تأملات في
عوالم الشعر التجريدي
قراءة الأديب
مجدي شلبي في ديوان (يسترق السمع) للشاعرالمصري د/ محمد جيب
بقلم/ مجدي شلبي (*)
مقدمة
في هذه الدراسة سنبحر
في عوالم التجريد الشعري، لاستكشاف درر ما أبدعه الشاعر د. محمد جيب في ديوانه
"يسترق السمع"، والوقوف على أبعاده الجمالية التي تتنوع بين التقنية
الفنية، والرمزية المدهشة، والموضوعية العميقة، التي تجعل من هذا الديوان تجربة
شعرية فريدة، تستحق التأمل، والإشادة والتقدير.
دلالة
العنوان وارتباطه بقصائد الديوان
(يسترق السمع) هو عنوان شيّق ومثير للاهتمام؛ إذ
يحمل في طياته العديد من الدلالات والمعاني، التي يمكن أن تُشكل أساسًا محوريا
لمجموعة من القصائد، المشيرة بوضوح إلى (استراق السمع)؛ وهو الانتباه الشديد
للأصوات الخافتة والهمسات، بغية البحث عن الحقيقة، ومحاولة كشف أسرار الكون أو
الحياة، وذلك من خلال الاستماع الدقيق إلى ما يرصده الشاعر، ويعبر عنه من مشاعر
الوحدة والعزلة، والرغبة في فهم ما يدور حوله دون المشاركة الفعلية، وانتقاد
المجتمع الذي يعيش فيه، من خلال تسليط الضوء على ما يخفيه الناس خلف أقنعتهم...
ولاشك أن التركيز على
الحاسة السمعية واتخاذها محورا أساسيا للعنوان؛ يرجع لاهتمام الشاعر بالكلمة، وقوة
تأثيرها على النفوس والعقول ــ حتى لو توارت خلف خفوت الصوت، وشفرية الرمز ــ فهي
وسيلة الشاعر للتعبير، ووسيلة القارئ
لاستكشاف العوالم الخفية في قصائد هذا الديوان، الذي فتح عنوانه الباب
واسعا على العديد من الأسئلة والتفسيرات والتأويلات؛ منها على سبيل المثال:
لماذا (يسترق السمع) وليس
(استرق السمع)؟
ربما لكون (استرق
السمع) وردت في الآية 18 من سورة الحجر منسوبة إلى أحد الشياطين، والديوان لا
علاقة له بهذا الفعل، المنهي عنه، والمُعاقب عليه من قبل المولى عز وجل؛ حتى لو
أطلق البعض على الإلهام (شيطان الشعر)، ومن ثم جاء الفعل المضارع (يسترق) معبرا عن
الاستمرارية والتكرار، المتسم بالديمومة المتوافقة مع الطبيعة الإبداعية.
ومن العنوان إلى صورة
الغلاف، التي تلعب دورًا هامًا في جذب القارئ، وتكوين انطباع أولي عن الديوان، وهو
ما يدفعنا للتوقف عندها؛ لتوضيح مدى الارتباط بينهما.
ارتباط
العنوان بصورة الغلاف
العنوان والصورة يعملان
معًا لخلق تجربة جمالية متكاملة للقارئ؛ فالغلاف يقدم لنا لمحة أولية عن المحتوى
الشعري للديوان، ويشير إلى عمق الفكر الذي يحمله، وذلك من خلال الألوان والرموز؛
فاللون البنفسجي الذي يهيمن على الغلاف، هو لون يرتبط بالروحانية والغموض والحدس،
وهو ما يعكس عمق التفكير الفلسفي للشاعر، والارتباط بعملية الاستماع إلى الذات
والوجود.
أما الزهرة في الجزء
العلوي من الغلاف ــ ربما تكون زهرة لوتس ــ وهي رمز للنقاء والإحياء الروحي، وقد
تشير إلى ميلاد أفكار جديدة وجمالية شعرية.
وتأتي صورة الشخصية
التي تظهر غامضة في الخلفية، بملامح تبدو منغمسة في التفكير، وكأنها تستمع إلى صوت
داخلي، أو إلى همسات الكون؛ فهي دالة على عمق المشاعر والأفكار التي يعبر عنها
الشاعر في قصائده.
وهكذا يقدم الغلاف لمحة
أولية عن المحتوى العميق لهذا الديوان الشعري، الذي يجمع بين الفلسفة والشعر،
ويستخدم لغة رمزية قوية للتعبير عن الأفكار والمعاني، مما يثير الفضول، ويشجع
القارئ على الغوص في عوالمه العميقة، لاستكشاف ما حوته (قصائده النثرية) من درر
ولآلئ.
الأبعاد
الجمالية في القصائد النثرية
من المعلوم أن قصائد
النثر بوجه عام تتميز بخصائص أبرزها: التحرر من القافية والوزن، مما يتيح للشاعر
التعبير عن أفكاره ومشاعره بأسلوب أكثر مرونة وانسيابية، ويساهم في خلق قصائد
متفاعلة مع القضايا المعاصرة، وذات طابع إنساني عميق، وهو ما يدفعنا لمحاولة
استكشاف الأبعاد الجمالية في هذه القصائد من (الناحية التقنية)، و(الناحية
الموضوعية):
فمن (الناحية التقنية):
تتميز القصائد باستخدام بناء شعري محكم، وموسيقي داخلية جيده، وتراكيب لغوية
ونحوية تتسم بالدقة والانسجام، مما يسهم في تعزيز قوة القصائد وجعلها أكثر
تأثيرًا.
ومن خلال التحليل
النقدي، يمكننا استكشاف كيفية توظيف الكاتب للرموز والدلالات، وكيفية بناء الصور
الشعرية لتحقيق التأثير العاطفي والفكري، والتعبير بأسلوب حديث ومعاصر، يتجاوز
الحدود التقليدية للشعر العربي، وفي ذات الوقت يستمسك بالشاعرية في موسيقاه
الداخلية، وصوره الشعرية وأساليبه البلاغية، وتلك لعمري هي أولى الأبعاد التقنية
التي تضفي جمالًا على القصائد، ونبدأ الآن بقراءة موجزة في المحور التقني لقصائد
هذا الديوان؛ بداية من الموسيقى الداخلية، ثم الأساليب البلاغية، ثم الصور الشعرية
المبتكرة.
موسيقى
الشعر في قصائد الديوان
في قصائد النثر ــ التي
يتميز بها هذا الديوان ــ يتغير مفهوم (موسيقى الشعر) مقارنةً بالشعر التقليدي؛
فرغم أنها لا تتبع القافية والوزن الثابتين، إلا أن لها موسيقاها الخاصة بها،
والتي تتجلى في جوانب متعددة، منها:
(الإيقاع الداخلي)؛ مثلما جاء
في مطلع قصيدة (شغف) على سبيل المثال: " منتصف الخريف/ يخلو من الحليب/ الذي
يفطم أطفال القيظ، ويُعلق بطاقة النسيم للناجين من الحرب". (الصفحة رقم 29)
وفي ذات القصيدة جاء
(التباين) بين الجمل الطويلة والقصيرة، و(التوازن) بين الوصف والحدث، مما خلق
إيقاعًا طبيعيًا وجذابًا: "كان الشغف حُلمًا/ يُزعج تعطل الفُصولِ المؤجلة/
للمتعطشين للون الأحمر دومًا/ بعين لامعة..."
ثم يأتي (التلاعب
اللغوي)؛ باستخدام تقنيات الترادف، والجناس، والتكرار؛ لإضفاء موسيقى معينة على
النصوص، لخلق تدفق صوتي مبدع؛ فجاء (الترادف) واضحا في عديد من القصائد منها على
سبيل المثال؛ قصيدة (كذبوا): "ضّحكوا على عوراتنا ورموا نقشًا على حوائط
الوقتٍ!" (الصفحة رقم 7)، وهنا نلاحظ استخدام كلمتي "عوراتنا"
و"حوائط الوقت" اللتين تعطيان معنى مشابهاً فيما يتعلق بالتلاعب
بالعوامل الإنسانية والزمنية.
وجاء (الجناس)؛ في عديد
من القصائد، منها على سبيل المثال؛ قصيدة (استنساخ): "من/ حقنا أن نبصق على
جسد 'جمالات' اللعوب؛/ لأنها تذوقت العسل الحرام، واستباحت../ أن تُخرج عفريت
النشوة من صدر القنوط.. ليرتاح الشبقُ!" (الصفحة رقم 23)، هنا كلمة
"تذوقت" تأتي بمعنيين مختلفين: تذوقت بمعنى تجربة الحلاوة أو الطعم الجيد،
وتذوقت بمعنى تجربة الحرام أو المحظور.
كما جاء (التكرار) في
عديد من القصائد، منها على سبيل المثال؛ قصيدة (تكليف): "يُطلقُ خياله
للعَنانِ/ مع صوت الراديو،/ والصوتُ غير الصوتِ،/ والرصاصة غير الرصاصة،/ والدم
غير الدم،". (الصفحة رقم 41)، ونلاحظ هنا التكرار في "الصوت"
و"الصوت"، "الرصاصة" و"الرصاصة"، و"الدم"
و"الدم"، مما يعزز الإيقاع الموسيقي ويضيف بعداً جمالياً للقصيدة.
كما تأتي الصورة
الشعرية والتخييل (الصور، والألوان، والرموز) لتلعب دورًا هامًا في موسيقى قصائد
الديوان، وتساهم في خلق إيقاع معين يعزز من تأثير النص؛ ففي قصيدة (استراق) على
سبيل المثال: " ليته كان.. دفئًا يترك على الأرواح سَمنه./ ترسم ظله على جدار
الخيال../ ليل نهار.. صباح مساء/ حتى/ لا ننسى هذا الخط الداكن بين نهرين/ أحدهما
يُصفي الماء الأبيض،/ والآخر يُنبت زغب الشعير !/ في المنتصف.. دمعة شحم
ساخنة". (الصفحة رقم 12):
(الصورة) في: "الخط الداكن
بين نهرين"؛ تعطي صورة واضحة للتباين بين النهرين.
(الألوان) في: "الماء
الأبيض" و"زغب الشعير"؛ يضيفان بعدًا بصريًا للنص.
(الرموز) في: "دمعة شحم
ساخنة"؛ تمثل الألم والانصهار الروحي.
هذه الصور والألوان
والرموز تسهم في خلق إيقاع معين يعزز من تأثير النص، حيث أن استخدام الألوان مثل
"الخط الداكن" و"الماء الأبيض" يخلق تباينًا بصريًا يلفت
انتباه القارئ، كما أن الرموز مثل "دمعة شحم ساخنة" تضيف عمقًا عاطفيًا،
مما يجعل القصيدة أكثر تأثيرًا وجاذبية.
أخيرا (الانسيابية
والتجربة الشخصية)، وما يمثله الأسلوب الشعري أو التأملي الذي يمكن أن يخلق موسيقى
خاصة بالتجربة الفردية للشاعر؛ مثلما جاء في قصيدة (طيف): "قلت لها: اليوم
تغيبين/ وفي اللوح حاضرة من تحتِ الكرسي،/ والنغم يَصهل في منتصف الكفّ الأبيض/
القابض على رمي الجمار في البيت العتيق../ ارم شظاياك ولا تلم!/ ألم نكن معا وقت
الإفاضة،/ والنور يحزم كعبتين !" (الصفحة رقم 26).
ونخلص من هذا إلى أنه؛
رغم غياب الوزن والقافية التقليديين، تسعى قصائد النثر عموما ــ وقصائد هذا
الديوان على وجه الخصوص ــ لتحقيق توازن موسيقي خاص يعبر عن الشعور والموضوع
بطريقة إبداعية مبتكرة.
جمالية
البلاغة: فنون التعبير وأسرار البيان
تُظهر قصائد هذا
الديوان الأسلوب الأدبي الفريد للشاعر د. محمد جيب، الذي جمع فيه بين الصور
الشعرية الحية، والأساليب البلاغية المتميزة، التي تضفي عمقاً وجمالاً على النصوص،
ومن الأساليب البلاغية:
(التشبيه) كما جاء في قصيدة
(كساد) على سبيل المثال: " انظر ../ هذه الوجوه باذخة بالعلاماتِ./ إياك أن
تفترض/ أن الله كان معك سَخيًا،/ ولو كان كذلك../ ما كسدت بضاعتك اللامعة في
الأسواق." (الصفحة رقم 65)، وهنا شبه الشاعر الوجوه بعلامات باذخة ليعبر عن
الامتلاء بالتجارب والعلامات المميزة، والتشبيه هنا يوضح مدى تراكم التجارب
والمشاعر على الوجوه.
و(الاستعارة) كما جاء
في قصيدة (يسترق السمع ــ 7) على سبيل المثال: "... قصيدة تعتصرُ النبيذ
الصافي من دِلاته." (رقم الصفحة 81)، وهنا استعار الشاعر فعل
"الاعتصار" لوصف كيفية استخلاص المعاني الشعرية، كما يتم استخلاص النبيذ
من الدلات، وهذا التصوير يعزز فكرة استخراج جوهر الأشياء ونقاوتها.
و(المقابلة) كما جاء في
قصيدة (طيف) على سبيل المثال: "قلت لها: اليوم تغيبين/ وفي اللوح حاضرة من
تحتِ الكرسي،/ والنغم يَصهل في منتصف الكفّ الأبيض." (الصفحة رقم 26)، وهنا
استخدم الشاعر المقابلة بين الحضور والغياب ليوضح التناقضات بين الواقع والمخيلة
أو الذاكرة، والحضور في اللوح تحت الكرسي والغياب في الوقت الحاضر؛ يعكس التباين
بين الوجود الفعلي والمجازي.
و(المجاز) كما جاء في
قصيدة (شغف) على سبيل المثال: "كان الشغف حُلمًا/ يُزعج تعطل الفُصولِ
المؤجلة" (الصفحة رقم 29)، وهنا استخدم الشاعر مجازًا في وصف الشغف بأنه حلم
يزعج تعطيل الفصول، وهذا يعكس قوة الشغف وتأثيره على الجمود والتأخير في حياة
الأشخاص.
ومن الأساليب البلاغية؛
ننتقل إلى الصور الشعرية المدهشة:
تأثير الصور
الشعرية في تشكيل التجريد الشعري
الديوان زاخر بالصور
الشعرية منها على سبيل المثال:
(المدينة.. تخلع أنفاسها من
أدرانِ المساء)، (اختباءً مزرٍ لطاعونٍ الاعتيادٍ المسعور)، (هل تجاوزنا الظماً
الداجن في منتصف القريحة)، (أن تُخرج عفريت النشوة من صدر القنوط.. ليرتاح الشبقُ
)، (اللعنة على الأشقياء الذين يرثون فردوس الشعر، ويبيتون ليلتهم فرادى)، (وسَل
كُلَّ من خلعوا أفكارهم في السوق هل يعودون بالاسم الأول يَافعًا؟)، (قد يُختصر
الحمق في سُطورِ سَوداءَ على السبورة لا تكفي لمزج يُعيد انتصاب الخيالِ في
العُيونِ الراهصة)، (الماء العَالقُ على الجدارِ يَختبيء في جيوب الوقت، بطعوم
الانتظار الأزرق)، (كأن يخبز الهلاوس في محراب أفكاره)
وبناءً على ماتقدم،
يمكن القول أن القصيدة عند الشاعر د. محمد جيب؛ هي عمل شعري عميق ومعقد، اللغة
الشعرية المستخدمة فيه؛ تخلق أجواء غامضة ومبهمة، تجمع بين العمق الفلسفي والغنى
الرمزي، الذي يضيف طبقات من المعنى، ويحفز القارئ على التفكير والتأمل بعمق في
مضمون القصائد، ويفتح الباب واسعا أمام التعددية في التفسير، وعدم قصرها على تفسير
واحد، وهذه إحدي سمات الشعر التجريدي، الذي يركز على البنية اللغوية والمجازات
والصور الأدبية، مما يتيح للشاعر مساحة واسعة للإبداع والتجريب، ويُعتبر الشعر
النثري التجريدي وسيلة للتعبير عن التجارب الإنسانية الداخلية بطرق غير تقليدية،
مما يضفي على النصوص الشعرية عمقاً ودلالة رمزية غنية.
أبعاد
الرمزية: مفاتيح الفهم وأسرار المعاني
نعرض هنا بعض الشواهد
من الرموز في ديوان "يسترق السمع" للشاعر د. محمد جيب، ودلالة كل منها:
الشاهد الأول من قصيدة
بعنوان (إشارات): "ثارة/ قبلة من الشفاه الزرقاء./ يتجشأُ بعدها من الأعماق،/
ويقيس فمه في الحرب؛/ فكل القروح يتبعها أذى،/ ولو كانَ الله يهب له السَّنِمَّاتِ"
(الصفحة رقم 47)، القبلة من الشفاه الزرقاء ترمز إلى شيء مميت أو ضار، فالأزرق قد
يرمز إلى الموت أو البرد، مما يعزز فكرة التأثير السلبي والضار لهذه القبلة، كما
أن "يتجشأ بعدها من الأعماق"؛ يشير إلى عملية استرجاع شيء غير مرغوب فيه
أو مؤلم من الداخل، مما يعكس الشعور بالمرض أو الألم.
الشاهد الثاني من قصيدة
بعنوان (تكليف): "طفلة/ لم تعرف أمها/ خارج الزجاج المظلم/ من جهة البناية
الوثنية." (الصفحة رقم 40)، ترمز الطفلة إلى البراءة والضعف، بينما الزجاج
المظلم والبناية الوثنية يمثلان العزلة والفساد، ويعكس هذا المشهد انفصال البراءة
عن الحماية والرعاية، وربما يشير إلى الفقدان أو التدمير للطفولة أو البراءة في
مجتمع مظلم وفاسد.
الشاهد الثالث من قصيدة
بعنوان (اقتباس): " سيضطر أن يَضعَ كفَّه/ فوق فَمه المخضب برائحة الدم،
والحناء معا؛" (الصفحة رقم 39)، الدم يرمز إلى العنف أو الألم، بينما الحناء
ترمز إلى الفرح والزينة، والجمع بين الاثنين يشير إلى تناقضات الحياة، والمواقف
المعقدة التي تجمع بين الفرح والألم، أو الابتهاج والمعاناة، مما يعكس طبيعة
التجارب الإنسانية المتناقضة.
الشاهد الرابع من قصيدة
بعنوان (مدد): "قد يُغريك الشفقُ/ في موتِ الأصيل الدامي،/ وتظنُّ أن اللهَ
يَسكنُ وراءَ الغروب،/ ويَهبُ ضحاياه خبزا/ لشمس جائعة دومًا بالوارثة!."
(الصفحة رقم 16)، الشفق والغروب هنا؛ يمثلان نهاية النهار وبداية الظلام، مما يرمز
إلى النهاية والموت، ولكن الإشارة إلى الله خلف الغروب يضيف بُعدًا روحيًا، مما
يعكس الأمل والانتظار للوعد الإلهي بالراحة، أو النعيم بعد الموت.
كشف الأبعاد
الجمالية من خلال المحور الموضوعي
تناولنا فيما سبق
الحديث حول (المحور التقني) الذي تمثل في الموسيقى الداخلية، والصور الشعرية،
والأساليب البلاغية، وتوظيف الرمزية، وبقي أن نشير إلى (المحور الموضوعي)؛ إذ
أن قصائد هذا الديوان تتناول مواضيع
متنوعة، بأسلوب يتجاوز الوصف البسيط؛ ليصل إلى أعماق المشاعر الإنسانية، وهذه
المواضيع تعكس تجارب عميقة وتفكيرًا فلسفيًا يتداخل مع الحس الجمالي للقصائد،
وفيما يلي بعض الشواهد، الدالة على هذا التنوع، والمؤكدة له، مثل التأملات
الفلسفية، تجارب الإنسان مع الألم والفراق، وتصوير الطبيعة والوجود:
(التأملات الفلسفية) في قصيدة
(يسترق السمع) على سبيل المثال: "هذا ولدكم - لم يأتِ، فانتظروا الخراب./
الخراب../ صيغة للوقتِ المتحفظِ./ يتفتق من المدى اللزج، ويُنادِي على أمه
الغائبة:/ يا أمي أنا ولدك العدمي.." (الصفحة رقم 79)، وفي هذا الشاهد، يعبر
الشاعر عن تأملات فلسفية عميقة حول العدم والخراب والزمن، والولد العدمي يمثل
الوجودية والبحث عن معنى الحياة، مما يفتح مجالًا للتفكير في مصير الإنسان والكون.
(الحياة والموت) في قصيدة (شرط)
على سبيل المثال: "فأنا لم أمت مطلقاً/ لي نصفي الحي ما زال يستغيث؛/ قد
أمهلكم بعض الوقت للركض،/ ولكن شريطة العودة/ إلى الله الذي يَسكنُ الأَرضَ
بمفرده،/ ولكنكُم لم تسترقوا منه السمع النظيف/ في الأرض." (الصفحة رقم 102)،
الشاعر هنا يناقش موضوع الحياة والموت بعمق، حيث يشير إلى أن نصفه الحي لا يزال
يستغيث، مما يعكس صراع الإنسان مع الموت والأمل في العودة إلى الله والبحث عن
الحقيقة والنقاء.
(الغربة والوحدة) في قصيدة
(يسترق السمع ــ 6) على سبيل المثال: "يا لها من فضيحة.. أهذا ما أرادته/
بلقيس من جدّي سليمان؟!." (الصفحة رقم 80)، الشاعر يعبر عن مشاعر الغربة
والوحدة من خلال استحضار شخصية تاريخية (بلقيس) وشخصية دينية (سليمان)، مما يعكس
التناقض بين العظمة والوحدة، ويثير تساؤلات حول العلاقات الإنسانية والانتماء.
(الحب والشوق) في قصيدة (حيلة)
على سبيل المثال: "المدينة.. / تخلع أنفاسها من أدرانِ المساء./ ترفع وقعَ
الشَّظايا عن كاهلها، / وتمسح خطايا الأثر؛/ فربما يستيقظ الماء في الصدور،/ ويجد
الجوعى خُبزةً سقطت من فم الشرائع." (الصفحة رقم 7)، يستخدم الشاعر هنا صورًا
مجازية قوية للتعبير عن الحب والشوق؛ فالمدينة التي تخلع أنفاسها من أدران المساء؛
تمثل مشاعر التطهير والتحرر، بينما استيقاظ الماء في الصدور؛ يعبر عن الأمل والشوق
لتحقيق الرغبات والأماني.
(الدين والإيمان) في قصيدة
(يسترق السمع ــ 12) على سبيل المثال: "وكل من حرثوا الأرض حديثا/ سَئموا
تقليب الطينِ الذي تَحرُّه الخيل المريضةُ/ بمسٌ يَسْترقُ السمع من غيبِ الزمنِ؛/
عندما/ يستوي الله على/ الكُرسي،/ ويَهبُ التراسل منحةً،/ ومحنةً للسارقين
بإرادته/ من شعراء الأرض!." (الصفحة رقم 86)، الشاعر هنا يعالج موضوع الدين
والإيمان من خلال تصوير العلاقة بين الله والإنسان والشعراء، يربط الشاعر بين
تقليب الطين والبحث عن الحقيقة الروحية، مع التركيز على قدرة الله على منح واختبار
الإيمان بطرق مختلفة.
وهكذا يتميز هذا
الديوان بتنوع المواضيع، التي تشمل التأملات الفلسفية، الحياة والموت، الغربة
والوحدة، الحب والشوق، والدين والإيمان.
تحليل نقدي
للشعر التجريدي: قصيدة (جزء معقود) أنموذجا
قصيدة (جزء معقود) ــ
الصفحة رقم 17 ــ تتسم بغموضها وكثافة معانيها، مما يتطلب تحليلًا نقديًا دقيقًا
لفك رموزها، وإظهار الطبقات المتعددة من الأفكار والمشاعر التي تحتويها:
تبدأ القصيدة بسؤال معقد
يحمل في طياته صورًا من الحياة اليومية والذاكرة؛ السؤال هو: "أين لبنُكِ،
وسمنكِ، وطفلكِ، والجدار الذي سقط؟."، وهو مايثير مشاعر الحنين والتشرد،
مشيرًا إلى أحداث ماضية تحمل الألم والانهيار، هذه البداية تمهد للقصيدة عبر بناء
تواصل مع القارئ عبر الذكريات والأسئلة الوجودية.
ثم يعرض الشاعر تناقضات
داخلية وخارجية تعكس صراعًا نفسيًا واجتماعيًا: "هذا الرجلُ يقضم بالأنياب
هجرات الهوامش، ولا يتورع أن يراه الله عاريًا يجوب الطرقات!."، هنا نرى صورة
رجل يعيش على حافة المجتمع، يتحدى المعايير الاجتماعية ويواجه القيم الدينية بشكل
صريح.
والقصيدة مليئة بالرموز
التي تحمل دلالات عميقة: "وجه الطين سمتُ الأفول، ويُرمم المتعبد آلهة
المجاز."، وهو ما يشير إلى رحلة الإنسان من الولادة إلى الموت، مع مرور
بالعبادات الزائفة، هذه الرمزية تعبر عن التفكك الداخلي والإيمان المتصدع.
ويتم تصوير النار
والشبق كقوى مدمرة ومتجددة، تعكس الشهوة والنهايات المتكررة: "قبل صخب النارِ
التي يُطفئها الشبقُ كُل مساءٍ."، ويعبر هذا عن دورة متكررة من التدمير
والتجدد، حيث الشبق يمثل الرغبات الإنسانية العميقة.
وفي المنفى تواجه
الشخصية المركزية واقعها الجديد وتختار التوحل بذائقة الرجل الأول، مما يعكس
العودة إلى الأساسيات والبدايات الأولى للإنسان: "في العمق؛ هَشاشة في الأفق
المحرف."، وهذا يبرز هشاشة الأمل والانهيار النفسي الذي يعانيه الإنسان في
المنفى.
وفي الختام يعيد القارئ
إلى محور البحث عن المعنى والمصير: "لم يثأر من قصيدتك المقعرة التي أكمَلتَ
بها الجزء المفقود في فُخوخ التعلق بالساقطات."، وهذه العبارة تشير إلى الجهد
المستمر لإكمال ما هو ناقص، والتغلب على الفخاخ النفسية والاجتماعية.
وهكذا نجد أن هذه
القصيدة تستخدم لغة غنية بالتشبيهات والاستعارات، مما يخلق تجربة قرائية تتطلب
التعمق والتأمل، والأسلوب الشعري يعتمد على الجمل المتقطعة والمتشابكة، مما يعكس
حالة التشظي النفسي والاجتماعي للشخصيات، المعبرة عن رحلة إنسانية معقدة مليئة
بالصراع الداخلي والتحديات الاجتماعية، تستخدم الرمزية والغموض لتعميق معانيها
وإثارة تفكير القارئ.
القصائد
التجريدية وجوهر الرسائل الضمنية
يسعى الشاعر من خلال
قصائد ديوانه "يسترق السمع"؛ إلى نقل رسائل متعددة تتراوح بين التأملات
الفلسفية العميقة، وتجارب الحياة اليومية، ويمكن تلخيص الرسائل الأساسية للديوان
في النقاط التالية: البحث عن معنى الحياة، التعايش مع الألم والفراق، الارتباط
بالطبيعة والوجود، التحرر من القيود:
(البحث عن معنى الحياة)؛ مثلما
جاء في قصيدة (تكوين): "سل، وردد أين الله من كل هذه السخافات؟!"
(الصفحة رقم 57)، هنا يطرح الشاعر تساؤلات عميقة حول وجود الله والمعنى الحقيقي
للحياة وسط الفوضى والعبث، وربما يحاول أن يربط بين هذه الأحداث وبين وجود الله،
متسائلاً كيف يتوافق وجود مثل هذه السخافات مع وجود إله حكيم وعادل.
و(التعايش مع الألم
والفراق)؛ مثلما جاء في قصيدة (تجريب): " قلدوا رأسك بقلنصوة إمارة المآته؛
لتسقط بلا عرش، ونسوا أن القصيدة عرش العروش وما عداها تأكل خبزا! لا ضررَ يُذكرُ
ما دامَ واقفًا في أشدّ مواضع القيلولة.. يَحمل الثمار الناضجة،" (الصفحة رقم
93)، الشاعر هنا يرى في التعايش مع الألم والفراق جزءًا من الرحلة الإبداعية
والحياتية، ويعتبر أن الأدب والشعر يمنحان القدرة على مواجهة التحديات والتحمل، من
خلال تقديم معانٍ وثمار إبداعية؛ تعكس القوة والصمود.
و(الارتباط بالطبيعة
والوجود)؛ مثلما جاء في قصيدة (عواء): "الآن خُذ نَفْسًا عَميقًا، واجنح
للسلم برائحة تبشرك .. أن الشمس لم يعد بإمكانها أن تُشرق من أول ضربة فأس."
(الصفحة رقم 58)، تعكس هذه الأبيات ارتباط الشاعر بالطبيعة ورمزية تفاعلها مع
الأحداث الإنسانية.
و(التحرر من القيود)؛
مثلما جاء في قصيدة (فخ): "لا تقترب من ساحة صدرك؛ لأن الهتافات لن تُطاوعك
هذه المرة. هو كذلك رأسه بيضاء بلون الدفتر." (الصفحة رقم 60)، تعبر هذه
الأبيات عن رغبة الشاعر في التحرر من القيود، والتوقعات الاجتماعية والنفسية التي
قد تعرقل تحقيق الذات.
توضح هذه الشواهد كيف
نجح الشاعر في نقل رسائله إلى القارئ؛ عبر لغة تصويرية وتعابير قوية، سعياً للوصول
إلى فهم أعمق للذات والوجود.
ملاحظة
تكرر لفظ الجلالة
(الله) في أكثر من قصيدة من قصائد الديوان، بطرق اعتيادية في بعضها، وغير معتادة
في بعضها الآخر، والاستخدام غير المعتاد؛ ربما يمكن قبوله ــ أو تبرير وجوده ــ في
السياق الشعري؛ إذا قصد الشاعر التعبير عن فكرة فلسفية أو اجتماعية؛ لتسليط الضوء
على فساد أو خلل في المجتمع، أو أن يكون بمثابة تعبير عن التناقض بين المفاهيم
الدينية والواقع الاجتماعي.
وبرغم هذا يمكن أن يثير
هذا الأمر فهما خاطئا، وجدلاً واسعاً، لهذا يجب أن يُحقق الشاعر توازناً بين
التعبير الفني، واحترام القيم الدينية، وفي ذات الوقت يجب علينا النظر إلى النصوص
في سياقها الكامل؛ لفهم النية الكامنة وراء بعض الاستخدامات غير المعتادة.
سمات
التجريد: تشابهات وإلهامات شعرية
ديوان "يسترق
السمع" للشاعر د. محمد جيب؛ يشترك في العديد من السمات مع دواوين نثرية
تجريدية لشعراء آخرين، مما يجعله جزءًا من تيار شعري أوسع يهتم بالتجريد والفلسفة
والوجود من خلال استخدام لغة نثرية تجريدية، ومن الأمثلة المحددة: قصائد مثل
"حيلة" و"نداء" من ديوان "يسترق السمع"، التي يمكن
أن تُقارن بأعمال أدونيس وسركون بولص من حيث الاستخدام المكثف للرموز، والتجريد في
التعبير عن المشاعر والأفكار.
كما أن قصائد
"يسترق السمع" تعبر عن تأملات فلسفية ووجودية حول الحياة والموت، وهو
موضوع شائع في شعر التجريديين مثل: بدر شاكر السياب، الذي يستخدم الرموز والأساطير
لاستكشاف قضايا الحياة والموت، ومحمود درويش؛ الذي يمزج بين التجريدي والواقعي
لاستكشاف الهوية والوجود.
كما أن استخدام الأسلوب
النثري في الشعر لتوصيل الأفكار والمشاعر؛ هو سمة مشتركة بين الشاعر محمد جيب
وشعراء نثريين آخرين مثل: محمد الماغوط، الذي يستخدم اللغة النثرية؛ لتصوير مشاهد
الحياة اليومية، وتحويلها إلى لوحات شعرية، وأنسي الحاج، الذي يستخدم لغة نثرية
تجريدية؛ لاستكشاف الأعماق النفسية والوجودية للإنسان.
ختاما
إن هذا الديوان هو دعوة
مفتوحة لاكتشاف العوالم الداخلية التي تختبئ خلف الظواهر اليومية؛ فكل قصيدة من
قصائده بمثابة رحلة فلسفية تأملية، تسترق السمع إلى نبضات القلب وهمسات النفس،
لترسم لوحة شعرية تجمع بين الرمزية العميقة والعواطف الجياشة، وبهذا الديوان يثبت
الشاعر د. محمد جيب قدرته الفائقة على استنطاق الصمت، وإبراز الجمال الخفي الكامن
في تفاصيل الحياة، مما يترك في ذهن القارئ أثرًا لا يُمحى، ويعبر عن تجربة شعرية
غنية ومتفردة، ترقى إلى مصاف الأدب الرفيع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد
كتاب مصر
ـــ نشرت دراستي هذه في
جريدة النهار العراقية بتاريخ 5 أغسطس 2024
تعليق الشاعر د. محمد
جيب على هذه الدراسة:
"قراءة في
عمق الديوان بوركت أستاذنا الكاتب الأديب
مجدي شلبي وبفكر وبصيرة توهجت في التاكيد
على فعل القراءة الممتدة بعيدا ترهات كسر المقدس مهما قلت يا أستاذنا لن أستطيع
التعبير عن عمق فرحتي بهذه القراءة العميقة وهذا لا أراه غريبا كاتبنا الكبير لأن
من في مكانتك يحمل إرثا ثقافيا وقيمة
أدبية وقامة سامقة في عالم الأدب شعرا
ونثرا ونقدا محبة يا سيدنا علي هذه الحفاوة لك مني خالص المحبة من القلب الأديب الكاتب مجدي شلبي".