(4) أدب الحكمة (التوقيعات الأدبية) وكيفية الاستفادة منها
إعداد/ مجدي شلبي (*)
مقدمة:
كنا قد استعرضنا في الحلقة السابقة
نماذجا من الأدب الشعبي النثري، المتمثل في (المقامات الأدبية)، وما قمت به من
مزاوجة بين هذا الفن التراثي وفن معاصر (المقال)؛ منتجا فنا أدبيا جديدا أطلقت
عليه (المقال المقامي)، ووعدناكم أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن أدب الحكمة
(التوقيعات الأدبية) باعتبارها أحد فنون السرد التراثي، بغية الكشف عن جماليات هذا
الفن الأدبي، وكيفية الاستفادة منه في فنون أدبية معاصرة.
تعريف (التوقيعات الأدبية):
(التوقيعات) مشتقة في اللغة من
(التوقيع) بمعنى: التأثير؛ فيكون (التوقيع) سبباً في (وقوع) الأمر وإنفاذه، وقد
عرفت التوقيعات بأنها: الرسائل الموجزة البليغة، التي يكتبها المسئول أو يأمر
بكتابتها كرد وتوجيه مؤثر وفعال في المعاملات الإدارية.
وقد ازدهرت التوقيعات في ظل الاهتمام
ببلاغة اللغة وفصيح الكلام في عصور الدولة الإسلامية والأموية والعباسية، وكانوا
يخصصون لها حينئذ ديواناً يُعرف بـ(ديوان التوقيعات) يعينون فيه بلغاء الأدباء
والكتاب، ثم اندثرت (التوقيعات) وخبا وميضها المبهر في ظل الإطناب والاسترسال
والشرح والتفصيل على نحو ما حدث فيما بعد؛ من إصدار مراسيم مدونة في عدة صفحات؛
ففقدت بهذا صفتها الأدبية لافتقادها عنصر البلاغة التي تعنى: حسن البيان وقوة
تأثيره.
بعض النماذج من أدب التوقيعات:
نعرض هنا بعض التوقيعات من عصور
الازدهار ـ تلك ـ ليتبين لنا ماحوته من عناصر بلاغية: (إيجاز ومفارقة وأمر نافذ
مباغت ومدهش):
ـ شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم
خرجت على العامة؛ فتأهب لفراق السلامة.
ـ داو جرحك؛ لا يتسع.
ـ كثر شاكوك، وقل شاكروك؛ فإما اعتدلت،
وإما اعتزلت.
ـ القدرة تذهب الحفيظة، والندم جزء من
التوبة، وبينهما عفو الله.
ـ طهر عسكرك من الفساد؛ يعطيك النيل
القياد.
ـ ليت طول حلمنا عنك؛ لا يدعو جهل
غيرنا إليك.
ـ أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا
أتاك كتابي؛ فاعتمد على أيهما شئت.
ـ أدارك في البصرة، أم البصرة في دارك.
ـ قيمة كل امرئ؛ ما يحسن.
ـ الخط جسم روحه البلاغة، ولا خير في
جسم بلا روح.
ونختتم هذه النماذج الرائعة من أدب
التوقيعات بتوقيع أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه وأرضاه (ادن من الموت؛ توهب لك
الحياة).
بعض النماذج من أدب الحكمة والأمثال
الشعبية:
* من شابه أباه فما ظلم. * كل فتاة
بأبيها معجبة. * ما كل ما يتمنى المرء يدركه؛ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. *
كلّ داء دواء يستطب به، إلا الحماقة أعيت من يداويها. * لا كرامة لنبي في وطنه. *
الصبر مفتاح الفرج. * إذا كان الكلام من فضة؛ فالسكوت من ذهب. * في التأني
السلامة، وفي العجلة الندامة. * القرد في عين أمه غزال. *البعيد عن العين؛ بعيد عن
القلب. * معظم النار من مستصغر الشرر.
العلاقة بين التوقيعات الأدبية وأدب
الحكمة:
لقد اتضح من النماذج التي عرضناها الآن
لكليهما؛ أن هناك علاقة جد قوية بين التوقيعات الأدبية وبين أدب الحكمة والأمثال
الشعبية، تتمثل في العناصر البلاغية المشتركة: التكثيف، المفارقة، الإدهاش،
الإيحاء والخاتمة المباغتة.
الفرق بين الحكمة والمثل:
(الحكمة): مضمونها أوسع فهي لا تنبني
على موقف محدد أو قصة بعينها، في الوقت الذي يأتي (المثل): نتيجة حدث أو قصة تكررت
أكثر من مرة؛ فيضرب (المثل) عند حدوث موقف مشابه لما قيل فيه في المرة الأولى؛
للتأكيد على حقيقة أنه (إذا تشابهت المواقف؛ تشابهت النتائج).
نماذج من الأمثال الشعبية:
* الذي أخدته القرعاء، تأخذه أم
الشعور. * من لا يعرف؛ قال: عدس. * بين حانا ومانا؛ ضاعت لحانا. * الذين اختشوا؛
ماتوا. * عادت حليمة لعادتها القديمة. * القشة التي قصمت ظهر البعير. * جحا أولى
بلحم طوره. * أول ماشطح؛ نطح. * آخر خدمة الغز علقة. * رجع بخفي حنين. * اختلط
الحابل بالنابل.
نماذج من الأمثال الشعبية المضحكة:
* جبت الاقرع يونسني؛ قلع الطاقية
وخوفني. * يا مآمنة للرجال؛ يا مآمنة للمياه في الغربال. * قالوا للحرامي: احلف؛
قال جاءك الفرج. * العيون البصاصة؛ تندق فيها رصاصة. * الرجل في البيت رحمة وإن
كان فحمة. * أبوك البصل وأُمك التوم؛ منين لك الريحة الطيبة يا مشؤوم. * قد
النملة، ويعمل العملة. * أعرج يسحب مكسح، ويقوله: تعالى نتفسح. * قليل البخت؛
يلاقي العضم في الكرشة. * إذا أنت أمير وأنا أمير؛ فمين يسوق الحمير. * مرات
المنحوس: لا هي مطلقة، ولا هي عروس.
البحث في أصل الأمثال الشعبية:
عندما بحثنا في أصل كل مثل من هذه الأمثال
الواردة وغيرها؛ وجدنا أن لكل منها أكثر من مصدر ورواية، غير أن ما يعنينا هنا هو
الحكمة المستخلصة من تجارب حياتية سابقة؛ سعيا وراء الاستفادة منها، وتجنب
تكرارها، رغم أن بعض الحكم والأمثال تناقض بعضها؛ فيحار المرء إلى أيها ينحاز!،
وإليكم بعض النماذج المحيرة بتضاربها.
بعض الحكم والأمثال المتضاربة:
ـ (خير البر عاجله). يتضارب مع (كل
تأخير فيه خير).
ـ (معرفة الناس كنوز). بتضارب مع
(البعد عن الناس غنيمة).
ـ (في السفر سبع فوائد). يتضارب مع (من
خرج من داره؛ قل مقداره).
ـ (يابخت من وفق راسين في الحلال).
يتضارب مع (امشي في جنازة ولا تمشي في جوازة).
ـ (ضل رجل ولا ضل حيط). بتضارب مع
(قاعدة الخزانة ولا جوازة الندامة).
ـ (كلنا ولاد تسعة). يتضارب مع (الناس
مقامات).
ـ (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد).
يتضارب مع (الدنيا خلقت في ستة أيام).
ـ (اعمل الخير وارميه في البحر). يتضارب
مع (خير تعمل شر تلقى).
ـ (القرش الأبيض ينفع في اليوم
الأسود). يتضارب مع (اصرف مافي الجيب؛ يأتيك مافي الغيب).
ـ (الخير على قدوم الواردين). يتضارب
مع (يا قاعدين يكفيكوا شر الجايين).
ـ (النار لا تحرق مؤمن). يتضارب مع
(المؤمن مصاب).
ضرورة تنقية الحكم والأمثال:
إن الحكم والأمثال الشعبية التراثية
تلعب دورا مهما في توعية الأجيال الحالية، ولكون بعض تلك الأمثال تم تفصيلها لموقف
بعينه، وبحسب المزاج الشخصي لراوي المثل؛ وجب أن تتم تنقية هذا التراث مما شابه من
أمثال متضاربة ومغلوطة ومضللة، تتنافي مع العقل والمنطق والتعاليم الدينية؛ لتعم
الفائدة المنشودة والمبتغاة من تلك الحكم والأمثال الشعبية، وضرورة المحافظة
عليها، والاستفادة منها.
الاستفادة من أدب الحكمة:
من باب المحافظة على الحكم والأمثال
الشعبية، وضرورة الاستفادة من جمالياتها البلاغية، ودورها الكبير في تعديل السلوك
والحث على القيم الاجتماعية السامية؛ عمدت للمزاوجة بينها وبين فن أدبي حداثي
(القص)؛ منجبا جنسا أدبيا جديدا؛ أطلقت عليه (القصة الحكمة أو القصة الومضة).
تعريف مختصر(للقصة الومضة):
(الومضة) طبقاً لمعناها اللغوي: برقة
من الضوء (برِقَ الشيءُ: أي اجتمع فيه لَونان من سوادٍ وبياض)، التماعة خفيفة
واحدة، غمزة، بسمة. ظهور مفاجئ قوى وسريع خاطف، ومن خلال هذا التعريف تبرز أركان
الومضة القصصية جلية واضحة:
(أولاً) التكثيف: فلا مجال في الومضة
القصصية للوصف الدقيق ولا للحكي الروائي ولا للسرد المترهل؛ فهي التماعة قوية
خاطفة (برقة)، لهذا تعتمد الومضة القصصية على فن الحذف، وهو ليس حذفاً عشوائياً
يحول النص إلى لوحة مبهمة ملغزة مستعصية على الفهم، لكنه الحذف الفني الذي لا يُخل
بالمعنى ولا يستبقي كلمة أو حرفاً زائداً يمكن الاستغناء عنه، (هذا هو المقصود
بالتكثيف) أول عنصر من عناصر الومضة القصصية.
(ثانياً) المفارقة: بالعودة إلى تعريف
الومضة نجدها تعني: البرقة التي (تنتج عن اصطدام سحابتين إحداهما موجبة والأخرى
سالبة؛ فتحيل سواد الليل إلى بياض مفاجئ)، وتلك المفارقة الفيزيائية، تتوافق مع
المفارقة الحياتية بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين القسوة والتسامح، بين
الظاهر والباطن، بين الحرية والقهر، بين الخنوع والتمرد، بين الجمال والقبح، بين
السعادة والحزن، بين الألم والأمل... إلخ، وتلك هي الصور المفارقة التي تعبر عنها
وتعتمد عليها الومضة القصصية.
(ثالثاً) الإدهاش: كلما استطاع الكاتب
أن يتخلى عن النظرة الاعتيادية للأشياء و يصورها لك بعين الدهشة كلما تحقق للنص
سمة هامة وضرورية من سمات الومضة القصصية؛ فيدعو القارئ إلى التفكير والتأمل في
أشياء ومواقف أفقدتها الرؤية الاعتيادية غرابتها ودهشتها.
(رابعاً) الإيحاء: وهو يعني في اللغة: التكلم
الخفي للآخر؛ بمعنى استخدام المفردات الموحية والمعبرة عن المعنى المقصود دون
تصريح مباشر بها، وذلك باستخدام الرموز الدالة والمعبرة عن المعنى المقصود.
(خامساً) النهاية المباغتة: وتعنى
النهاية المفاجأة التي تأتي على حين غرة، وبغير توقع، وهي أشبه ما تكون بلدغة
النحلة أو لسعة النار، والنص الذي لا ينتهي بنهاية مباغتة وغير متوقعة يفقد أحد
أهم عناصر الومضة القصصية.
نماذج مختارة من الومضات القصصية:
معلوم أن علم البديع يُعنى بصياغة
الكلام وتحسين الجمل وتزيينها باستخدام المحسنات البديعية، ومن ثم فهي مجرد حلية في
جميع الفنون الأدبية، إلا أن ما يميز (أدب الحكمة والقصة الومضة) عن باقي الأجناس
الأدبية؛ هو أن تلك المحسنات البديعية ليست مجرد حلية، بل هي جزء لا يتجزأ من
النص، وللتدليل على ذلك نسوق بعض الشواهد:
(1) الطباق: أن يتقابل المعنى و ضده في لفظ
واحد، أنواعه:
ـ طباق السلب: كتب ضدها لا يكتب, وعد
ضدها لم يعد, ومثال من الومضات القصصية:
ـ مزمار: نفخوه؛ لم ينتفخ. (أحمد طه/
مصر)
ـ طباق الايجاب: دخل ضدها خرج، مثال من
الومضات القصصية:
ـ شُرُوقُ: لاحَ طَرْفُها؛ أفَلَ
القَمَر. (على الهادي على/ السودان)
(2) المقابلة: هي التوسع في الطباق من ضد إلى
اثنين أو أكثر: فوق الهامات ظهر الأبرار وتحت العجاز اخفى الفجار، مثال من الومضات
القصصية:
ـ يقين: ظلمه الواقع؛ أنصفه الحلم.
(نورة عيساوي/ الأردن)
(3) الجناس: هو اتفاق لفظتين في الكتابة والنطق
واختلافهما في المعنى. أنواعه:
ـ جناس تام: ما اتفقت فيه اللفظتان في
نوع الحروف وعددها و ترتيبها وشكلها، مثال من الومضات القصصية:
ـ طلاق: بانت منه؛ بانت لغيره. (محمد
نبيل/ مصر)
ـ جناس ناقص: ما اختلفت فيه اللفظتان
إما في نوع الحروف أو عددها أو ترتيبها أو شكلها، مثال من الومضات القصصية:
ـ مشاعر: رغبت فيه؛ رغب عنها. (علي
أحمد عبده قاسم/ اليمن)
ـ انتخاب: بايعوه؛ باعهم. (أحمد جبار/
العراق)
(4) السجع: هو توافق أواخر الجمل في
الحرف الأخير وما قبله ولا يكون الا في النثر، أنواعه:
ـ ما تساوت فقراته: اذا وعد الحر وفى,
و اذا أعان كفى, و اذا ملك عفى، مثال من الومضات القصصية:
ـ ثقافة: تناصحا؛ تناطحا (محمد نبيل/
مصر)
ـ زيفٌ: ليحكمَ سرقته؛ أطالَ لحيته.
(علي عزيز حمادي/ العراق)
ـ سيادة: عزه أهله؛ ذله جهله. (كامل
صلاح/ مصر)
ـ ألفة: حرروا الضفدع؛ قفز للمستنقع.
(لقمان محمد/ السعودية)
ـ حقارة: وجد البديل؛ أنكر الجميل.
(علي العقابي/ العراق)
(5) الاقتباس أو (التناص): أن يتضمن عمل الأديب
نصا من القرآن أو الحديث أو الأقوال المأثورة، مثال من الومضات القصصية:
ـ مُعاصرة: عاد الهدهد؛ لم يجد سُليمان.
(لقمان محمد/ السعودية)
ـ إغواء: سحرت عينيه؛ رأى زوجته حية
تسعى. (أحمد فؤاد الهادي/ مصر)
ـ غفلة: ماتوا؛ انتبهوا. (أثير الغزي/
العراق)
أخيرا وليس آخرا:
هكذا عرضنا هنا ما وعدنا به حول (أدب
التوقيعات، وفن الحكمة) وما قمت باستحداثه للاستفادة من هذا الفن الأدبي الرشيق،
وأعدكم في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ أن نتناول فنا أدبيا آخر من فنون النثر
التراثي المتمثل في (الوصايا والرسائل)، وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب
مصر