قراءة في رواية (أوراقي ورماد سجائري) للكاتب العراقي أ/ نهاد عبد جودة ــ بقلم/ مجدي شلبي

 قراءة في رواية (أوراقي ورماد سجائري)

للكاتب العراقي أ/ نهاد عبد جودة

بقلم/ مجدي شلبي (*)

إن مقدمة هذه (الرواية) هي أول ما يلفت النظر إليها، ويوفر انطباعاً أولياً عنها، ويحفز القارئ لمتابعة القراءة فيها، ولقد صرح الكاتب بالدافع وراء كتابتها؛ فقال: "طغت عليَّ فكرة تدوين مذكراتي"، "بسلبياتها وإيجابياتها."؛ وهو بهذا يوضح بجلاء أن روايته (رواية سيرية) أي رواية لسيرته الذاتية، ولكون العمل الروائي يتميز عن الكتابة التوثيقية للمذكرات بـ(الخيال)؛ فإن المزاوجة بين هذا وذاك، ينقلنا إلى عالم إبداعي أكثر رحابة ودراماتيكية، وذلك من خلال تغيير الأسماء والمواقع، وتضخيم أحداث من حياة المؤلف، وتغييرها على نحو يحقق أكبر قدر من التشويق والإثارة الفنية، بغية التفاعل الإنساني مع (الكاتب نفسه) الذي يستتر خلف شخصية بطل العمل.

وغير خاف على أحد أن (الرواية السيرية) لها تاريخ عريق في الأدب الغربي، ونذكر منها على سبيل المثال: لافنغرو لجورج بورو (1851)، والطفولة لليو تولستوي (1852)، وأيام مدرسة توم براون لتوماس هيوز (1857)...

ولقد أبدع الكاتب نهاد عبد جودة في روايته السيرية هذه، والتي أورد مقدمتها على نحو حواري افتراضي مشوق بينه وبين قلمه، أو بالمعنى الحقيقي (بينه وبين نفسه)، وهو الحوار الذي أحاله للسؤال الصعب: "ماذا أكتب؟"، فإذا ما وجد إجابة على هذا السؤال؛ تزاحمت الذكريات، وطفقت تتنافس بمواقفها وأحداثها، التي تركت آثارا نفسية عميقة، رغبة في البوح بها، والكتابة عنها، للتنفيس من خلالها عن حشد الانفعالات والأحاسيس، بغية إحداث حالة من الارتياح النفسي، والترابط والثقة بين الكاتب وقرائه، ومن هنا برز السؤال الأصعب: "بأيها أبدأ الكتابة؟".

لقد أجاب الكاتب على هذا السؤال؛ فبسط أوراقه أمامه، واستل قلمه، وشرع يخط بداية سرده الروائي على نحو جذاب وقوي؛ مستحوذا على اهتمام قارئه بشكل عام، وعلى اهتمامي بشكل خاص، ولعل اسم رفيق ذكرياته وصديق طفولته، الذي عنون به تلك البداية (كريم) هو ما شجعني على المتابعة بشغف؛ إذ هو أيضًا (اسم ابني الأكبر)، الذي ربما تتوافق بعض صفاته مع صفات صديق كاتبنا أيضا!.

ولكون الرواية حفلت بأحداث الظلم والقهر ومشاهد الموت؛ فقد رأيت أن عنوانها: أوراقي و(رماد سجائري) هو إما أن يكون تعبيرا انزياحيا لشعب يئن و(وطن يحترق)، وإما أن يكون تعبيرا رمزيا لعمر يمضي مخلفا (رماد الذكريات)، ومن ثم لم تكن مفاجأة أن تشير تلك البداية إلى حقيقة الموت التدريجي (مجازيا)، نتيجة وفاة من نحب واحدا بعد الآخر؛ فالموت ليس بالضرورة أن نلفظ أنفاسنا وتتوقف قلوبنا عن النبض، وتتوقف أجسادنا عن الحركة، ولكن "حالات فقد أعز الناس الذين شغلوا مساحة شاسعة في حياتنا" تشعرنا بموت جزء منا، وكأننا "سنموت على دفعات"، ثم هاهو يستعيد ما كان من ذكريات العلاقة الطيبة بينه، وبين صديقه (كريم) تلك العلاقة التي وصفها بقوله: "تشدنا به روابط عصية على كل الخلافات"، اتساقا مع مقولة صمويل مورس (من يتجاهل أخطاءك ليس مغفلا، هو فقط لا يريد خسارتك).

ويستطرد في وصف ما كان من صديقه من مواقف وأحداث وصولا لعلاقته العاطفية بفتاة غرق في حبها، ولم يصدق ما قيل عنها، حتى شاهدها بأم عينه، "مع شاب وسيم في وضع مخجل"، حينئذ ـ فقط ـ صدمته خيانتها، وأجاد الكاتب في وصف الصورة التي أضحى عليها ـ عقب تلك الصدمة ـ وصفا بليغا؛ فقال: "لقد تهاوى كبيت من القش أمام زوبعة إعصار غاضب". وبهذا أنهى الفصل الأول من الرواية. والمدهش أنه لم يذكر اسم تلك (الخائنة)، وهو بهذا ينعتها بالوصف المصري الشائع (اللي ماتتسماش): أي التي لا تستحق أن يذكر اسمها؛ تحقيرا لها واستنكارا لأفعالها...

ويستمر سرد الأحداث من نهاية الفصل الأول، وختام قصة حب (كريم) مع تلك (الخائنة)؛ وصولا إلى الفصل الثاني (وفاء) وهو عنوان مقصود به الإشارة إلى التضاد في الصفات بين هذه وتلك، وقد أجاد الكاتب في استخدامه لتلك المفارقة، التي هي لون من ألوان البلاغة، التي تعطي للعمل الأدبي قيمة جمالية مدهشة وغير متوقعة.

(وفاء): زميلته في الدراسة، وهي الشقراء التي وقع في حبها من النظرة الأولى، متمنيا أن يضمد هذا الحب الجديد جراح حبه السابق، وأن تملأ فراغا عاطفيا تركته (ليلى/ حبه الأول) وأن تصبح بديلا عنها، رغم تأكيده على عدم تحبيذه لفكرة البدائل أو أنصاف الحلول!.

وقد أبدع في وصفه حين قال: "لغة العيون لغة شاملة لا تحتاج إلى توثيق أو ترجمة، لأنها تغني عن مجلدات من الكلام"، ومن لغة العيون إلى لغة الكلام؛ فيصف صوتها بقوله: "صوتها الساحر كأنه رنة قيثار أو تغريدة بلبل".

وما كاد يشعر أنها تبادله الشعور بالحب؛ حتى فكر في خطوة جريئة تضع النقاط على الحروف، واصفا شعوره هذا بقوله: "بدأ هذا الشعور ينفخ في رأسي بالون الأحلام الوردية...".

واتساقا مع حالات الحب التي تتأرجح بين لقاء مبهج وفراق محزن؛ تم نقله من الشعبة الدراسية التي تجمعه بها إلى شعبة أخرى؛ فيصف حالته الحزينة التي أعقبت إبعاده عنها بقوله: "خرجت من الصف أحمل كتبي بخطوات مرتبكة تعري حيرتي، وكأنني أشيع عزيزا خطفه الموت، تلاشت أمنياتي وأصبحت في حتمية الزوال".

ثم يعود أمل اللقاء يراوده، والبهجة تملأ قلبه؛ عندما تسلم منها رسالة غرامية، تعبر فيها عن حبها له وتعده فيها: "سنلتقي بعد سنتين في الصف الرابع الإعدادي"!.

ثم يعود بندول الحب إلى التأرجح نحو الفراق مرة أخرى ـ وليست أخيرة ـ حيث تغادر الحبيبة المدينة برفقة والدها إلى مدينة أخرى دون وداع.

وبهذا المشهد ينهي هذا الفصل؛ بعبارة: "الحب شعور ينعش النفس ويملأ القلب بهجة، ليس بأيدينا أن نحدد بداياته أو رسم نهاياته كيفما نريد".

فماذا عن (مراد) الذي بدأ به الفصل الثالث؟:

مراد هو الآخر زميل له في الدراسة زاره؛ فوجده في حالة يرثى لها، بسبب وقوعه في غرام إحدى الطالبات، وهي ابنة رجل ثري، وهو الفقير فقرا مدقعا، ولكون تقاليد المجتمع تحول بينه وبين التعبير عن حبه لها؛ فقد تعرض لاتهام تشويه سمعة فتاة، وحُكم عليه بالسجن عدة أشهر بـ(تهمة الحب)!.

وقد أورد الكاتب بعض عبارات النصح المباشرة التي وجهها لصديقه، والمقصود بها تقرير المعنى في ذهن القراء أنفسهم. وقبل أن ينهي الكاتب هذا الفصل تناول قصة حب أخرى لزميله (محمد) الذي عبر عن حبه لأستاذته، وكأنه أراد أن يكمل بتلك القصة: ثلاثية قصص الحب المستحيل!، والتي عبر فيها عن ذكريات عاطفية، انتهت جميعها بالخذلان: (الأولى كانت بسبب خداع خائنة) و(الثانية بسبب ظروف قدرية حائلة) و(الثالثة بسبب ظروف اجتماعية ظالمة)... ولكون الرواية تؤرخ لزمن الحرب ـ كما هو واضح من الفصول التالية ـ فيمكننا أن نضع عنوانا افتراضيا شاملا وممهدا لها ـ رغم بُعد الفاصل الزمني بين هذه وتلك ـ لإحداث الاتساق من خلال التأكيد على حقيقة العلاقة الأزلية بين (الحب والحرب)، ووجود مساحة للحب، حتى في ظل أهوال الحروب.

وقد وفق الكاتب أيما توفيق في ترتيب فصول روايته؛ فجاء الفصل الرابع بعنوان (الامتحان)، فصلا ممهدا للانتقال من ذكريات عاطفية قصيرة تهم الشخص ذاته أو بعض أصدقائه، إلى ذكريات عامة تهم المجتمع كله، والإنسانية جمعاء.    

ولأن الحروب بقسوتها وآلامها؛ تعتبر مصدر إلهام للكتاب، خصوصا الذين عاشوا أحداثها، وتأثروا بها، واكتووا بنارها؛ فقد رأينا كاتبنا يوثق للحرب وتبعاتها المأساوية، من دمار مادي ونفسي وجسدي، من خلال الفصول التالية، وهو مايجعلنا نصنف هذا العمل الروائي ضمن الأعمال الروائية في (أدب الحرب)، جنبا إلى جنب مع الروايات العالمية، ومن أشهرها: رواية (وصية الشباب) للكاتبة الانجليزية فيرا بريتن (1893/ 1970)، وهي الرواية الأقرب لهذه الرواية التي بين أيدينا؛ فكلتا الروايتين يرويها شاهد عيان على أحداثها، وفي الحالتين صيغت صياغة سيرية (مذكرات شخصية)، وانبنت بدرجات متفاوتة على علاقة عاطفية، والأكثر إدهاشا أن المؤلفة هناك كانت ممرضة في كتيبة الإغاثة الطوعية، والمؤلف هنا كان ضمن الفريق الطبي في أحد المستشفيات العسكرية. 

وقد أتى الفصل الخامس الذي عنونه بـ(الجيش) موثقا فيه لبعض نتائج الحرب، وهو يتولى ـ ضمن مهام عديدة ـ مهمة حمل جثث الضحايا من الشهداء ـ والذين كان من بينهم أصدقاء وأقارب ـ وإيداعهم في ثلاجات الموتى داخل المشفى العسكري. وأرى أن لسان حالهم يكاد ينطق بقول الشاعر/ عبد الوهاب لاتينوس: جثامين رفاق تبكي بشجن *** تتمنى لو لم تدخل الحرب.

ومن هذا الفصل الذي يثير المشاعر ويدمي الجوارح؛ إلى فصل آخر بعنوان سادس (الانتداب): وهو انتداب من تلك المعاناة التي عاشها خلال فترة عمله داخل المستشفى العسكري، التي امتدت لثلاث سنوات، إلى العمل في المستشفيات المدنية، حيث تجمعه الصدفة بحبيبته (وفاء) التي جاءت لإجراء فحوصات طبية، ويبلغها أنه تزوج، وتبلغه أنها تزوجت، وتخبره أنه من غير اللائق أن تتحدث المرأة عن حب قديم وهي على ذمة رجل آخر؛ فيقول لها: "أنت جوهرة ورمز الطهر والشرف، أتمنى لك حياة سعيدة، رافقتك السلامة" ومن هنا يظهر اختياره الموفق لاسم (وفاء).

لقد أيدها في رأيها، وأبدى إعجابه بقرارها، وودعها وودع حبها؛ فماذا عن الممرض صباح الذي استمسك بحب فاشل استمساكا أودى به إلى الجنون؟.

يجيبنا على هذا السؤال الفصل السابع بعنوان (إعدام مجنون):

(الممرض صباح) رفض والد حبيبته زواجه منها، وزوجها لرجل آخر؛ ففقد عقله وهام على وجهه، وقد استخدم الكاتب تلك الحكاية للربط بين الفصل السابق وبين هذا الفصل، وبذكاء شديد اتخذه تكئة للحديث عن مدى القهر والظلم، الذي عانى منه كل من عَبَّرَ عن رأيه المختلف، أو قام بفعل مخالف، حتى لو كان الفاعل مجنونا، وقد استخدم هذا العنوان الساخر (إعدام مجنون) ليشير إلى أن من أعدموه؛ هم أكثر منه فقدانا للعقل والحكمة والرحمة أيضا.

ويستمر اتساق الأحداث وتتابعها؛ وصولا إلى مأساة (جبار) ـ بطل الفصل الثامن ـ  الذي تجاوز الظلم ضده مداه، والقهر مبتغاه؛ فَحُكِمَ عليه بالسجن لسنوات، لاتهامه بالتقصير في عمله، رغم أنهم هم الذين شغلوه عنه، ومنعوه من أدائه، ولم يملك الفرصة للدفاع عن نفسه؛ فصاح وهو مكبل اليدين، ومساق قسرا إلى تنفيذ الحكم الجائر: "إذا فُقد العدل في مكان؛ سيصبح هذا المكان كالغابة تجول فيها الوحوش الكاسرة حينها لم يبق مكان للضعفاء...".

وهنا يحضرني قول الشاعر/ أبو الفتح البستي:

عليكَ بالعَدلِ إنْ وُلِّيتَ مملكَةً *** واحذَر مِنَ الجَورِ فيها غايَةَ الحَذَرِ

فالعدلُ يُبقيهِ أنَّى احتَلَّ من بَلَدٍ *** والجَورُ يَفنيهِ في بَدْوٍ وفي حَضَرِ.

ومن الظلم والقهر إلى الحرب والرعب؛ حيث يصف تلك الحالة من خلال فصول ثلاثة، هي على التوالي: (جبهات القتال) التي يقول عنها: "كلمة الجبهة كانت تكفي أن أقيم مراثي نهايتي سلفا"، و(بوابة الجحيم) التي لخصت حالة الفزع والرعب، التي كانوا عليها بسبب وجود ثلاث عجلات معبأة بالقنابل الخاصة بمدافع الهاون، والتي ستزحف في جنح الليل للمواقع الأمامية، ومن ثم فإن استهداف واحدة منها سيحدث كارثة مروعة؛ فيقول: "كنا نرقب الليل الطويل آملين في بصيص من أمل خجول يولد من رحم اليأس". وفصل (الهجوم) الذي جاءت فيه العبارات التالية: "احترقت الأرض تحت أقدامنا من لهيب القذائف بكل أنواعها، جعلت السماء كتلة حمراء وسحب الدخان ملأت الوادي وانعدمت الروية لدينا، أصبحنا لا نرى إلا وميض الشظايا المتطايرة."، "العربات العائدة محملة بالجثث الملقاة بعضها فوق بعض كالأسماك الميتة والدماء تقطر على جوانبها، أما الأحياء؛ كان معظمهم جرحى."، "لن أنسى نظرات المقاتلين الذين مروا بالقرب منا؛ كانت عيونهم جامدة وخائفة من مصير أسود ينتظرهم خلف التلال الموحشة".

ثم يأتي الفصل الثاني عشر، الذي تحدث فيه عن إصابة عينه اليسرى بشظية، وعن رحلته للعلاج من تلك الإصابة، وما اكتنفها من حادثة سير أخرى كادت تودي بحياته، وصولا إلى نقله إلى اللجنة الطبية بالكلية العسكرية الثانية، التي بقي فيها حتى عام 1988، ثم بعد انتهاء الحرب تسلم أمر تعيينه في مدينة كركوك وبدأت مرحلة جديدة، رأى أنها تتسق مع ما دار في ذهنه من أبيات شعر للإمام الشافعي:

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعًا وعند الله منها مخرجُ

ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتُها *** فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ.

نعم هي فُرجت، وفرح الجميع بانتهاء الحرب، ولكن الكاتب أشار في الفصل الثالث عشر المعنون بـ (الحصار) ما يتطابق مع المثل الشائع (فرحة ما تمت، أخذها الغراب ـ أو بالأحرى الحصار ـ وطار)؛ فأورد الكاتب عبارات تقريرية، منها: "لم تدم فرحتنا طويلا بعد انتهاء الحرب، لقد أقدم النظام على احتلال الكويت، وجرى ما جرى من حرب ضروس مع قوات التحالف الدولي المؤلف من ثلاثة وثلاثين دولة لتحرير الكويت، تكبد خلالها العراق خسائر فادحة في بالأرواح والأموال، تلاها حصار جائر وكثير من المآسي التي أزهقت أرواح الناس، إذا لم يكن بسبب الحروب؛ فبالجوع والأمراض، الإعدامات كانت بالجملة وبأسباب مختلفة، المقابر الجماعية ابتلعت الآلاف من الأبرياء بسبب بلاغات كيدية، ظروف قاسية مر بها شعب العراق: خوف وجوع ومصير مجهول يتربص بالجميع".

ثم جاء السرد ـ بعد تلك المقدمة التقريرية ـ معبرا عن حجم المعاناة التي عاشها الشعب بسبب (الحصار) الجائر؛ على نحو دالٍ ومغنٍ وكافٍ ووافٍ.

وطبقا لتسلسل الأحداث جاء الفصل الرابع عشر بعنوان (التغيير)؛ مشيرا فيه لما قامت به قوات التحالف من احتلال للعراق وتغيير النظام، وقد سادت روح التفاؤل، وورد على لسان (سعيد) بأن: "الأحاديث كانت مفعمة بالأمل ونشوة الرضا وطمأنينة الحاضر، الأمريكان هم الضمانة لحماية المكتسبات بعد تغيير النظام"، "هكذا كان يقول وهو يرفل بالأمل، لكن هذه المكتسبات والضمانات بقيت غير مدونة على سجلات الواقع، مجرد أمنيات تلوكها ألسن الجياع والنائمين على حرير الوهم."، "مصالح الدول العظمى لا تتغير وإن كانت تأتي بثياب زاهية ومصافحة أيادٍ ناعمة وألسن تجيد اللطف، وإن تطلب الأمر تسحق جماجم الدول المتمردة عندما تقف أمام تلك المصالح"، "اجعلوا ثقتكم بأبناء شعبكم، هم يحققون أمنياتكم عندما يستلمون إدارة البلد وليس الغرباء، الغرباء يؤسسون لكراهية مقيتة بإثارة النعرات الطائفية، التي تبقى تحصد أجسادكم وتذيقكم المرارة للأبد". هكذا قال شيخ كبير السن، ويستطرد الكاتب معلقا أو فلنقل مستنكرا أو ساخرا: "لو كان ذلك الشيخ على قيد الحياة هل يبقى مناصرا لأفكاره، وهل تبقى ثقته عالية بأبناء جلدته؟.

ويسلم الإجابة الافتراضية إلى الفصل الأخير، الذي يمثل إشارة إلى التغيير السلبي في السلوك والأخلاق، والقيم والمُثل والمبادئ؛ مستشهدا بما قام به صديقه (مراد) الذي انقلبت أحواله من الضد إلى الضد، من مظلوم ينشد العدل، إلى قاض يبغي ويظلم؛ فيترك له (مهند) رسالة دون توقيع، يقول له فيها: "أنت لست (مراد) الذي أعرفه، أصبحت شخصا آخر، لقد تغيرت تماما وقد أحزنني ذلك، لن أخبرك من أنا، ولكن أقول لك بكل أسف لا يا صديقي".

وهي رسالة عتاب مفتوحة على كل السلوكيات المعيبة، والأخلاقيات الشائنة، والأقوال الزائفة، والأفعال المتطرفة أيا ماكان مصدرها.

وفي ختام قراءتي المتواضعة في هذه الرواية الرائعة، أود التأكيد على حقيقة أنها ستكون وثيقة تاريخية للأجيال القادمة؛ تحكي لهم عن ويلات الحروب، التي خاض غمارها الآباء والأجداد، وما تعرضوا له ـ قبلها، وخلالها، وعقبها أيضا ـ من مآس وأهوال تشيب لها الولدان، ومن ثم فهذه (الرواية) تحمل في طياتها دعوة للإخاء والمحبة والسلام، وتلك لعمري قيمة كبيرة لا يستهان بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر