متلازمة الموت والحياة والعزف على سلالم الأمل ـ من قراءة للكاتب والناقد السوداني الكبير الأستاذ/ صلاح الدين سر الختم علي ـ في المجموعة القصصية (حارة حرنكش) للأديب/ مجدي شلبي

 متلازمة الموت والحياة والعزف على سلالم الأمل

من قراءة للكاتب والناقد السوداني الكبير الأستاذ/ صلاح الدين سر الختم علي

في المجموعة القصصية (حارة حرنكش) للأديب/ مجدي شلبي

مدخل:

يقول القاص الروسي العظيم تشيخوف عن كتابة القصة: ( الكتابة فن الإيجاز) ويقول الكاتب ارنست فيشر: (ليست وظيفة الفن أن يدخل الأبواب المفتوحة، بل أن يفتح الأبواب المغلقة).

إن القصة يمكن ان تكون حقيقية أو مختلقة، طويلة أو قصيرة، كاملة أو ناقصة، شفاهية أو مكتوبة، ممكنة أو مستحيلة، هذا بالنسبة للقصة بشكل عام، أما مصطلح القصة القصيرة فهو. يشير الي نوع من النثر الفني القصصي أو الحكائي الذي يقرأ بشكل مناسب في جلسة واحدة.

ان القصة القصيرة مثل غيرها من أشكال القص أو الحكاية هي عملية بناء وتركيب تصوري وتخيلي وهي كذلك بمثابة التنظيم لعناصر الخبرة في تكوين فنى. بشكل خاص تعتبر القصة القصيرة وثيقة الصلة بالشعر والمسرح والدراما ولكنها متميزة عنهما ويمكن تعريفها بانها: (قص مختصر في شكل نثرى). ويمكن التلخيص والقول: (القصة القصيرة فن سردي حكائي، يخبرنا بقصة)، أما الاختلاف فيحدث فيما يتعلق بما تتكون منه هذه القصة. ففي السنوات المبكرة من تاريخ القصة القصيرة، كانت القصة تتمثل في سلسلة من الوقائع والأحداث التي تتكون من بداية ووسط ونهاية. في القرن التاسع عشر ازدهر فن القصة القصيرة وظهرت في القصص أبعاد جديدة خاصة بالمهارة الحرفية واللغوية والكثافة الرمزية والمجازية. وبدأ الاهتمام بالحبكة يتراجع ويخلي طريقا للاهتمام بالشخصية، كما هو الحال في قصص تشيخوف وهنرى جيمس. وخلال القرن العشرين أصبحت القصة القصيرة والرواية أكثر أشكال التعبير الأدبي سيطرة. وتكاثرت الأنواع الفرعية للقصة القصيرة.

وتتميز القصة القصيرة في مقابل الرواية بأنها تقدم لمحة خاطفة بدلا من التنوير البطيء المطرد، لذلك فالإيجاز في الوسائل السردية والشخصيات والأحداث والأمكنة، والأزمنة، يعطي القصة القصيرة الجيدة قدرا أكبر علي الرؤية مما هو الحال في رواية جيدة. الإيجاز هو شرط جوهري في القصة القصيرة الجيدة. يقول جان مارى لوبو: (إن ما يقوله الفن يستمد قيمته مما لا يقوله، مما يوحي به، الفن العظيم هو الذي يدرك روح الأشياء). القصة القصيرة جدا هي نوع من القصة القصيرة يتميز بالاقتصاد أكثر في الوصف والكلمات.

حارة حرنكش ( فوبيا الموت أم صناعة الحياة؟):

مجموعة القاص المصري مجدي شلبي القصصية الموسومة ب (حارة حرنكش): هي مجموعة قصص قصيرة جدا تجسد في مجملها موقفا وفلسفة حياتية يغلب عليها طابع التفاؤل والتبشير بالأمل في مواجهة الهزيمة والإحباط، والتبشير بالحياة في مواجهة الموت بإصرار يبرر وصف المجموعة بمتلازمة الموت والحياة، وهي متلازمة شغلت المفكرين والفلاسفة والكتاب علي امتداد العصور في مختلف الأزمنة والمجتمعات الإنسانية، ولم يكن القاص المبدع مجدي شلبي استثناء من ذلك الزخم بل جاءت مجموعته المعاصرة متسقة مع ما يجرى علي أرض مصر والعالم العربي من صراع يومي بين الموت والحياة والظلام والنور بأشكال وطرق مختلفة.

ففي النص المسمى (ابتسامة ثقة) يتكرر الأمر نفسه وينتصر الكاتب علي الهزيمة الوجه الآخر للموت هكذا: (بلغت قمة الجبل، جذبني البعض عنوة إلى السفح، بعد سنوات طوال؛ عدت إلى حيث كنت؛ فوجدتني هنا، أرمقني بإعجاب وأبتسم). إن إرادة الحياة ظاهرة بقوة في هذا النص الجميل. وفي نصوص أخرى.

ويعود الكاتب الي متلازمة الموت والحياة في نصه (سمر) الذي يقرأ كما يلي:

(اكتظت ثلاجة المشرحة، لم أجد لجثتي موضعاً، اصطحبني صديقي الراحل، جلسنا في ظل شجرة؛ نتسامر، نضحك وكأننا أحياء). ان الموت هو سيد المشهد ولكنه يتقزم أمام الحياة، فالمكان ثلاجة موتى في مشرحة والراوي ميت، لم يجد لجثته موضعا في المكان، وصديقه هو الآخر ميت، لكنهما اختارا مكانا ينبض بالحياة وهو ظل شجرة ومارسا أفعالا لا يمارسها الأموات بل يمارسها الأحياء مثل: (التسامر) و(الضحك) و(الجلوس في الظل)، وهكذا يرسل الكاتب إشارته ورسالته الكامنة بين السطور والحروف والمشهد،

وفي النص الذي تحمل المجموعة اسمه (حارة حرنكش) يُجسد القاص مشهد اغتيال امرأة عجوز بواسطة لص بوحشية بغية الاستيلاء علي مالها، وبعد قتلها لا يجد سوى بطاقة الضمان الاجتماعي!. ان المفارقة هنا أنها ماتت بلا سبب ولأجل لا شيء. إنه وجه آخر لصراع الموت والحياة. وجه قاس يدفع فيه ابرياء حياتهم ثمناً لظروف لا انسانية، وضع الفقر القاتل والضحية تحت نيرها ولم يترك لهم خيارا سوي القتل والموت والحياة علي هامش الحياة.

النص: (نصل سكين حاد، وجه شرير، سيدة عجوز تعيش بمفردها، صرخة واحدة وبركة دماء، يبحث عن مبتغاه؛ فلا يجد سوى بطاقة الضمان الاجتماعي).

أن الموت والحياة لا يتوقفا علي ظاهر الاشياء بل لهما قوانين داخلية تحكمهما. وهكذا يسيطر موضوع الموت والحياة علي قصص المجموعة بشكل ظاهر، وتسود روح النكتة الساخرة وخفة الدم في طائفة أخري من قصص المجموعة، والسخرية هي وجه آخر لصراع الحياة والموت نفسه، فالسخرية هي سلاح يستعين به كل المقهورين والواقعين تحت وطأة الفقر والقهر علي شظف الحياة وقسوتها ويجعلونها أقل قسوة مما هي عليه في الحقيقة، وهذا نوع من انواع الفعل المقاوم وهي روح الاستهانة بالصعاب وتجاوزها.

تبقى المجموعة علي ما فيها من نصوص تحتاج بعض المراجعات من الكاتب لتخليصها من بعض ملامح التقريرية وبعض الإسهاب والإسراف في التفاصيل؛ تبقى تمثل تفاعلا جميلا وصادقا مع واقع الكاتب وهموم شعبه، وهي مغموسة في الهموم اليومية الصغيرة مثلما هي متورطة في طرح القضايا الكبرى، والإشكالات والأسئلة المهمة التي تواجه الشعب والأمة في واقعها الراهن، إنها أنشودة جميلة للحياة عند أعتاب الموت والذهول والإحباط.

المجموعة حدث أدبى مهم وتستحق الوقوف عندها والقراءة، وأتمنى أن تخضع لمزيد من التنقيح، وتعالج بعض الهنات البسيطة التي لا تقلل من القيمة الفنية للمجموعة التي التزم كاتبها بتقنية قصة المشهد أو الاسكيتش التي تعتمد علي انتزاع مشهد وملمح من الحياة يوحى بالمضمون والمغزى ولا تتقيد القصة بالبداية والعقدة والذروة، بل تعتمد علي الإيحاء بالمضمون من خلال تأمل المشهد كله، مع اهتمام خاص بالنهاية ووضع الثقل كله فيها.

مقاربة بين المجموعة وقصيدة أمل دنقل ( الموت في لوحات):

عند قراءة المجموعة بدت لي علاقة خفية بينها وبين قصيدة الشاعر الكبير أمل دنقل (الموت في لوحات) واستوقفني كثيرا التناص البارز بين الأثرين الأدبيين، من حيث وحدة الموضوع وهو الموت والحياة، ومن حيث الشكل وهو إبراز مشاهد ولوحات متعددة للموضوع الواحد، ومن حيث الأثر العميق لتلك اللوحات المنتزعة من الحياة الحقيقية، بل من الذاكرة الشخصية للمبدعين في النفس الإنسانية، بحيث يمسي المشهد محفزاً للتأمل، ويحدث الأثر المراد إحداثه، وتبقى الشفافية والحساسية العالية ورهافة الشعور؛ هي القاسم المشترك بين النصوص وكتابها، ولو تتبعنا نصوص المجموعة ولوحات القصيدة نجد زاوية رؤية واحدة، وتأمل عميق في ثنائية الحياة والموت. وهذا هو التناص المقصود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صلاح الدين سر الختم على

مروى ـ السودان ـ في 17 أغسطس 2013

نُشؤت في صحيفة النهار العراقية بتاريخ 10 يوليو 2023