(5) الرسائل البلاغية في (أدب الوصايا) إعداد/ مجدي شلبي

الحلقة الخامسة في باب الأدب الشعبي

(5) الرسائل البلاغية في (أدب الوصايا)

إعداد/ مجدي شلبي (*)

مقدمة:

كنا قد استعرضنا في الحلقة السابقة نماذجا من الأدب الشعبي النثري، المتمثل في (أدب التوقيعات)، وما قمت به من مزاوجة بين هذا الفن التراثي وفن معاصر (القص)؛ منتجا فنا أدبيا جديدا أطلقت عليه (القصة الومضة)، ووعدناكم أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن (أدب الوصايا) باعتباره أحد فنون السرد التراثي، بغية الكشف عن جماليات هذا الفن، ومايحمله من رسائل وعظية إرشادية بصياغة أدبية بليغة.

ماهية أدب الوصايا:

(أدب الوصايا): هو لون من الأدب الشعبي المصطبغ بصبغة دينية؛ بغية تصحيح المفاهيم، وتقويم السلوك، والحث على مكارم الأخلاق، من خلال رسائل بليغة، تتنوع صورها وأشكالها بداية من وصايا الرسل لأتباعهم، مرورا بما أشرنا إليه من (توقيعات أدبية/ رسائل الساسة لخلفائهم وأعوانهم)، والحكماء للعامة، والعلماء لتلاميذهم، والآباء لأبنائهم؛ يقول الشاعر/ البوصيري:

يُوصي إلى الأُمَم الوصايا مِثْلَمَا *** يُوصِي الأَبُ الْبَرُّ الرَّحِيمُ سَليلا.

معنى (الإيصاء) لغة:

(الإيصاء): مصدر أوصى، والاسم (وصاية) أي: طلب شيء من غيره، أو أمره به، أو حثه عليه؛ ليفعله بعد غيابه أو بعد وفاته، و(الوصية): هي الاسم من أوصى يوصي إيصاء؛ يقول الشاعر/ البُرجُمي:

أوصيكَ إيصاءَ اِمرِئٍ لَكَ ناصِحٍ *** طَبِنٍ بِرَيبِ الدَهرِ غَيرِ مُغَفَّلِ

وَصِلِ المُواصِلَ ما صَفا لَكَ وُدُّهُ *** وَاِحذَر حِبالَ الخائِنِ المُتَبَدِّلِ

وَاِترُك مَحَلَّ السَوءِ لا تَحلُل بِهِ *** وَإِذا نَبا بِكَ مَنزِلٌ فَتَحَوَّلِ.

نماذج من وصايا الرسول:

ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوصاني ربي بسبع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وإن أعفو عمّن ظلمني، وأُعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون: صمتي فكراً، ونُطقي ذكراً، ونظري عِبَراً).

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يُعلِّم من يعمل بهن؟) فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله؛ فأخذ بيدي فعدّ خمساً فقال: (اتّق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبَّ للناس ما تُحبّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ مسلم من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف).

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء قلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإنّ لو تفتح عمل الشيطان).

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله وما هُنّ؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات).

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

ــ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).

من وصايا نبي الله سليمان بن داود لابنه:

ــ يابني! مَن عمل بالسوء فبنفسه بدأ.

ــ يا بني! إياك والنميمةَ؛ فإنها أحد من السيف.

ــ يابني! إذا نزعتك إلى صحبة الرجال حاجة فأصحب من إذا صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك بفضل مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن نزلت بك إحدى الملمات آساك.

من وصايا علي بن أبي طالب:

ــ "إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصادقة البخيل، فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه. وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه".

ــ "راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام".

ــ "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".

ومن وصاياه لابنه الحسين:

أَحُسَيْنُ إنِّيَ واعِظٌ وَمُؤَدِّبُ *** فَافْهَمْ فَأَنْتَ العَاقِلُ المُتَأَدِّبُ

أبنيَّ إن الرزق مكفول به *** فعليكَ بالاجمال فيما تطلب

كفلَ الاله برزق كل بريّة ٍ*** والمال عارية ٌ تجيء وتذهب

أبنيَ إن الذكرَ فيه مواعظٌ *** فَمَنِ الَّذِي بِعِظاتِهِ يَتأَدَّبُ

اقْرَأْ كِتَابَ اللِه جُهْدَكَ وَاتْلُهُ *** فيمَنْ يَقومُ بِهِ هناكَ ويَنْصِبُ

بَادِرْ هَوَاكَ إذا هَمَمْتَ بِصَالِحٍ *** خَوْفَ الغَوَالِبِ أنْ تَجيء وتُغْلَبُ

وإذا هَمَمْتَ بِسَيِّىء ٍ فاغْمُضْ لهُ *** وتجنب الأمر الذي يتجنب

واخفض جناحك للصديق وكن له *** كَأَبٍ على أولاده يَتَحَدَّبُ

وَالضَّيْفَ أَكْرِمْ ما اسْتَطَعْتَ جِوَارَهُ *** حَتّى يَعُدَّكَ وارِثا يَتَنَسَّبُ

وَاحْذَرْ ذَوِي المَلَقِ اللِّئَامَ فَإِنَّهُمْ *** في النائبات عليك ممن يخطب

يَسْعَوْنَ حَوْلَ المَرْءِ ما طَمِعُوا بِهِ *** وإذا نبا دهرٌ جفوا وتغيبوا

و لقد نصحتك إن قبلت نصيحتي *** والنُّصْحُ أَرْخَصُ ما يُبَاعُ وَيُوْهَبُ.

وصايا لقمان لابنه:

(1) الوصية الأولى: لا تشرك بالله. (2) الوصية الثانية: أحسن لوالديك. (3) الوصية الثالثة: أقم الصلاة. (4) الوصية الرابعة: عليك بالأمر بالمعروف. (5) الوصية الخامسة: عليك بالنهي عن المنكر. (6) الوصية السادسة: عليك بالصبر. (7) الوصية السابعة: لا تصغر خدك للناس. (8) الوصية الثامنة: لا تمشي في الأرض مرحا. (9) الوصية التاسعة: اقصد في مشيك. (10) الوصية العاشرة: أغضض من صوتك.

ــ لقد اجتمعت وصايا لقمان لابنه، في الآيات التاليات من سورة لقمان: (وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ (13) وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ (14) وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (15) يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ (16) يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ (18) وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ (19)).

ومن وصايا لقمان الحكيم أيضا:

ــ يا بني! لا تُرسلْ رسولك جاهلاً، فان لمتجد حكيمًا فكن رسولَ نفسك.

ــ يا بني! إياك والكذبَ؛ فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يقلي صاحبه.

ــ يا بني! إني حملت الحجارة، والحديد، وكل شيء ثقيل، فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء. وذقت المر، فلم أذق شيئًا هو أمر من الفقر.

ــ يا بني! إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها إيمان بالله، وشراعها التوكل على الله؛ لعلك تنجو، ولا أراك ناجيًا.

ــ يا بني! اتخذ طاعة الله تجارة ؛ تأتك الأرباح من غير بضاعة.

ــ إذا افتخر الناس بحسن كلامهم؛ فافتخر أنت بحسن صمتك.

ــ ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة: الشجاع في الحرب، والكريم في الحاجة، والحليم عند الغضب.

ــ يا بني! إنك لما سقطت من بطن أمك استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت لما استقبلت أقرب لما استدبرت.

ــ إيّاك والسؤال؛ فإنّه يذهب ماء الحياء من الوجه.

ــ لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.

ــ لا شيء أطيب من اللسان إذا طاب، ولا أخبث منه إذا خبث.

ــ الخير يطفئ الشر؛ كما يطفئ الماء النار.

ــ يا بني! إنه من يرحم يُرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يقل الخير يغنم، ومن يقل الباطل يأثم، ومن لا يملك لسانه يندم.

ــ إن من الكلام ما هو أشد من الحجر وأنفذ من وخز الإبر وأمر من الصبر وأحر من الجمر، وإن من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها.

ــ إن الله إذا أراد بقوم سوءًا سلط عليهم الجدل وقلة العمل.

ــ يا بني! لا تضحك من غير عجب، ولا تمشي في غير أدب، ولا تسأل عما لا يعنيك.

ــ يا بني! لئن أول شيء تكسبه بعد الإيمان بالله خليلاً صالحاً؛ فإنما مثل الخليل كمثل النخلة إن قعدت في ظلها أظلتك، وإن احتطبت من حطبها نفعتك، وإن أكلت من ثمرها وجدتها طيبة.

ــ يا بني! إذا كنت في الصلاة فاحفظ قلبك، وإن كنت على الطعام فاحفظ حلقك، وإن كنت في بيت الغير فاحفظ بصرك، وإن كنت بين الناس فاحفظ لسانك.

ــ يا بني! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تبارك وتعالى ليحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.

ــ إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة.

ــ للحاسد ثلاث علامات: يغتاب صاحبه إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة.

ــ اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك؛ فإنه لا بقاء للنعمة إذا كفرت، ولا زوال لها إذا شكرت.

من وصايا أم لابنتها عند الزواج:

ــ أوصت أم ابنتها بعشر خصال قبل الزواج فقالت لها: "كوني له أمَةً يكن لك عبداً، الخضوع له بالقناعة وحسن السمع والطاعة، لا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشمّ منك إلا أطيب ريح، التفقد لوقت منامه وطعامه وحفظ ماله ورعاية عياله، لا تعصين له أمراً ولا تُفشي له سراً، وإياك والفرح بين يديه إن كان مغتمّاً، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً".

من وصايا أب لابنه عند الزواج:

ــ أوصى أب ابنه قبل الزواج؛ فقال له: "اعلم بني أنك ستأخذ هذه الفتاة من بين أهلها؛ فكن أنت أهلا لها، ولا تحرمها ودهم، ولا تحرمهم ودها، واعلم أنكما في الحياة الزوجية شريكان؛ فلا تتعامل مع شريكتك باستعلاء وطغيان، كن لطيفا معها تكن معك ألطف، وكن حريصا على مشاعرها؛ تكن على مشاعرك أحرص، وازرع الود؛ تجني الحب".

أخيرا وليس آخرا:

هكذا عرضنا هنا ما وعدنا به حول (أدب الوصايا)، ونماذج مختارة منها، ودالة على بلاغتها وإبلاغها، وأعدكم في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ أن نتناول فنا أدبيا آخر من فنون النثر التراثي المتمثل في (أدب الرسائل)، وبالله التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر