(3) جماليات (المقامة) وكيفية الاستفادة منها
إعداد/ مجدي شلبي
(*)
مقدمة:
كنا قد استعرضنا
في الحلقة السابقة نماذجا من الأدب الشعبي النثري، المتمثل في (الأدب النثري عند
قدماء المصريين والأدب النثري في حكايات كليلة ودمنه وحكايات ألف ليلة وليله
وحكايات جحا)، ووعدناكم أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن (المقامة) باعتبارها أحد فنون
السرد التراثي، بغية الكشف عن جماليات هذا الفن، وكيفية الاستفادة منه في الفنون
الأدبية المعاصرة.
ـ تعريف (أدب
المقامة):
(المقامة): هي أحد
فنون النثر، الذي يتميز بعناصر أساسية ثلاث (الحكي القصصي المشوق والأسلوب الساخر
والسجع)، ورغم أن هذا الفن الأدبي ظهر قد نشأ في نهاية القرن الثالث وبداية القرن
الرابع الهجريّين، على يد ابن دريد (223هـ/ 837م : 321هـ/ 933م)؛ إلا أن بديع
الزمان الهمذاني (358 هـ/ 969 م : 398 هـ/ 1007 م) هو أول من أصله ووضع أسسا له،
وحدد معالمه وكتب فيه، وفتح بابه واسعاً ليلجه أدباء كثيرون أتوا بعده، فاقتدوا به،
وساروا على نهجه، وقد كان كتابه (مقامات بديع الزمان الهمذاني) هو أول كتاب في أدب
المقامات؛ ثم أتت (مَقَامَات الْحَرِيرِيِ) التي ألفها محمد الحريري البصري (446هـ/
1054م : 6 رجب 516 هـ/ 11 سبتمبر 1122م) على غرارها لتصبح من أشهر المقامات التي
سجلها التاريخ في هذا الفن الأدبي.
ـ لماذا أطلق على
(المقامة) هذا الاسم؟:
لقد أطلق عليها
هذا الاسم؛ لكون كلمة (مقامة) تعني: (المجلس الذي يجلس الناس فيه)، ومن ثم فإن التعريف
الأدبي لها: أنها حكاية يتم سرد أحداثها في جلسة واحدة، رغم طولها وكثرة أحداثها،
التي يكون بطلها رجل وهمي، مغامر وفصيح ويحسن التصرف، ويتخلص بدهاء من المآزق التي
يتعرض لها، فيتحقق في الحكاية عنصر التشويق والإثارة، إضافة لما تتسم به شخصية
البطل من خفة وطرافة، تعبر عن روح فكاهية تبعث على البهجة والانشراح، كما ترتكز
المقامات الأدبية على أساليب بلاغية من جناس وطباق و(سجع)، وهو مايمنح النص موسيقى
تروق للأسماع وتمتع الأفئدة، وتعبر عن الملكة البلاغية للمؤلف.
الهدف السامي من
المقامة:
ولأن (المقامة)
أدبا؛ فهي تعمل على تنشيط الخيال، وتحث على حسن الخلق، وتهذيب النفس من خلال الحكم
والمواعظ المستخلصة منها، فضلا عن أنها درس عملي لاستعراض القدرات اللغوية، والفنون
البيانية، والحكي المشوق.
شخصية البطل
والرواي في المقامة:
يعتمد كاتب
المقامات بطلا واحدا تدور جميع حكايات مقاماته حوله: (أبو الفتح الإسكندري) عند
الهمذاني، و(الحارث بن همام البصري) عند الحريري، وتعتمد على راو معين لسرد الأحداث:
(عيسى بن هشام) عند الهمذاني، و(أبو زيد السروجي) عند الحريري، وهذه الأسماء
جميعها خيالية.
(أولا) من مقامات بديع الزمان الهمذاني (أنموذجان)
1ـ المقامة
القردية:
حَدَّثنَا عِيسَى
بْنُ هِشَامٍ قَالَ: بَيْنَا أَنا بِمَديِنَةِ السَّلامِ، قَافِلاً مِنَ البَلَدِ
الحرَامِ، أَمِيسُ مَيْسَ الرِّجْلَةِ، على شاطئِ الدِّجْلَةِ، أَتَأَمَّلُ تِلْكَ
الطَّرَائِفَ، وَأَتَقَصَّى تِلْكَ الزَّخَارِفَ، إِذْ انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةِ
رِجَالٍ مُزْدَحِمِينَ يَلْوي الطَّرَبُ أَعْنَاقَهُمْ، وَيَشَّقُ الضَحِكُ
أَشْداقَهُمْ، فَسَاقَنِي الحِرصُ إِلى مَا ساقَهُمْ، حَتَّى وَقَفْتُ بِمَسْمَعِ
صَوتِ رَجُلٍ دُونَ مَرأَيَ وَجْهِهِ لِشِدَّةِ الهَجْمَةِ وَفَرْطِ الزَّحْمَةِ،
فَإِذَا هُوَ قَرَّادٌ يُرْقِصُ قِرْدَهُ، وَيُضْحِكُ مَنْ عِنْدَهُ، فَرقَصْتُ
رَقْصَ المُحَرَّجِ، وَسِرتُ سَيْرَ الأَعْرَجِ، فَوْقَ رِقَابِ النَّاسِ
يَلْفِظُنِي عَاتِقُ هَذا لِسُرَّةِ ذَاكَ، حَتَّى افْتَرَشْتُ لِحَيَةَ
رَجُلَيْنِ، وَقَعَدْتُ بَعْدَ الايْنَ، وَقَدْ أَشْرَقَنِي الخَجَلُ بَرِيقهِ،
وَأَرْهَقَنِي المَكانُ بِضِيِقِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ القَّرادُ مِن شُغْلِهِ،
وانْتَفَضَ المَجْلِسُ عَنْ أَهْلِهِ، قُمْتُ وَقَدْ كَسَانِي الدَّهَشُ
حُلَّتَهُ، وَوَقَفْتُ لأَرَى صُورَتَهُ، فَإِذا هُو واللهِ أَبو الفَتْحِ
الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلتُ: مَا هَذِهِ الدَّنَاءَةُ وَيْحَكَ، فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
الـذَّنْـبُ
لِـلأَيَام لاَ لِــي *** فَاعْتِبْ عَلَي صَرْفِ اللَّيالِي
بِالحْمْقِ
أَدْرَكْتُ الـمُـنَـى *** وَرَفَلْتُ فَي حُلَلِ الجَمَـالِ.
2ـ المقامة
السجستانية:
حَدَثَنَا عِيسَى
بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدا بِي إِلى سِجِسْتَانَ أَرَبٌ، فَاقْتَعَدْتُ طِيَتَّهُ،
وَامْتَطَيْتُ مَطِيَّتَهُ، وَاسْتَخَرْتُ الله فِي العَزْمِ جَعَلْتُهُ أَمَامِي،
وَالْحَزْمِ جَعَلْتُهُ إِمَامِي حَتَّى هَدَانِي إِلَيْهَا، فَوَافَيْتُ
دُرُوبَهَا وَقَدْ وَافَتِ الشَّمْسُ غُرُوبَهَا، وَاتَّفَقَ المَبِيتُ حَيْثُ
انْتَهَيْتُ، فَلَمَّا انْتُضيَ نَصْلُ الصَّبَاحِ، وَبَرَزَ جَيْشُ الْمِصْبَاحِ،
مَضَيْتُ إِلى السُّوقِ أَخْتَارُ مَنْزِلاً، فَحِينَ انْتَهَيْتُ مِنْ دَائِرَةُ
الْبَلَدِ إِلَى نُقْطَتِهَا، وَمِنْ قِلادَةِ السُّوقِ إِلى وَاسِطَتِهَا، خَرَقَ
سَمْعِي صَوْتٌ لَهُ مِنْ كُلِّ عِرْقٍ مَعْنىً، فَانْتَحَيْتُ وَفْدَهُ حَتَّى
وَقَفْتُ عِنْدَهُ، فَإذَا رَجُلٌ عَلى فَرَسِهِ، مُختَنِقٌ بِنَفسِهِ، قَدْ
ولاَّنِي قَذَالَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ عَرَفَني فَقَدْ عَرَفَني، وَمَنْ لَمْ
يَعْرِفني فأَنا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسي: أَنَا با كُورَةُ اليَمَنِ وَأُحْدُوثةُ
الزَّمَنِ أَنَا أُدْعِيَّةُ الرِّجالِ، وَأُحْجيَّةُ رَبَّاتِ الحِجالِ، سَلُوا
عنِّي البِلادَ وَحُصُونَها، وَالجِبالَ وَحُزُونَها، وَالأوْدية وَبُطُونَها،
وَالبِحارَ وَعُيُونَهَا، والخيلَ وَمُتُونَها، مَنِ الذَّي مَلَكَ أَسْوَارَها،
وَعَرَفَ أَسْرَارَهَا، وَنَهَجَ سَمْتَها، وَوَلَجَ حَرَّتَهَا؟ سَلُوا المُلوكَ
وَخَزَائِنَها، وَالأَغْلاقَ وَمَعادِنَها، وَالأُمُورَ وَبَوَاطِنَها،
وَالعُلُومَ وَمَوَاطِنها، وَالخُطُوبَ وَمَغالِقَهَا، وَالحُروبَ وَمَضَايِقَهَا،
مَنِ الذَّي أَخَذَ مُخْتَزَنَها، وَلَمْ يُؤَدِّ ثَمَنَهَا؟ وَمَنِ الذَّي مَلَكَ
مَفَاتِحَها، وَعَرَفَ مَصَالِحَها؟ أَنَا وَاللهِ فَعَلْتُ ذلِكَ، وَسَفَرْتُ
بَيْن المُلُوكِ الصِّيدِ، وَكَشْفُت أَسْتَارَ الخُطُوبِ السُّودِ، أَنَا وَاللهِ
شَهِدْتُ حَتّى مَصارِعَ العُشَّاقِ، وَمَرِضْتُ حَتَّى لِمَرَضِ الأَحْدَاقِ،
وَهَصَرْتُ الغُصُونَ النَّاعِماتِ، وَأَجْتَنَيْتُ وَرْدَ الْخُدُودِ
الْمُوَرَّداتِ، وَنَفَرْتُ مَعَ ذَلِكَ عَنْ الدُّنْيَا نُفُورَ طَبْعِ
الْكَرِيمِ عَنْ وُجُوهِ اللِّئَامِ، وَنَبَوتُ عَنْ الْمُخْزِياتِ نُبُوَ
السَّمْعِ الشَّريفِ عَنْ شَنْيعِ الْكَلامِ وَالآنَ لَمَّا أَسْفَرَ صُبْحُ
الْمَشِيبِ، وَعَلَتْنِي أُبَهةُ الْكِبَرِ، عَمَدْتُ لإِصْلاحِ أَمْرِ
الْمَعَادِ، بإِعْدَادِ الزَّادِ، فَلَمْ أَرَ طَرِيقاً أَهْدَى إِلى الرَّشَادِ
مِمَّا أَنْا سَالِكُهُ، يَرَانِي أَحَدُكُمْ رَاكِبَ فَرَسٍ، نَاثِرَ هَوَسٍ،
يَقُولُ: هذاَ أَبُو الْعَجَبِ، لاَ وَلَكِّنِيَ أَبُو الْعَجَاِئبِ، عَايَنْتُهَا
وَعَانَيْتُهَا، وَأُمُّ الْكَبَائِرِ قَايَسْتُهَا وَقَاسَيْتُهَا، وَأَخُو
الاْغْلاَقِ: صَعْباً وَجَدْتُهَا، وَهَوْناً أَضَعْتُهَا، وَغَالِياً
اشْتَرَيْتُهَا، وَرَخِيصاً ابْتَعْتُهَا، فَقَدْ واللهِ صَحِبْت لهَا
الْمَواكِبَ، وَزَاحَمْتُ الْمَنَاكِبَ، وَرَعَيْتُ الْكَواكِبَ، وأَنْضَيْتَ
الْمَراكِبَ، دُفِعْتُ إِلى مَكَارِهَ نَذَرْتُ مَعَهَا أَلاَّ أَدَّخِرَ عَنِ
المُسْلِمِينَ مَنَافِعَهَا، وَلاَ بُدَّ لِي أَنْ أَخْلَعَ رِبْقَةَ هَذِهِ
الأَمَانَة مِنْ عُنُقِي إِلَى أَعْنَاِقكُمْ، وَأَعْرِضَ دَوائِي هَذا فِي
أَسْوَاقِكُمْ، فَلْيَشْتَرِ مِنِّي مَنْ لاَ يَتَقَزُّزُ مِنْ مَوْقِفِ
الْعَبِيدِ، ولاَ يَأَنَفُ مِنْ كَلِمَةِ الْتَّوحِيدِ، وَلْيَصُنْهُ مَنْ
أَنْجَبَتْ جُدُودُهُ، وَسَقَى بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ عُوُدُهُ.
قَالَ عِيسَى بْنُ
هِشَامٍ: فَدُرْتُ إِلَى وَجْهِهِ لأَعْلَمَ عِلْمَه فَإِذَا هُوَ وَاللهِ
شَيْخُنَا أَبْو الْفتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، وَانْتَظَرْتُ إَجْفَالَ
النَّعَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَعَرَّضْتُ فَقُلْتُ: كَمْ يُحِلُّ
دَوَاءَكَ هَذَا؟ فَقَالَ: يُحِلُّ الْكِيسُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكْتُهُ
وَانْصَرَفْتُ.
ـ النقد الاجتماعي
في المقامات:
والمطالع لمقامات (الهمذاني
والحريري) يجدها تحمل في طياتها نقدا ساخرا ولاذعا لمظاهر الحياة الاجتماعية في
زمان مؤلفها، والتي كان أبرزها التسول والتحايل وغيرها من وسائل التكسب، والمدهش
أنهما كانا يلقيانها في حضرة أهل الملك
لاستعرض أدبهم الرفيع؛ للحصول على عطاياهم!.
(ثانيا) المقامة العربية الحديثة (اليازجي أنموذجا)
ـ تعريف بمقامات
اليازجي:
تتكوّن مقامات ناصيف
اليازجي (25 مارس 1800 : 8 فبراير 1871) من ستين مقامة، يبدأها بمقامة البدوية، وينهيها
بالمقدسية، وقد جمعها في كتاب (مجمع البحرين) الذي ذكر في مقدمته: أنه جمع فيه ما استطاع
من فوائد علمية وأدبية ولغويّة ودينيه والغرائب والشوارد والامثال والحكم والقصص، ونوادر
التركيب، ومحاسن الأساليب، والأسماء التي لا يعثر عليها إلا بعد جهد جهيد.
والباحث المنصف
يجده يسير على نهج مقامات سابقيه (الهمذاني والحريري): صورة الراوي والبطل،
واستخدامه للغريب من الألفاظ، واعتماده على قالب السجع والمحسنات البديعية
بأنواعها المختلفة، غير أن اسم راوي مقاماته: (سُهيل بن عَبَّاد)، واسم بطلها: (ميمون
بن خزام).
ـ مقتطف من المقامة
الطبية لليازجي:
حكى سهيل بن عبادٍ
قال: خرجت على فرسٍ جموح إلى نيةٍ طروح، فأزعجنى إهماجاً وخبباً، وأرهقني صعداً
وصبباً. حتى نهكني اللغوب، وأعياني الركوب. فنزلت لأقيل، وأستقيل. وإذا ناقةٌ
ترعى، وهي تنساب كالأفعى. فوقفت أستشرف الهضاب والوهاد، وأنا أريد أن أبد لها
بالجواد وإذا شيخٌ قد انقض علي كنسر لقمان بن عاد، وقال: هلكت ولو كنت سهيل بن
عباد. فتوسمته من تحت اللثام، وقلت: قاتلك الله ولو كنت ميمون بن خزام فضحك ثم
كبر، وقال: الاجتماع مقدر. ثم قال: الطعام، يا غلام فأحضر ما تسنى ثم اندفع فتغنى...
فقال: يا مولاي إني قد منيت بجهل المتطببين الرعاع، الذين لا يعرفون الصافن من حبل
الذراع. فلعلك توصيني بما يكون غنية اللبيب، عند غيبة الطبيب. فاطرق هنيهةً
للتروية، ثم هب في التوصية، فقال: يا بني لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، وقم
وأنت بما دون الشبع قانع. وباكر في الغداء، ولا تتماس في العشاء، والزم الرياضة في
الخلاء، واجتنبها عند الامتلاء. ولا تدخل طعاماً على طعام، ولا تشرب بعد المنام.
ولا تكثر من الألوان، على الخوان. ولإ تعجل في المضغ والازدراد، واجتنب كل ما لم ينضج
وما بات من الطعام فهو مجلبةٌ للفساد... واعتمد الحمية الواقية، ما دامت العلة
باقية. واحذر دواعي النكس، فإنه شر من العلة بالأمس. واعلم أن التجربة خطر، فكن
منها على حذر... فاحفظ عني هذه المواعظ، واحتفظ بها والله الحافظ... حتى قالوا
للشيخ: مثلك من يستحق الإمامة، فهل لك عندنا من إقامة؟ قال: قد علمتم أ، النقلة،
ثقلة. ولا سيما مع تطارح الشقة وتطاوح المشقة. ف'ن خففتم عني بالإمداد، أتيتكم
كوري الزناد. فنفحوه بعدةٍ من الدنانير وقالوا: استعن بالله والله على كل شيءٍ
قدير. قال سهيلٌ: فلما فصلنا عن المكان أخذ الشيخ مجلساً مكتوماً، ثم برز فناولني
طرساً مختوماً. وقال: إذا أصبت فألقه إلى القوم ولا تثريب عليك ولا لوم. فأجبته
إلى ما طلب، وإذا به قد كتب:
أنا ذاك الطبيب
وإن طبي *** لنفسي لا لزيدٍ أو لعمرو
وما عالجت سقم
الناس يوماً *** ولكني أعالج سقم دهري
إذا ما مسني ضنكٌ،
فعندي *** جوارش حيلةٍ وشراب مكر
فلما وقفوا على
أبياته، تعوذوا بالله من آفاته. وقالوا: إن لم يكن طبيبًا، فكفى به لبيبًا؛ فهل لك
أن ترده علينا لظرفه، إن لم يكن لعرفه؟ قلت: ذاك مما لا يقرب، فإنه أجول من قطرب.
ورجعت إلى موعدنا فوجدت أنه قد أفل قبل الشمس.
أنواع المقامات الأدبية
ـ المقامات
العربية: وهي التي تشمل مقامات: الهمذاني والحريري وابن ناقيا
البغدادي (410هـ/ 1020م : 485هـ / 1092م)، والزمخشري (467هـ /1074 م : 538هـ /1143م)،
وابن الجوزي (510هـ/1116م : 597 هـ/1201م)...
ـ المقامات
الأندلسية: وقد ظهرت في الأندلس بين القرنين الخامس
والتاسع الهجري، ومن أشهر مقاماتها: مقامتان لأبي عبدالله بن شرف القيرواني، مقامة
لأبي حفص عمر بن الشهيد، مقامة للأديب أبي محمد بن مالك القرطبي، ومقامة لعبد
الرحمن بن فتوح...
ـ المقامات
الفارسية: وقد كانت المقامات الفارسية تقليدًا للمقامات،
ومن أشهر من ألفوا المقامات في بلاد فارس: ابو بكر حميد الدين عمر بن محمد البلخي (المتوفى
عام 559 هـ).
ـ المقامات
العربية الحديثة: ظهرت في العصر الحديث وقد استمرت حتى نهاية
القرن التاسع عشر، ومن أشهر كتابها: الشاعر والأديب أحمد فارس الشدياق (1806م :
1887م).
المقامات والمزاوجة
بين النثر والشعر:
إن المطلع على
المقامات العربية يجد أن الكثير منها تتخلله أبياتا شعرية؛ فتزيدها روعة وجمالا،
وفنا وإبداعا، وتتكامل معها في أداء رسالتها، وهي مزاوجة تقربنا مما استحدثته من
مزاوجات بين فنون أدبية تراثية وفنون أدبية معاصرة؛ كتلك التي أجريتها بين (أدب
التوقيعات) و(فن القص)؛ منتجا فنا أدبيا جديدا (القصة الومضة)، والمزاوجة بين (المقامة)
و(المقال)؛ منتجا فنا أدبيا جديدا أطلقت عليه (المقال المقامي)، ومن هنا استطعنا
إحياء الآداب التراثية من خلال المزاوجة بينها وبين ما هو معاصر.
أنموذجان من (المقال المقامي)
ـ رباط الأدب:
كنت أظن وبعض الظن
إثم، أن النادي الأدبي شأنه شأن أي جسم، إذا اشتكى منه عضو كالعبد لله أو أي اسم؛
تداعى له بقية الأعضاء بشتى الوسائل للسؤال، التي أبسطها رسائل الجوال.
ولما كان الحال
على غير الحال ـ نتيجة أوضاع مائلة، ومعايير ظالمة حائلة ـ فقد اكتفى المذكور
أعلاه؛ بالشكوى إلى الله من هذا التجاهل أو الجهل، مستسلماً إلى التفسير المقنع
السهل، بأنهم ليسوا من الأقارب أو الأهل، ولا يجمعني بهم سوى رباط (الأدب)، الذي
أضحى من عجب؛ أوهن خيط، وأضعف سبب!.
ففي غمرة الأنانية
الأدبية الآن؛ أصبح كل من كان، يرفع شعار الانطوائية والخذلان (أنا ومن بعدي
الطوفان) ناسياً أو متناسياً ـ على طريقة الاعتياد ـ بأن المرض على رؤوس العباد، ومن
أصابه اليوم فقد استفاد بكل تأكيد، وعرف العدو من الحبيب...
فشكرا لكِ أيتها
(الوعكة الصحية) على هذا الاختبار، الذى كشف بصورة واضحة جليه ما استتر من أسرار،
المتلونين (الشطار)، الذين يقيمون مشاعرهم الإنسانية، طبقاً لمصالحهم الشخصية؛
فيوجهونها الوجهة الانتهازية الحيوفة؛ بحركات تمثيلية مكشوفة، كأنهم تجار خبثاء يبحثون
عن الربحية، بخداع ورياء!...
وحتى لا يعتبر
البعض كلامي استجداء، لعواطف أدباء، يدعون رهافة الحس والشعور، أقول أن باب منزلي
وهاتفي مقفول، ولست في حاجة لمن يقول لي: (شده و تزول)...
فالزوال قادم لا
محالة؛ إما الشفاء، وإما الاستحالة القدرية، ولا أراكم الله مكروها في أنديتنا
الأدبية.
ـ الكتابة تشبه
العسير من الولادة:
عندما عزمت على
إصدار كتابي الأول (لهذا وجب التنبيه!) في المقالات المقامية؛ لم أكن أتصور أن
الكتابة تشبه العسير من الولادة؛ فقد جاءني مخاض الفكر الذي على كل حال، يشبه إلى حدٍ
كبير مخاض أم العيال!...
فوضعت النقاط فوق
الحروف الرشيقة، والسكينة على رقبة خروف العقيقة المهيب، بعد أن سددت الأربعة،
واستنفد الأب مامعه؛ خرج الوليد من المطبعة بثوب قشيب...
فاستقبلته استقبال
الحبيب للحبيب، باعتباره أول فرحتي، وماسح دمعتي، ومخفف معاناتي، ومؤنس وحدتي،
ودليل قدرتي على الإنجاب في زمن العقم العقيم، ولما كان العقل السليم في الجسم
السليم؛ توكأت على كتف كتابي لأثبت عكس مابي من علل وأوجاع، وترحم على ماضاع،
وانتظار لسراب خداع...
ولأن ابنى علىَّ
لا يهون؛ فقد أحجم عن شرائه الزبون، ولم يمنعني هذا من تكرار الإنجاب، على طريقة (يا
باب هات كتاب)!.
إلا أن الكتاب
الأول كالابن الأول ذهب ضحية التدليل؛ ففشل في الدراسة والعمل، لكنه نجح نجاحاً
باهراً في الضحك على ذقني، واقتناص حبي، وارتباط اسمه باسمي: أبو (لهذا وجب
التنبيه!) مجدى شلبي.
ختام:
وهكذا عرضنا هنا ما
وعدنا به حول فن (المقامة) وما قمت باستحداثه للاستفادة من هذا الفن الأدبي الرشيق،
وأعدكم في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ أن نتناول فن تراثي آخر من فنون النثر
التراثي المتمثل في (التوقيعات الأدبية)، وفنون الحكمة والأمثال الشعبية وكيفية
الاستفادة منها، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة
العامة لاتحاد كتاب مصر