةً
فَانْزِلِي.
ويقول الشاعر/
خليل مطران:
أَدْعُو القَرِيضَ فَيَعْصِي بَعْدَ طَاعَتِهِ *** وَكُنْتُ حِيناً إِذَا
نَادَيْتُ لَبَّانِي
فَلَيْتَ لِي فَضْلَةً مِنْهُ أَصُوغُ بِهَا *** مَا يَبْتَغِي اليَوْمَ
مِنِّي وَحْيُ وِجْدَانِي.
ــ
الفرق بين الجريض والقريض:
معنى كلمة
(الجريض): الغُصَّة التي تعوق المرء
عن النطق؛ يقول المثل (الجريضُ دون القريض): يُضرب
لأَمر يقف دونه عائق؛ يقول الشاعر/ الباخرزي:
وأَشرقَني الجريضُ فلا قريضٌ *** وأَثخنَني الكِلامُ فلا كَلامُ
فما لجيادِ أَشعاري صَهيلٌ *** ولا لظباءِ آدابي بُغام.
ــ
الغرض الأول من القريض (المدح):
إذا كانت كلمة
(القرض) لها معان عديدة؛ إلا أن المعنى المستقى منه كلمة (القريض) هو: مايقدم من
عمل يُلتمس عليه الجزاء المادي.
ــ
نماذج من أشعار المدح لقاء المال:
يقول الشاعر ابن الساعاتي:
مِنحٌ حكاها الغيث لولا رعده *** شهدت بذاك الأزمة الشهباء
وقضاؤه يقضي بأن المدحة الـ *** ـغراء عنها المنحة الغراء.
ويقول الشاعر/ ابن نباته المصري:
دعوتك يا مولايَ للحالِ عالماً *** بأنَّكَ ماحِي عسرة الحالِ بالمنح
إذا أغلقت أبواب رزقي عشيرةٌ *** فأنتَ أبو تسهيلها وأبو الفتح.
ويقول الشاعر/ ابن قلاقس:
سَيْفُ القريضِ
كامِنٌ في غِمْدِهِ *** أَبلاه فَقْدُ سلَّه ورَدِّهِ
والجُودُ
أَولَى صاقلٍ لِحَدِّه *** والشعرُ مثلُ الروضِ حَوْكُ بُرْدِه
فكلُّ خير
عندَهُ من عِنْدِه *** حَبْرٌ جلا الظلماءَ وَرْيُ زَنْده
والويلُ
والويلُ لِمَنْ لَمْ يَهْدِهِ *** بدرُ علاهُ في سماءِ مَجْده
ذو نسبٍ يُريكَ
عند عَدِّه *** دُرًّا أَجادَ المجدُ نَظْمَ عِقْدِه
يرويهِ عن
والِدِه وجَدِّه *** وعبدُهُ الخادِمُ وابْنُ عَبْدِه
قد أَنطقَ
الجودُ لِسانَ حَمْدِهِ *** وَهْوَ يُحاشِي فَضْلَهُ من رَدِّه.
ويقول الشاعر/ ابن
الرومي:
مدحتُكُم طمعاً فيما أؤمِّلُهُ *** فلم أنل غيرَ حظِّ الإثمِ والوصَبِ
إن لم تكن صلةٌ منكم لذي أدبٍ *** فأجرة الخط أو كفارةُ الكذبِ.
ويقول الشاعر/ أبو
الفتح البستي:
مدَحتُهُمُ دَهراً فلْم أرَ مِنهُمُ *** جزاءً منَ الأموال كُثْراً ولا
قُلاّ
فيا سَيِّدَ المفتِينَ هلْ في عُلومِكُمْ *** َلَيَّ جُناحٌ إنْ
هَجوْتُكُمْ أمْ لا.
ويقول الشاعر/ ابن النحاس الحلبي:
إلهي جعلت مناعي القريض *** وقد صار عندي بعد السنينا
ولم لا وقد درست سوقه *** كاطلال اربابه الاقدمينا
ولا بد للشعر من رازق *** فياويل من يقصد الباخلينا.
ــ لا ينبغي للشِعرِ أن يُباع ويُشتري:
يقول الشاعر/
أسامه محمد الزامل:
أنا يا أمّ عمرٍو لستُ ممّنْ *** يبيعونَ قريضاً في المتاجرْ
أيُعرضُ في المتاجرِ بيتُ شِعرٍ *** قد اختصَّتْ به لغةُ الضمائرْ؟
ولنْ تجدِيْ ضميراً في مكانٍ *** يُسَوّقُ فيه شِعراً جورُ جائِرْ
كأذيالِ عباءاتٍ تلهَّىْ *** بأقواتِ الخلائقِ والمصائِرْ
ولا في حانةٍ فيها القريضُ *** يُقدّمُ مع خُمورٍ وسجائرْ
ولا في طُرقةٍ فيها القريضُ *** مهانٌ تحت أقراصِ الفطائرْ.
ويقول الشاعر/ صالح بن عبد القدوس:
اِذا ما أَهَنت النَفسَ لَم تَلقَ مُكرماً *** لَها بَعد اِذ عَرضتها لهوان
اِذا ما لَقيتُ الناسَ بِالجَهلِ وَالخَنا *** فَأَيقَن بِذل من يَد
وَلِسان.
ويقول الشاعر/ أحمد الصافي النجفي:
يا جاعلين من القريض بضاعة *** لم
تحو إلا السجع والأوزانا
إن تجعلوا الإعلان مصدر صيتكم *** أجعلْ لصيتي هجْوكم إعلانا.
ــ
الغرض الثاني من القريض (الذم والهجاء):
(الهجاء) هو: الشتم والتشهير بالشعر، حيث يتناول فيه الشاعر عيوبَ خصمه
المعنوية والجسمية والسلوكية، تعبيرا عن سخطه واشمئزازه.
ــ
نماذج من أبيات الهجاء:
يقول الشاعر/
المتنبي:
صَغُرتَ عَنِ المَديحِ فَقُلتَ أُهجى *** كَأَنَّكَ ماصَغُرتَ عَنِ
الهِجاءِ
وَما فَكَّرتُ قَبلَكَ في مُحالٍ *** وَلا جَرَّبتُ سَيفي في هَباءِ.
يقول الشاعر/ أبو
دلامة:
جَمَعتَ
دَمَامةً وجَمَعتَ لُؤماً *** كَذَاكَ اللُّومُ تَتبَعُهُ الدَّمَامَه
فإن تَكُ قَد
أصَبتَ نَعِيمَ دُنيَا *** فلا تَفرَح فَقَد دَنَتِ القِيامَه.
ويقول الشاعر/ الحطيئة:
جَزاكِ اللَهُ
شَرّاً مِن عَجوزٍ *** وَلَقّاكِ العُقوقَ مِنَ البَنينا
تَنَحَّي
فَاِجلِسي مِنّا بَعيداً *** أَراحَ اللَهُ مِنكِ العالَمينا
أَغِربالاً
إِذا اِستودِعتِ سِرّاً *** وَكانوناً عَلى المُتَحَدِّثينا
حَياتُكِ ما
عَلِمتُ حَياةُ سوءٍ *** وَمَوتُكِ قَد يَسُرُّ الصالِحينا.
ويقول الشاعر/ ابن الوردي:
إذا ما هجاني
ناقصٌ لا أُجيبُهُ *** فإنِّيَ إنْ جاوبتُهُ فلِيَ الذَّنْبُ
أُنزِّهُ نفسي
عن مساواةِ سفْلةٍ *** ومنْ ذا يعضُّ الكلبَ إنْ عضَّهُ الكلبُ.
يقول الشاعر/ ابن الرومي:
لك أنفٌ يابن حربٍ
*** أنِفت منه الأنوف
أنت في القُدسِ
تصلي *** وهو في البيت يطوف.
يقول الشاعر/ الراعي النميري:
وَلَولا أَن
يُقالَ هَجا نُمَيراً *** وَلَم نَسمَع لِشاعِرِها جَوابا
رَغِبنا عَن
هِجاءِ بَني كُلَيبٍ *** وَكَيفَ يُشاتِمُ الناسُ الكِلابا.
يقول الشاعر/
الفرزدق:
أَلا إِنَّ
اللِئامَ بَني كُلَيبٍ *** شِرارُ الناسِ مِن حَضَرٍ وَبادِ
قُبَيِّلَةٌ
تَقاعَسُ في المَخازي *** عَلى أَطنابِ مُكرَبَةِ العِمادِ
بِأَرباقِ
الحَميرِ مُقَوِّدوها *** وَما يَدرونَ ما قودُ الجِيادِ.
يقول الشاعر/ جرير:
فَغُضَّ
الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ*** فَلا كَعباً بَلَغتَ وَلا كِلابا
أَتَعدِلُ
دِمنَةً خَبُثَت وَقَلَّت *** إِلى فَرعَينِ قَد كَثُرا وَطابا.
ــ
الغرض الثالث من القريض (الفخر والحماسة):
يدخل قريض الفخر
من باب (التقارض) الذي يعني: التبادل، ومن ثم فإن (تقارض الشعر) أي: تبادله (شعرا
بشعر)؛ يقول الشاعر/ الشريف المرتضى (بتصرف):
وخُبِّرتما أنّ (القريض) تقارضٌ *** فما لي أُعاطي صفوَهُ مَن يُمانعُ.
ــ سوق
عكاظ ودوره في إثراء الحركة الأدبية:
(سوق عكاظ): هو أهم أسواق العرب وأشهرها، كان يقع في شمال شرقي مدينة
الطائف، وهو يحمل أهمية تاريخية حيث كان العرب يجتمعون فيه للبيع والشراء،
ويستمعون إلى الشعراء والخطباء، وقد سجل التاريخ لسوق عكاظ دوراً أدبياً بارزاً في
الجاهلية وصدر السلم وعصر بني أمية، واستمر السوق إلى عام 129هـ وسمي بهذا الاسم
لأنّ العرب كانوا يتعاكظون فيه أي يتفاخرون ويتناشدون الشعر فيما بينهم. (ويكيبيديا)
يقول الشاعر/ أحمد الهيبة (بتصرف):
الشعر خير نتائج الأفكار *** لاسيّما في (الفخر) والتذكار
وتناشد الأشعار من أريابها *** وتدندن النغمات في المزمار.
ــ شاهد
على دور سوق عكاظ في الارتقاء الشعري:
يقول الشاعر/ حمد بن خليفة أبو شهاب:
لبّيك يا منقذ الفصحى من اللّدد *** ومنصف الشعر من دعوى بلا سند
ذكرتنا بعكاظ والفحول به *** صوالة بين منشاد ومنتقد
والنابغي على كرسيه حكم *** في محفل بأولي الألباب محتشد
سحر البيان على أفواههم نغم *** يزري صداه بسجع الطائر الغرد
فأين منا عكاظ في مواسمه *** والأعشيان ومن يغدو بمنجرد
وطرفة وابن كلثوم وعلقمة *** والنابغيان وابن الأبرص الأسدي
وما جرير ونداه إذ احتدمو *** في ساحة الشعر للفصحى ذوي حسد
لله در القوافي حين يتقنها *** خبيرها خلدت ذكراه في الأبد
لك التحية مقرون بها مقةٌ *** يحدو بهن ثناء القلب من حمد.
ــ
نماذج من أبيات الفخر والحماسة:
يقول الشاعر/ لسان
الدين بن الخطيب:
لَنَا فِي الْفَخْرِ أَسْنِمَةٌ مُطِلَّة *** تَقُومُ عَلَى دَعَاويهَا
الأَدِلَّهْ
وَمِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ بِكُلِّ نَادٍ *** ومن فضل الثناء بكل مله
وَلَمْ أَرَ مِثْلَنَا فِي الدَّهْرِ قَوْما *** رِيَاحَ الْجَوِّ تُلْحِفُ
بالأَجِلَّه
تَحُجُّ بُيُوتَنَا الْقُصَّادُ دَأباً *** فَلاَ تَنْفَكُّ طَائِفةً
مُهِلَّهْ
بِحَيْثُ الْبيضُ ضَامِنَةُ الْمَسَاعِي *** وَحَيْثُ السّمْرُ مُثْمِرَةٌ
مُغِلَّهْ
فَعِنْدَ السِّلْمِ مُحْرِمَةٌ عُكُوفٌ *** وَعِنْدَ الْحَرْبِ فَاتِكَةٌ
مُحِلَّهْ
فسَاجِلْنِي بِفَخْرِكَ فِي صَريحٍ *** فَكَمْ تَاجٍ هُنَاكَ وكَمْ
تَجلَّهْ.
يقول الشاعر/
هارون الرشيد:
ما الفَخْرُ
أَنِّي إِمامُ الناسِ كُلِّهِمُ *** فَخْري بِنَفْسي وآبائي من اللَّفَفِ
والعَقْلُ
والفَضْلُ في مَجْدي وفي نُطُقي *** وما تَكامَلَ في خُلْقي من الشَّرَفِ.
ويقول الشاعر/ عبد الغفار
الأخرس:
ولي الفخر
بأنِّي شاعر *** لأناس لبسوا التقوى شعارا
هم أقاموا
عَمَدَ الدِّين وهم *** أوضحوا في الحقِّ للخلق المنارا
أو لستَ الآن
من بعدهم *** قبساً من ذلك النور أنارا.
ــ
أخيرا وليس آخرا:
بعد أن تناولنا
مقدمة لهذه الحلقة العاشرة (مكانة القريض في الأدب
عند فطاحل العرب)، وأشرنا إلى معنى القريض، والفرق بين الجريض والقريض، والغرض
الأول من أغراض القريض (المدح)، وعرضنا بعض النماذج من أشعار المدح لقاء المال،
وشواهد شعرية تجافي وتهجو الشعر الذي يُباع ويُشترى، وعرجنا على الغرض الثاني من
القريض (الذم والهجاء)، وعرضنا ـ بعد التعريف به ـ بعض النماذج من أبيات الهجاء،
ثم قدمنا للغرض الثالث من القريض (الفخر والحماسة)، وأشرنا إلى سوق عكاظ ودوره في
إثراء الحركة الأدبية، وشاهد شعري للإشادة بهذا الدور، وعرضنا بعض
النماذج من شعر الفخر والحماسة، وفي الحلقات القادمة نستكمل باقي الأغراض الشعرية مع
تعريف بها وعرض بعض النماذج منها إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ