"مقاربات
شعرية للمجموعة القصصية (على صفيح ساخن)
للقاصة التونسية أ/ فردوس المذبوح" Ferdaous Madhbouh
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي (عضو النقابة العامة
لاتحاد كتاب مصر)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التزاما بما تقتضيه القراءة في العمل
الأدبي عموما، وفي هذه المجموعة القصصية على وجه الخصوص؛ سلكت نهجا ـ ربما يكون
فريدا ـ حرصت فيه على عرض كل قضية من القضايا التي تناولتها الكاتبة
في كل قصة من قصص هذه المجموعة، التي بلغ عددها 20 قصة، مقاربا بينها وبين
مصادفة الشعراء لكل واحدة منها، من خلال شواهد شعرية تعبر عن الفكرة وتدعمها، وقد
شجعني على هذا الأسلوب ما لاحظته من تسلسل الأفكار وترابطها حول قضية محورية هي
(القهر) المفضي إلى نهايات حزينة، اتساقا مع حقيقة الكبت المؤدى للانفجار، وهي
السمة الغالبة على هذه المجموعة؛ التي عبر عنوانها مجازيا عنها وعن حالات التوتر
وعدم الاستقرار (على صفيح ساخن).
(1): ففي القصة الأولى (شهادة ضياع) استهلت
القاصة المبدعة فردوس المذبوح مجموعتها القصصية، بهذه القصة التي عبرت فيها عن
قضية البطالة، من خلال هذا الشاب الذي أنهى دراسته، وحصل على شهادته، التي من
المفترض أن تكون شهادة مؤهلة للعمل؛ فإذا بها تصبح (شهادة ضياع) "تُذكره
بسنوات عمره التي تذهب هباء"؛ اتساقا مع قول الشاعر/ المخبل السعدي (بتصرف):
وأَنزَلَتهُ دارَ الضَياعِ فَأَصبَح ***
عَلى مَقعَدٍ مِن (التعطل) أَغبَرا.
فشعر أن "كل شيء من حوله قد أضحى
سرابا؛ يضنيه واقعه البائس ويحيره الغد المجهول"؛ ولسان حاله يردد قول
الشاعر/ جبران خليل جبران:
أَكَذَا نِهَايَةُ ذَلِكَ الْجُهْدِ ***
أَكَذَا خِتَامُ السَّعيِ وَالْجِدِّ؟!.
لقد ألحت عليه فكرة الانتحار، و"نظر
إلى المياه العميقة المتلألئة وتهيأ للقفز، لكن أيدٍ عتيدة جذبته للخلف".
وأخال الشاعر/ جميل صدقي الزهاوي يقصده بقوله (متعجبا):
آثرت حتفك بعد اليأس تنتحر *** والرأس فيه
الحجى والسمع والبصر!
لقد "تهاوت شهادته كورقة خريف تذروها
الرياح، تراقصت على صفحة الماء، ثم حملها التيار إلى أن غابت عن الأنظار، مثلما
غيّبت الدنيا كلَّ أحلامه."
(2): وتنقلنا الكاتبة من قصة ماتت فيها
أحلام المتعطل عن العمل؛ إلى قصة (بذرة الموت) في إشارة إلى مرض (السرطان): هذا
المرض اللعين الذي يقول فيه الشاعر/ أمجد ناصر:
أترى؟ لا أحدٌ يموتُ في محيطنا هذه الأيام
بغير
السرطان، إنه طاعونُ العصر وسيفُه الحاصدُ.
لقد أصيب ابن بطلة هذه القصة بالسرطان،
لكنها كذبت عليه، وحاولت إخفاء هذا الأمر عنه؛ وتصف حالتها تلك؛ بقولها:
"حبست أنفاسي لتترسخ الكذبة في داخلي قبل أن أنطق بها". وهي كذبة
(بيضاء) تضيف إلى ما "في أعماقها من تلال الهموم". وهو ما يصادف قول
الشاعر/ محمد بن إبراهيم المراكشي:
جبالُ هُمومٍ على كاهِلي *** وجيشُ
الشَّدائِد من داخِلي
توالت علىَّ عَلى غِرَّةٍ *** وما كنتُ
للِهَمِّ بالحامِلِ
فَضاقَت عَلىَّ رِحابُ الفَضا *** وفي
العَيشِ ما صِرتُ بالآملِ.
وتبدع الكاتبة في سردها لحال البطلة في
المشهد الأخير: "لن أنسى ذلك الصباح حين مددت يدي لأغمض جفنيك إلى الأبد،
بينما ثغرك يبتسم ابتسامة الوداع".
(3): ومن الإذعان للموت إلى قصة (ثورة
الصمت)، هذه القصة التي تناولت فيها الكاتبة قضية الخلافات الزوجية وانعكاساتها
السلبية على الأبناء؛ تقول بطلة القصة: "حياتي حلقات متسلسلة من الإهانات
والعنف"، "إن التعامل الفج العنيف الصارم متأصل في سلوك أبويَّ ـ كنت
هدفا لمزاجهما العصبي ـ بينهما خلافات عميقة لم يجدا سواي ليصبا عليه جام
نقمتهما". ويأتي هذا اتساقا مع قول الشاعر/ أحمد علي سليمان:
كَفٌ على الوجه ضاهى جَذوة الألمِ *** هوى
على وَجنةٍ عانت من الورمِ
أمام أعيًن مَن زاغت بصائرُهم *** لهول ما
شهدوا في الموقف الوخِم.
فتراود المقهورة فكرة الانتقام: "
فكرة الانتقام أطبقت عليَّ من كل جانب، راحت تضيق الخناق عليّ شيئا فشيئا إلى أن
سكنتني وعششت في ذهني فلم أجد منها مهربا."، وتبادر بأفعال تتسق مع تلك
الفكرة؛ فتُتهم بحاجتها لعلاج نفسي، وهي التي كانت ضحية أبوين هما من في حاجة إلى
العلاج بل إلى التأنيب والتأديب، ليتقيا الله في أبنائهما؛ يقول الشاعر/ سابق
البربري:
مَوتُ التَّقيِّ حياةٌ لا انقِطَاعَ لها
*** قد مات قَومٌ وَهُم في النَّاسِ أحيَاءُ.
(4): وتنقلنا الكاتبة من قصة تدعونا فيها
لضرورة اتقاء الله في أبنائنا، إلى ضرورة اتقاء الله في وسائل معرفتنا؛ فتعرض لنا
قصة (رفاق في العتمة) التي تتناول فيها ظاهرة الإعراض عن القراءة وإهمال الكتاب،
فالزوجة الجاهلة "رأت أن الخزائن الفخمة الزاخرة بالكتب تجاوزها الزمن"،
والزوج "اعترض على قرارها، لكنها تمسكت بموقفها إلى أن أصابه الضجر وأفرغ
(الكتب) في هذه الصناديق"... ثم ما لبث ـ بعد فترة من الزمن ـ أن عاد ليفتحها
ويخرج كتبه من العتمة إلى النور، ويلتقي بأعز الأصحاب والرفاق، اتساقا مع قول
الشاعر/ أحمد شوقي:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا ***
لَم أَجِد لي وافِياً إِلّا الكِتابا.
"فتح الصندوق الأول، ربت على الكتاب
بكل ما أثاره فيه من جميل الذكريات مخففا عنه لوعة المهانة والذل"، متمنيا أن
تكون هذه (الكتب) أصحابا و"رفاقا لأبنائي مثلما كنتم لي، لكنهم يعيشون داخل
أسوار مقيتة، في آن تكبلهم، وتحلق بهم في عوالم افتراضية، لها مساوئها
ومخازيها"؛ وتحضرني هنا الآن أبيات من قصيدة للشاعر/ د. مقبل احمد العمري؛
يقول فيها:
كرهت النتَّ حتى ضقت نتّا *** وأسبابي لهذا
الكره شتّى
ومن آفاتهِ الإدمانُ فيهِ *** فبئس الشخصُ
إن أدمنت نِتّا
تُخبِّط في مواقعهِ فتلقى *** قبيح الجنس
والفحشاءِ تؤتى.
إن هذه القصة تحمل رسالة توعوية مهمة داعية
للاهتمام بالتزود المعرفي بالقراءة والاطلاع؛ يقول الشاعر/ أحمد علي سليمان: (أمة
اقرأ أولى بهذا). ورغم ورود بعض الجمل التقريرية في هذه القصة، إلا أنها لم تخل من
العبارات البليغة، التي منها على سبيل المثال: "صارت الكتب يمزق نياط قلبها
إعراض مميت".
(5): ومن قضية الإعراض عن الكتاب، والدعوة
لمصالحته والإقبال عليه، تنقلنا الكاتبة إلى قضية مخالفة العادات والتقاليد،
والدعوة للنفور منها، والإعراض عنها، وذلك من خلال قصتها (السر الدفين)؛ ففي هذه
القصة انتقاد ضمني لتقاليد قبلية (عنصرية) حرمت بطلها من الزواج من حبيبته لآن
"الاختلاف في الدين وقف حجر عثرة أمام ارتباطه بها" و"من طقوس
قبيلته رفض مثل هذا الزواج"، ويحضرني هنا قول الشاعر الشاذلي خزنه دار:
مضى زمان تقاليد نقدّسها *** ولا نشاهد ما
فيها من الخلل
وللتقاليد آجال محددة *** وكل عصر وما فيه
إلى أجل
كنا نرى بدعا ما أحدثوه لنا *** وكل شيء
عتيق عندنا أزلي.
ورغم أن أحداث الزواج وتبعاته ـ في هذه
القصة ـ اكتنفها في التفاصيل بعض التلبيس؛ إلا أن الفكرة العامة الأساسية كانت
واضحة بجلاء، وازدادت بيانا وسطوعا في السطور الأخيرة منها: "انذرفت من عينه
دمعة يتيمة حارقة؛ فأسدل رأسه ينهشه الحنين إلى ابنته، التي ألغى وجودها جبروت
القبيلة".
(6): ومن شرور جبروت القبيلة، إلى الشر
الكامن في نفوس البشر؛ اتساقا مع قول الشاعر/ ظافر الحداد:
أرى الشرَّ طبعَ نفوسِ الأنامْ ***
يُصرِّفها بين عابٍ وذامْ.
تنقلنا كاتبتنا إلى قصة (رياح الندم) التي
تصور حال إحدى الشريرات، التي حولتها غيرتها إلى وحش كاسر، إلا أنها عندما أصيبت
بمرض عضال: "أصبح الشعور بالذنب يؤلمها أكثر من آلام جسدها". وأخال
الشاعر/ صلاح الشرنوبي؛ يقصدها بقوله:
الذنبُ ذنبُكِ ليس ذنبي *** يا من أرقتِ دموع
قلبي.
ولأن ديدن الأشرار ألا يدركوا مخاطر
أفعالهم إلا وهم على مشارف الموت؛ فهاهو أبو نواس، الذي عاش حياة ملؤها المجون؛
ينشد وهو على فراش المرض:
دب في الفناء سفلاً وعلوا *** وأراني أموت
عضواً فعضوا
لهف نفسي على ليالي وأيا *** ما تمليتهن
لعباً ولهوا
قد اسأنا كل الاساءة فاللـ *** ـهم صفحاً
عنا وغفراً وعفوا.
ونعود لوصف الكاتبة لحال الشريرة وهي على
فراش المرض: "كان جسدها يختلج وروحها تنسلخ عنه تدريجيا، اختفت من أمام
ناظريها كل الصور، ولم يبق إلا ذلك النفق المظلم، الذي شرعت في السير إلى
أعماقه... إلى أن اختفت في الظلمة الحالكة",
(7): ومن المصير الذي ينتظره الأشرار
ويستحقوه، إلى المصير الذي باغت البشر، ولم يتوقعوه؛ جاءت قصة (على صفيح ساخن) ـ
وهو الذي اتخذته الكاتبة عنوانا لمجموعتها ـ واصفة ما يحدثه الوهم من ذعر: "
تجلس متابعة عبر التلفاز أخبار الساعة، كلهم يتحدثون عن خطورة الفيروس وتبعاته ـ
انهمرت الدموع من عينيها الخضراوين وهي تستمع إلى أعداد الإصابات اليومية
والوفيات"، فتدعو الله "يا الله أنزل شفاءك على من مسه الضر واجبر من
أنهكه الوجع"، وتتخذ الإجراءات الاحترازية خشية انتقال العدوى إلى زوجها، والمدهش
هنا أن يأتي التحليل سلبيا، وأن ما تعرضتِ له لم يكن إلا نزلة برد عادية فقط، هذا
الوهم الذي يحذرنا منه، ويدعونا لتجنبه الشاعر/ ابن علوي الحداد؛ بقوله:
الشك والوهم رأس الشر والحذر *** والجد
والصبر باب الفوز والظفر.
(8): ومن فيروس الهلع من الكوفيد إلى فيروس
مماطلة الحبيب؛ تأتي قصة (بلا هوية)؛ حيث يهدي الحبيب إلى محبوبته خاتما، لكنه
يماطلها في أمر خطبته لها متعللا بظروفه المادية الصعبة، ثم تكتشف مدى تسويفه
وخداعه، وأخال الشاعر/ د. وائل جحا يقصده ببيتي الشعر:
نعم أبدعتَ لكن بالخداعِ *** وأخفيتَ
البشاعةَ بـالقناعِ
نعم أبدعتَ بـالتِّمثيلِ لكن *** سـقطتَ
مـن العيونِ بلا وداعِ.
وبالفعل اتخذت بطلة القصة قرارا أن تسقطه
من عينيها وألا تراهن عليه. وتبدع الكاتبة في وصفها لما فعلته البطلة بالخاتم الذي
"بقى لغزه دون هوية قابعا في أحد أدراجها كغريب منبوذ يذكرها كلما رأته بفترة
من شريط حياتها دفنتها في دهاليز عميقة من نفسها وأوصدت دونها أبوابا عتيدة".
(9): ومن أبواب الذكريات التي أوصدتها بطلة
القصة السابقة؛ تنقلنا الكاتبة إلى (كوة النور) وهي قصة تفتح أبواب الأمل، وتعبر
عن أهمية الدراسة الجامعية وعلاقتها بالسعادة؛ فتقول عن بطلة القصة: "ستكون
سعيدة فعلا لو أنها حققت طموحاتها"، وقد أدهشني استخدام الكاتبة لكلمة
(شهائد) في نهاية الصفحة رقم 43 "نالت شهائد في هذا المجال" باعتبارها
جمع ـ غير متداول ـ لكلمة (شهادة)، وهو جمع صحيح، على منوال (رِسالة ورسائل)،
ويقول الإمام الشافعي في أهمية العلم والتعلم:
وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ
سَاعَةً *** تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ
شَبَابِهِ *** فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ.
وبطلة هذه القصة حرمها الزواج مبكرا من
استكمال دراستها الجامعية والتخصص الذي كانت تعشقه (علم النفس)، و"رغم
انخراطها في دورات تكوينية عديدة إلى أن نالت شهائد في هذا المجال كانت تحس بالغبن
عندما تسأل عن شهادتها الجامعية فتهمهم وتجيب بأن قدميها لم تطآ الجامعة".
هذا الشعور جعلها تتخذ قرارا باستكمال تعليمها، وتعلن: "هذه السنة سأسجل نفسي
في جامعة حرة لدراسة علم النفس."، المدهش أنه بعد حصولها على شهادتها العليا؛
منعها زوجها ـ الذي كان سببا في عدم استكمالها لدراستها الجامعية ـ منعها من العمل
أيضا!. وهذه صورة من صور القهر الذي يمارس ضد النساء، وها هو الشاعر/ حافظ ابراهيم
يستنكر مثل هذا التعامل غير الإنساني مع الزوجات، ومنعهن من الخروج والعمل؛ فيقول:
لَيسَت نِساؤُكُمُ حُلىً وَجَواهِراً ***
خَوفَ الضَياعِ تُصانُ في الأَحقاقِ
لَيسَت نِساؤُكُمُ أَثاثاً يُقتَنى *** في
الدورِ بَينَ مَخادِعٍ وَطِباقِ.
(10) ومن الخروج المادي إلى الخروج من أسر
الذكريات المؤلمة تأتي قصة (على وقع أغنية حزينة)، كلماتها تقول: (احضنوا الأيام
لتجري من إيدينا، أحلى أيام الهوى راحت علينا)؛ تلك الذكريات التي عانت منها
البطلة ووصفتها الكاتبة بـ" لسعتها سياط الذكرى فشردت بخيالها وجعلت ترتب صور
الماضي في أدراج ذهنها، صور تخفق في داخلها كطير سجين ـ كانت دموعها تراوغها فتسيل
على خديها كلما تحدثت عن جبروت هذا الأب".
وهذه صورة أخرى من صور قهر الآباء
لأبنائهم؛ غير أن الكاتبة في هذه القصة انتصرت للفضاء الالكتروني (الانترنت) الذي
أتاح لتلك الضحية أن تزيح عن نفسها عتمة سنوات الألم، من خلال صديقتها التي قالت
عنها: "بمرور الوقت تمكنت صديقتها من إخراجها من بوتقة النقمة التي تعربد
داخلها وتنهش اطمئنانها، بل أيقظت فيها روحها المرحة التي ضاعت في خضم
الغيوم", وتلك لعمري قيمة الصداقة التي قال عنها الشاعر/ أبو فراس الحمداني:
لي صَديقٌ عَلى الزَمانِ صَديقي ***
وَرَفيقٌ مَعَ الخُطوبِ رَفيقي.
(11): ومن قهر الأب لابنته في القصة
السابقة إلى جحود الأبناء لأمهم في قصة (ويستمر العطاء)؛ فقد عزموا على إيداع أمهم
في دار للمسنين؛ فقال أحدهم لها: "من الأفضل أن تكوني في حماية من يشرف على
صحتك وفي صحبة من يؤانسك؟"؛ فتكمل الكاتبة رد فعل الأم؛ بقولها: "انغرس كلامه في تضاريس روحها كسكين حادة
لم تصدق ماسمعته، انفجرت في نوبة نشيج ثم رمقته بنظرات اختزلت كل حنق الدنيا
وغمغمت بجملة حفرت عميقا في وجدانها: هكذا ترون نهايتي أن تلقوا بي في مأوى
المسنين؟ لم أربكم على القسوة والنكران فلماذا ألقى منكم هذا الجحود؟". وفي
مثل هذا يقول الشاعر/ أحمد سالم باعطب:
قالت أتُنْكِرُ في شَيْخوخَتي حَدَبي ***
عليكَ في زمنِ الإعسارِ والنَّصَب؟
رضَعْتَ ماءَ حياتي هانئاً فَرِحاً *** وما
سقيتُكَ غَيْرَ العِلْمِ والأدَبِ.
تقول الكاتبة على لسان تلك الأم:
"دونت في (كنّش مذكراتها)"، ـ (الكناش) في اللغة يعني: الكتاب أو
الدفتر، و(الكُنَّاشَةُ): أوراق الدفتر الذي تقيد فيه الفوائد والشوارد، وهو لفظ
سريالي معرب، متداول في دول المغرب العربي ولكنه غير معروف لدينا في مصر (لهذا
وجبت الإشارة) ـ " دونت في كنّش مذكراتها: مر كل شيء كلمح البصر، سنوات عمري
كغيمة في السماء، تراها بطيئة لكن ما أن تنشغل عنها لبضع دقائق حتى تجدها توارت عن
الأنظار".
فماذا صنعت لتؤنس وحدتها، وتثبت أنها قادرة
على استمرار العطاء؟؛ "جعلت رفيقها قلمها وهاقد شارفت على إنهاء كتابة
مذكراتها وستصدرها في كتاب تضمنه زبدة تجربتها في الحياة ولها أفكار قصص ستشرع في
كتاباتها، كما انفتحت لها صفحات أدبية كثيرة في موقع التواصل الاجتماعي نشرت بها
قصصا وأشعارا؛ لن يقتلها الفراغ، لن تغرق في الوحدة الآسنة، لن تعيش في انتظار
الموت ستجعل حياتها زاخرة بالعطاء كما اعتادتها". يقول الشاعر/ عبد الوهاب
لاتينوس:
ذلك الحرمان الذي دفع بي نحو سحيق الأدب
والكتابة!
الكتابة، في بعض مِن معانيها، هي بحث عن
المعنى،
بحث عن جوهرِ إنسانٍ، وعن معنى أعمق
للحياة.
وهنا تبرز أهمية الاستخدام الإيجابي
للانترنت والعالم الافتراضي، على عكس الاستخدام السلبي المشار إليه في قصة (رفاق
في العتمة)؛ فهو بالفعل سلاح ذو حدين.
(12): ومن الاستخدام الإيجابي للانترنت في
القصة السابقة إلى الاستخدام الإيجابي لثقافة البدائل في قصة (بصيص الأمل) التي
تتناول موضوع الرغبة في الإنجاب، وهنا تبرز مفارقة بين أم تتعجل الخلفة:
"ابتلعت غصة في حلقها وقالت: إلى متى سأتحمل وحدتي القاتلة؟" وبين أم في
القصة السابقة (ويستمر العطاء)، التي أنجبت وربت وعلمت وكبرت؛ وفي النهاية أرادوا
إيداعها في دار للمسنين!.
والجميل في الأمر أن تنتهي القصة بنصيحة
عجوز استفادت الأم مما روته لها عن حياتها؛ فاستلهمت منها فكرة استخدام البدائل
(أطفال الأنابيب أو التبني) لتحقيق أمنيتها، وقد دعتها العجوز لعدم اليأس؛ قائلة:
"لئن أغلقت السعادة أبوابها في وجوهنا فلقد بحثنا عن منفذ آخر إليها مادامت
هناك حياة هناك أمل". يقول الشاعر/ مصطفى الغلاييني :
إِن للآمال في أنفسِنا *** لذة تنعشُ منها
ما ذَبل.
(13): ومن الارتفاع بالأمل في القصة
السابقة إلى السقوط في (الهوة) في هذه القصة التي تصور حالة فقد أبوين لابنهما في
حادث مروع، بعد أن كانا يعدانه ليكون سندا لهما في كبرهما وضعفهما؛ فابنهما اسمه
(سالم)، لكنه لم يسلم من السقوط من المصعد ـ مفارقة بين اسمه وما حدث له، وبين المصعد
والسقوط ـ وهو ربما يكون سقوطا رمزيا على نحو يفتح باب التأويل؛ كأن يكون في سعيه
المحموم (للصعود) المادي السريع، قد ارتكب أفعالا أدت به إلى (السقوط) في أيدي
العدالة، وأيا ماكانت (الهوة) التي أودت به؛ فقد حُرم أبواه منه وهما في أشد
الحاجة إليه، وأخال لسان حال الأب ينطق بقول الشاعر/ المنفلوطي:
أودى بي الحزنُ واغتال الجوى جلدي ***
وفرقَ الشجوُ بينَ الروحِ والجَسَدِ
(ابني) قد كنت لي عوناً أشد به أزري ***
وكنت لنصري خيرَ مُعتَمدِ
(ابني) قدمت روحي أفتديك بها *** من الممات
ولكن ليس ذا بيدي.
(14): ومن الموت (الحِمَام/ بكسر الحاء) في
القصة السابقة إلى (الحَمام/ بفتح الحاء) في قصة (فريد) وهي قصة تُستحسن
وتُستملح لطرافتها، وخلاصتها تجربة إفقاس
(حمامة) لبيضة دجاج، وخروج فرخ، كبر وصار ديكا مدللا، غير أنه مهما حاولوا توفير
الدفء والرعاية له، إلا أن هذا كله لا يغنيه عن حنان أمه، فقامت الأسرة بذبحه
وأكلوه!، والمقصود بهذه القصة: أن تحدي قوانين الطبيعة هو خروج عن مألوفها،
ويذكرنا هذا بالنعجة (دوللي) التي افتخر العلماء باستنساخها من خلال خلية جسمية
لحيوان آخر بالغ، لكن مالبثت فرحتهم أن انتكست حينما أصيبت دوللي بعد ست سنوات فقط
بمرض خطير؛ فقرروا انهاء حياتها بالموت الرحيم. واتساقا مع طرافة هذه القصة؛ أختتم
قراءتي فيها بيت شعر للشاعر/ علاء سالم:
فقربك موت وبُعْدُكَ موتٌ *** ولكنني
اخترتُ موتا رحيما!.
(15): ومن عواقب تحدي قوانين الطبيعة في
القصة السابقة إلى مايعقب الاستسلام لسنة الحياة في قصة (عبق المكان) التي تصور ما
آلت إليه بيوت الأجداد بعد وفاتهم، تلك البيوت التي كانت عامرة بهم وبأبنائهم
وأحفادهم، وقد أحسنت الكاتبة بوصفها البديع لمنزل الجد: "أمام بيت جدي تتسلق
الجدران أغصان الكرم المتسامقة وقد أقام بها خالي سقفا للممر المفضي إلى باب
المنزل فننعم بظلها ونسيمها المهفهف في قيظ الأيام الحارة ونسعد بعناقيد العنب
الحمراء التي يجنبها جدي في موسمها" وتضيف: "جدي وجدتي نبعا حنان يفيضان
علينا نحن الأحفاد في كل حين لا سيما إذا أغضبنا أمهاتنا وآباءنا ففي الاختباء
وراءهما أمن واطمئنان".
وهكذا الأجداد في ذاكرة الأحفاد، تؤكد
حقيقة أن البيوت بساكنيها، الذين بعد وفاتهما وصفت البيت؛ بقولها: "أغصان
الكرم جرداء جافة، الباب متشقق زال عنه أغلب طلائه، دفعته فبدت لي الجدران تبكي
أهلها ـ الجرافة ستبدأ عملها بعد حين ستطيح بكل الجدران ومعها صور أفراحنا ولهونا
وكل مظاهر سعادتنا، ستصبح ذكرياتنا ركاما في مهب الريح". يقول الشاعر/
إبراهيم الأسطى:
بالله يا قلبي أرحني من عذاب الذكريات
وارحم بقية هيكل كالآل أضحى في الغلاة.
(16): ومن (الآل) بمعنى: السراب، وهو وهْم
ومظهر مُغرٍ وخادع، إلى (الوجه الآخر) حيث تتوارى الوجوه خلف الأقنعة الكاذبة
المخادعة، التي ماتلبث أن تنكشف حقيقتها المفزعة؛ فتحدث الصدمة المفجعة، وهو ماعبر
عنه الشاعر/ جابر العثواني؛ بقوله:
في كل يوم ساقطٌ ما أفجعه *** لا الموت لكن
في سقوط الأقنعة.
فإذا ماكان (الخداع العاطفي) خداعا متبادلا
(الحبيب يخدع حبيبته، وفي ذات الوقت الحبيبة تخدع حبيبها)؛ نصبح أمام مفارقة
مدهشة؛ الحبيبة فيها: "ظنت أنه سينتشلها من فقرها ومن سنوات المعاناة والقهر
فإذا به أشد فقرا منها، وهو الذي خدعها بحديثه عن ثراء عائلته ؛ فليتها تقصت
أخباره قبل أن تلقي شباكها حوله". وهنا يحضرنا المثل الشائع (تيجي تصيده يصيدك)
فكلاهما خدع الآخر؛ يقول الشاعر/ أحمد محرم:
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة
صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه
وقال: "إني راحل، ما عاد لي دور هنا،
دوري أنا أنتم ستلعبونه"!.
ولآن القناع لا يخفي الخداع طويلا؛ تكشفت
الحقيقة؛ فهاهو الحبيب: قد "نفس دخان سيجارته ومعه كل أمانيه التي عجز عن
تحقيقها"، والحبيبة: "أغلقت بعنف أبواب مشاعرها وقررت الرفرفة بجناحيها
بعيدا عنه، غادرته دون وداع وتركته غارقا في بحر آلامه".
(17): ومن خداع عاطفي في القصة السابقة إلى
خيبة عاطفية في قصة (طقطقة أنثوية)؛ فهذه القصة تصور مشاعر وحال البطل بعد أن
اكتشف أن من أحبها وتعلق بها قلبه كانت متزوجة؛ حينئذ: "انكفأ على نفسه
والخيبة تهصر جوانحه ـ تحامل على نفسه ونزل من القطار بخطى متثاقلة وهو يرى القدر
يمحو بيد صارمة كل آماله مضى ووجعه يتردد في زفرات حارة يرسلها من أعماقه، ثم غاب
في شعاب الطريق وقد اكفهرّت السماء وأرعدت وأبرقت ثم انفطرت باكية". ولسان
حاله ينطق بكلمات الشاعر/ محمد شرفي (بتصرف):
كنت أظنك أمَلِي الحلوَ / وحبي المكتملا
أروي عطشي من فيض عواطفك الخضرَ/ وأسقي
الغزلا
وأضمك نبضاً في أعماق القلب/ وخفقاً
متصلاً. (ولكن...)!.
(18): ومن إخفاق الحب باكتشاف زواج
المحبوبة في القصة السابقة إلى إخفاق المظهر الخادع والمضلل في قصة (الطعم)؛
فالطُّعْمُ في الأصل هو: ما يُلقى للسمك وغيره لاصطياده، ويطلق مجازا على كل وسيلة
يحقق بها المضلل الهدف من استمالة ضحيته سواء كان ذلك بالوعود الكاذبة أو المظاهر
الخادعة، وهاهو بطل القصة الذي "عصفت به فوضى الأفكار حتى أرهقت قلبه وانضافت
إلى تباريح الأيام التي تضنيه"؛ يقول عن نفسه: "أنا سعيد الذي لا يملك
من السعادة إلا الاسم"!، (ويذكرنا هذا باسم "سالم" الذي لم
"يسلم" من الحادث في قصة "الهوة"، وهنا "سعيد" الذي
لم يكن "سعيدا"، والشاهد أن ليس لهما من اسميهما نصيب). يقول الشاعر/
ابن المقري:
قل لمن الغز السؤال عن مسمى حوى الكمال ***
زال ربع من اسمه فإذا الباقي منه زال.
إن بطل قصتنا (سعيد) قد دفعته (التعاسة)
إلى حالة من التهيؤ للمعاقبة والانتقام: "اهتزت نفسه فاحتقر كل البشر وعزم
على تحدي الذل والمهانة والقهر"؛ فاستخدم القطة التي أودعها لديه أحد الجيران
بسبب ظروف سفره لتكون طُعما لاصطياد فرائسه. ومن ثم تحمل القصة رسالة توعوية مهمة،
خلاصتها (لا تخدعنكم المظاهر)؛ اتساقا مع قول علي بن أبي طالب:
للناس ظاهر والمظاهر تخدع *** فلا تحكمن
بالذي ترى وتسمع.
(19): ومن المظاهر الخادعة في القصة
السابقة إلى القلوب المخادعة في قصة (خلتك جنة) وهو عنوان يشير إلى تصور كان
خاطئا، وثقة كانت في غير محلها، وخداع عاطفي؛ كدر نفس البطلة فبعد أن أصبح حبهما
كمسمار (عتيق) يرفض الانتزاع"، "أحاطت بها أسراب من الهواجس بعد أن طال
انتظارها لطلته البهية"، ثم اكتشفت خداعه لها وكذبه عليها "فهمهمت وهي
ترتشف مرارة الخيبة: خلتك جنة فما كنت لي غير سراب كرهتك كرهتك". هذا التحول
من النقيض للنقيض يثير الدهشة ويدفع للتساؤل، الذي يتسق مع قول الشاعر/ فاروق
جويدة:
فكيف النجوم هوت في التراب *** وكيف العبير
غدا كالشظايا؟
عيونك كانت لعمري صلاة *** فكيف الصلاة غدت
كالخطايا.
(20): ومن الخطأ العاطفي في القصة السابقة
إلى الخطيئة العاطفية في قصة (هذيان) التي تصور مشاعر لقيطة تجاه أمها التي ألقت
بها في عرض الطريق، فريسة للكلاب السائبة؛ يقول الشاعر/ سليمان جوادي (بتصرف):
لكن غدت للهم حانه *** وفي الصبح يتركها
للإهانه
يقول لها الصحب أنت لقيطة *** وإن أشفقوا
قيل بنت فلانه.
وهنا يبرز السؤال الذي طرحته بطلة القصة
نفسها: "ألم تستيقظ غريزة الأمومة في باطنها وهي تغادرني إلى الآبد؟!".
يصف الشاعر/ محمد حسن علوان مثل هذه الأم؛ بقولة:
"(أمٌ)، ولكن بدون أمومة!". لقد ظلمتها (أمها) ولم يرأف بحالها
مجتمعها، وهي الضحية التي لا ذنب لها، وصولا بها إلى غرفة الأمراض النفسية؛ مما
دفعها إلى أن "تبحر بها سفن أوهامها
إلى أبعد المسافات ثم تلقي بها ثانية مكدودة مهزومة على شاطئ حياتها". وهنا
أخال الشاعر/ محمد إقبال لا تعجبه تلك النهاية الحزينة؛ فبنبه الجميع بقوله:
عدة الموت قنوط محبط *** والحياة الحق أن
لا تقنطوا
إنما العيش رجاء يوصل *** فقنوط الحي سم
يقتلُ.
(كلمة أخيرة): لقد استمتعت بقراءة هذه
المجموعة القصصية بموضوعاتها المتنوعة، التي تعنى بالهم الإنساني اجتماعيا
وعاطفيا، والمصاغة صياغة أدبية راقية، تعبر عن مهارة وتمكن من أدوات السرد وسلاسة
الأسلوب وجماليات اللغة، مع خالص التمنيات الطيبة بمزيد من التميز والإبداع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشرت في جريدة (الشارع المغاربي) التونسية يوم الثلاثاء 4 يوليو 2023 على
صفحات ثلاث (قراءتي تقع في أكثر من 3400 كلمة)