تأملات أدبية
في أفق الومضات القصصية
قراءة
الأديب مجدي شلبي في مجموعة الومضات القصصية (زنابق مطر) للأديب العراقي أ/ يحيى
القيسي
بقلم/ مجدي شلبي (*)
مقدمة:
(الومضة القصصية): جنس أدبي ابتكرته من
خلال المزاوجة بين (التوقيعات الأدبية/ أدب الحكمة) و(فن القص)، ونتج عن تلك
المزاوجة؛ جنس أدبي جديد له بصمته الخاصة ووجوده المستقل والمتفرد والمتميز عن
باقي الأجناس الأدبية، وقد سعيت على مدي السنوات الماضية لإرساء دعائم (الومضة
القصصية) من خلال رابطتنا العربية للومضة القصصية، التي شرفت بإنضمام الكاتب
المبدع أ/ يحيى القيسي إليها منذ تأسيسها عام 2013، وقد كان لفوزه الدائم بالمراكز
الأولى في مسابقاتنا اليومية أكبر الأثر في رواج هذا الفن الأدبي المبتكر، جنبا
إلى جنب مع الإخوة والأخوات أعضاء الرابطة من الكتاب والنقاد الكبار من كافة أقطار
وطننا العربي الكبير، الذين أثروا هذا الجنس الأدبي الجديد بنصوصهم التطبيقية،
ومقالاتهم النقدية والتحليلية.
وهذا الكتاب
"زنابق مطر" هو ثمرة عطاء متميز للكاتب المبدع أ/ ليحيى القيسي الذي
التزم فيه بعناصر الومضة القصصية بشكل واضح (التكثيف، المفارقة، الإدهاش، الإيحاء،
والخاتمة المباغتة)، مما يجعله مثالاً نموذجيا مميزاً لهذا الفن الأدبي، وإثباتا
تطبيقيا وعمليا واضحا على أن هذا الجنس الأدبي له خصوصيته، المُدحضة لزعم البعض
أنه هو و(القصة القصيرة جداً) جنس أدبي واحد.
وفي قراءتي هذه، ألقي
الضوء على مجموعة من الومضات القصصية الواردة في هذا الكتاب، لأتيح للقارئ الكريم
فرصة التأكد من تلك الخصوصية الأجناسية، واكتشاف البناء الفني المتميز به، والتأمل
في مختلف الأفكار والموضوعات والأبعاد الأدبية والفلسفية المطروحة في المجموعة،
وأبدأ بعنوان الكتاب (زنابق مطر):
العلاقة
الرمزية بين الجمال والتجدد في (زنابق مطر)
يشير العنوان "زنابق مطر" إلى
نوع من الأزهار الجميلة، التي ترمز للنقاء والصفاء، وعلاقتها العميقة بالمطر، الذي
يرمز للتجدد والخير والخصوبة.
تلك العلاقة الرمزية
تعكس دلالات متعددة، يمكن أن ترتبط بمحتوى الكتاب من حيث الأفكار والمشاعر؛ الحزن
والأمل، والتعطش والهطول؛ فالزنابق برقتها وتقائها، تتعطش للمطر كتعطش القلب للحب،
فحين تهطل قطراته على أوراقها الناعمة، تُنبت فيها حياة جديدة، وكأن المطر هو
السحر الذي ينثر على الزنابق سر الحياة ويبعث فيها روح الجمال.
وغني عن القول أن تركيب
العنوان على هذا النحو ــ الذي قدم "زنابق" وجعلها نكرة، وأتبعها بكلمة
"مطر" نكرة أيضًا ــ أكثر بلاغة وجمالًا في السياق الأدبي، لأنه يحمل في
طياته تجريدًا وإيحاءً، ويوحي بأن المطر جزء من هوية الزنابق، ويعطي انطباعًا قويا
بديمومة ارتباطها بالمطر بشكل مباشر، مما يجعلها أكثر تأثيرًا في النفس وأقرب إلى
الروح الشعرية.
علاقة
الإطار بالمضمون: مدى انسجام العنوان مع روح المتن
من خلال التحليل الفني والموضوعي للكتاب،
يمكن القول أن العنوان يتسق بشكل جيد مع المتن من حيث التكثيف والرمزية، التي تعبر
عن أفكار ومشاعر عميقة، فضلا عن التأثير العاطفي للعنوان من خلال الجمع بين عناصر
الطبيعة الجميلة والمحفزة على التأمل، وهذا يتماشى مع المحتوى الذي يسعى إلى إثارة
التفكير والنقد وتحفيز القارئ على التأمل في معاني الومضات القصصية المعروضة،
وتنوعها الموضوعي؛ حيث تناول الكتاب مجموعة متنوعة من الموضوعات التي تمس جوانب
مختلفة من الحياة، وعنوان "زنابق مطر" يشير ــ ضمنا ــ إلى هذا التنوع،
حيث يمكن تفسيره بطرق مختلفة تتناسب مع كل موضوع.
نافذة مشرعة
على موضوعات منوعة
إذا ألقينا نظرة على متن هذا الكتاب
ومحتواه؛ وجدناه يحفل بالموضوعات التي تمتلئ بالحيوية والتنوع بشكل كبير، مما يضفي
على العمل غنىً وجاذبيةً مميزة، ويسهم في إبراز جوانب متعددة من الحياة الإنسانية،
ويعكس تجارب ومواقف مختلفة، مما يجعله شاملاً لمختلف الأبعاد الحياتية؛ فكل ومضة
قصصية تفتح نافذة جديدة على فكرة أو شعور معين، ويتضح هذا من خلال استعراض بعض
النماذج المعبرة عن تنوع الموضوعات، بداية بالموضوعات الإنسانية والنفسية؛ مثال:
"إهمال: بردَ؛ احترقت مشاعرها." (الصفحة رقم 6)، وموضوعات اجتماعية
وسياسية؛ مثال: "مظاهرة: استشهدَ؛ ازدادَ حضوراً." (الصفحة رقم 7)،
وموضوعات فلسفية وروحانية؛ مثال: "ضياع: بحثَ عن الحياة؛ نسِىَ أن
يعيش." (الصفحة رقم 5)، وموضوعات طائفية: " طائفي: غسلوا دماغه؛
اتّسخَ." (الصفحة رقم 8)، وموضوعات عاطفية؛ مثال: " صلة: تعثّرَ الطفل؛
هوى قلب أمه." (الصفحة رقم 27).
ونلاحظ هنا أن الرابط
الأساسي بين هذه الموضوعات؛ هو التركيز على التجربة الإنسانية من مختلف زواياها،
بلغة مكثفة وقصيرة، لكنها عميقة في معانيها، ومن ثم تتشابك الموضوعات المختلفة
لتشكّل نسيجاً متكاملاً، لهذا عمد الكاتب للتنقل بين الموضوعات المختلفة بسلاسة ــ
دون ترتيب مقصود ــ اتساقا مع تعددية المشاعر والأفكار، وهو ما جعل النصوص مترابطة
بطريقة غير مباشرة، فضلا عن إسهام اللغة الشعرية والرمزية في دعم هذا الترابط.
تجليات
اللغة الشعرية وجماليات الأساليب البلاغية
اللغة الشعرية والرمزية والتناص
والاستعارات والتشبيهات؛ يُطلق عليها في الدراسات الأدبية والنقدية مصطلح
"الأساليب البلاغية"، فإذا كانت هذه التقنيات تُستخدم كحلية تتزين بها
نصوص الأجناس الأدبية؛ إلا أنها في الومضة القصصية ــ تحديدا ــ تُعد ضرورة
حتمية، باعتبارها جزء لا يتجزأ من النص،
وقد استخدمها الكاتب للتأكيد على تلك الحقيقة المميزة لهذا الجنس الأدبي؛ فجعلها
أكثر تعبيرًا وعمقًا، وجاءت لغته شعرية مكثفة تعتمد على الرمزية والإيحاء؛ مثال:
"تحرّر: استغنى؛ اغتنى." (الصفحة رقم 25)؛ مما يضفي على الومضات القصصية
طابعاً شعرياً عميقاً، فتمكن بذلك من إيصال معاني وأفكار معقدة بطريقة مختصرة
ومكثفة، معتمدا على الصور البلاغية والاستعارات والتشبيهات لإثارة المشاعر والخيال
لدى القارئ؛ فإذا كان المطر غالباً ما يرتبط بالتجدد؛ مثال: "حلال: أضاعَ
البذور؛ أخبرهُ المطر." (الصفحة رقم 22)، وجدناه ــ في موضع آخر ــ يدعو إلى
الأسى والأسف نتيجة الصد والعرقلة والإعاقة في طريق الطموح وتحدي العقبات؛ مثال:
"جارح: أعاقهُ المطر؛ طارَ فوقَ الغيم."، ويمكن إضافة تأويلات أخرى ــ
فالنص الجيد هو الذي يفتح باب التأويل ولا يغلقه على دلالة وحيدة ــ ويمكن ربط هذا التفسير بالعنوان نفسه
"زنابق مطر" الذي يجمع بين الجمال والحزن.
وقد نجح الكاتب في
استخدام (الظلام والنور) لتمثيل الصراع الداخلي والخارجي بين الخير والشر، الأمل
واليأس؛ مثال: "ظلامية: نحرَ الياسمين؛ خنقهُ العطر." (الصفحة رقم 12)،
"إِجحاف: أطفأَ نورها؛ اِشتكى ظلمتها." (الصفحة رقم 17)، " نصر:
اِرتدى قفازات الأمل؛ فشلت جراثيم اليأس." (الصفحة رقم 19)، " إِصرار: استلَّ
منديل الأمل؛ تقهقرت دموع اليأسِ." (الصفحة رقم 52).
وفي ومضة مثل
"تهذيب"، يمثل الفنان قيمة الإبداع وقمة المعاناة في آن واحد؛ مثال:
"تألمَ الفنان؛ اسِتمتعَ الجمهور." (الصفحة 35).
كما استخدم الكاتب
(التناص) مع نصوص وتلميحات وإشارات إلى مفاهيم
إنسانية أو أدبية أو دينية؛ منها على سبيل المثال: "طُهر: تذوَّقَ
الصيام؛ تهًّوعَ الذنوب." (الصفحة رقم 73)، و"إجلال: فقدَ عمّته؛ زرعَ
نخلة." (الصفحة رقم 73)، وهو تناص مع قول منسوب إلى الرسول الكريم صلى الله
عليه وسلم: "أكرموا عمتكم النخلة...".
ومن الاستعارات
والتشبيهات التي أبدعها الكاتب أيضا: " حضارة: غَرَستْ يـدُ الماضي؛ أَينعَ
المـُستقـبلُ." (صفحة رقم 42)، و"عناءٌ: نامَ؛ أيقظهُ صُراخ
الذكريات." (صفحة رقم 42)، وهي استعارة تعبر عن الحالة الذهنية للشخص عندما
يحاول النوم؛ ففي حين ينام الجسد، تظهر الذكريات بشكل صاخب في ذهنه، مما يمنعه من الوصول
إلى الراحة الحقيقية، و"خوار: أغاظتهُ ذبابةٌ؛ استلَّ سيفهُ." (صفحة
44)، وهو تصوير رمزي للاستفزاز الذي يمكن أن يؤدي إلى رد فعل مبالغ فيه،
و"رَيب: غاصَ في النفوسِ؛ غَرِقَ." (صفحة 54)، وهي استعارة توضح
المحاولة الفاشلة لفهم العمق الإنساني، و" زيف: أقنعونا بالذهبِ؛ فضحهم
الصدأُ." (الصفحة رقم 43)، تبرز هذه الومضة زيف المظاهر الخارجية وكيف يمكن
للحقائق أن تتجلى بمرور الوقت، (الذهب هنا) يرمز إلى الزيف والتظاهر، بينما
(الصدأ) يكشف الحقيقة الباهتة وراء المظاهر البراقة.
غلاف
"زنابق مطر" ومدى تعبيره عن الثيمات الرئيسية للمتن
غلاف "زنابق مطر" يتوافق بشكل كبير
مع الثيمات الرئيسية لمتن الكتاب من حيث الدلالات الرمزية والعاطفية، التي تعكسها
العناصر البصرية المستخدمة، حيث تظهر في منتصف صورة الغلاف زهرة وردية مبللة
بقطرات المطر، مما يعزز من دلالات الجمال والنقاء والتجدد، (وهو ما يتناسب مع
موضوعات الكتاب، الذي يتناول قضايا إنسانية حيوية ومتجددة)، والزهرة تبدو كرمز
للزنابق المذكورة في العنوان، وخلفها هناك مظلة زرقاء مزخرفة تبدو مبللة، مما يعزز
من فكرة المطر في العنوان، ويضيف عنصر الحماية أو الحنان، والألوان المستخدمة
تتراوح بين الأزرق والوردي، مما يخلق توازنا (يتوافق مع توازن النصوص بين البساطة
والعمق)، وتكثيفا لونيا، يتسق مع العناصر البصرية المكثفة وذات الدلالات الرمزية
القوية، (وهو ما يتوافق مع استخدام الكاتب للغة مكثفة ورمزية موحية في ومضاته
القصصية).
ختامًا
"زنابق مطر": هو عمل
أدبي متميز، ومقارنتة بنصوص قصصية أخرى؛ يوفر فهمًا أعمق لخصوصية وتفرد وتميز هذا
النوع الأدبي المبتكر (الومضة القصصية)، ويدفع القارئ لتقدير أكبر للإبداع الذي
قدمه الكاتب يحيى القيسي في مجموعة الممتعة الرائعة، التي تأسر القلوب وتحرك
المشاعر، وتروي زنابق الفكر بقطرات من مطر إبداعه.
أخيرا وليس آخرا: أوجه
تحية مفعمة بالاحترام والتقدير لك أيها النبيل الكريم على إهدائك هذا الكتاب لي،
فبارك الله فيك، وفي جهودك، وأدام الله ملكاتك الأدبية، وجعل قلمك نورًا يُضِيء
دروب الأدب والفكر، وإلى مزيدٍ من الإبداع والتألق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد
كتاب مصر
ــ نُشرت دراستي هذه في
مجلة النيل والفرات بتاريخ 1 أغسطس 2024