قراءة الأديب مجدي شلبي
في المجموعة
القصصية (أراني أعصر حبرا)
للقاص العراقي
أ/ عبدالله الميالي
بقلم: مجدي شلبي (*)
مقدمة
القصة القصيرة جداً
تعدّ أحد أشكال الأدب الوجيز؛ بتجاوبها مع الإيقاع السريع للحياة، ومن ثم تتميز
بالقدرة على نقل عالم كامل من المشاعر والأفكار بشكل مكثف ومركز.
وعلى الرغم من هذا
الاقتصاد اللغوي ــ وربما بسببه ــ نجدها قد تمتعت بقدرة فائقة على إثارة الفضول
وتحفيز التأمل، وذلك من خلال توظيف اللغة بشكل دقيق وفعال لتصوير الشخصيات
والأحداث (تصريحاً وتلميحاً)، مما يجعلها أداة فعالة لخوض غمار موضوعات متنوعة
بطريقة غير مألوفة، تمثل تجريبًا أدبيًا يعتمد على التركيز الشديد والتبسيط
العميق، والسهل الممتنع والممتع معاً، وهذا ما يجعل القصة القصيرة جدا بشكل عام،
وهذه المجموعة القصصية على وجه الخصوص؛ تستحوذ على اهتمام الكتاب والنقاد والقراء.
وهو ما دفعني للاطلاع
عليها بشغف، للوقوف على ما أبدعه الكاتب من موضوعات متعددة بأساليب بلاغية، تعبر
عن رؤاه وأفكاره ومشاعره وأحاسيسه، في حيز ضيق من الكلمات، ومجال رحب من الرموز
والدلالات، التي تفتح باب التأوبل على مصراعية؛ وتدعوني لولوج المجموعة من بابها
الكبير (العنوان)؛ مستعيراً قول الشاعر/ بديع الزمان الهمذاني:
ولي صاحب لما أتاني
كتابه *** نثرت على عنوانه قبلي نثرا.
بلاغة
العنوان في بديع الاقتباس
إن القدرة على جذب
انتباه القارئ وإثارة فضوله من خلال العنوان؛ تُعد مهارة مهمة جدًا لدى القاص، حيث
أن العنوان هو أول ما يواجه القارئ؛ وقد نجح القاص عبدالله الميالي في اختيار
عنوان مجموعته القصصية (أراني أعصرُ حِبراً)، مستخدماً بديع الاقتباس من النص
القرآني (أراني أعصرُ خمرا)؛ فاستطاع أن يجذب الانتباه، إذ أن الاقتباس من نص
معروف يجعل القارئ يتوقف عنده، متأملاً العلاقة بين العنوان والنص الأصلي، كما أن
تغيير كلمة واحدة في التعبير المعروف (من "خمرا" إلى "حبرا")
يثير الفضول أكثر، ويطرح التساؤل عن هذا التغيير وما قد يعنيه في سياق المجموعة
القصصية، وما يحمله من رمزيات متعددة، حيث أن الحبر يرتبط بالكتابة والإبداع
الأدبي، مما يُشعر القارئ برغبة في استكشاف ما يعبر عنه الكاتب من أفكار أو تجارب
متحصلة من (عصر الحبر)، الذي يوحي بعملية إنتاجية، وجهد إبداعي يثير الرغبة في
معرفة كيفية تحويل الأفكار إلى نصوص مكتوبة.
وهكذا جاء التصوير
الفني للعملية الإبداعية، والتأويل الشخصي لتجربة القاص في الكتابة الأدبية، عن
رؤية حياتية وليست رؤيا منامية؛ فـ(أراني) هنا تشير إلى الرؤية والإدراك والتجسيد،
واستخدام ضمير المتكلم يعطي العنوان بعدًا شخصيًا، مما يجذب القارئ نحو الشعور
بالتواصل مع تجربة شخصية للقاص، متشوقا لمعرفة القصة الشخصية وراء هذا التعبير.
وإذا كانت (أعصر): أي
"أعمل بجد وجهد شديد"، في إشارة رمزية ــ كما ذكرنا ــ إلى العناية التي
يبذلها الكاتب في التعبير عن أفكاره ومشاعره في أعماله الأدبية؛ فإن (حِبراً):
ترمز إلى الكلمات والنصوص التي خلص إليها الكاتب في تعبيره عن تلك الأفكار
والمشاعر برمزية وإيحاء وحرفية وانتقاء؛ (انتقاء) يصدق فيه قول الشاعر/ أحمد علي
سليمان عبدالرحيم:
وظرفكِ في
انتقاء اللفظِ يأسرني *** بإيحاء جميل الوقع كالشعر.
إن استخدام الاقتباس
والرمزية اللغوية في العنوان؛ جعلاه أقوى جاذبية، وأكثر عمقاً، وأدعى تأملاً، وأشد
إثارة، ومهدا الطريق للقارئ كي يدرك أن عملية التعبير والإبداع في قصص المجموعة؛
ستكون بشكل مجازي ورمزي بدقة وإتقان، دون الحاجة إلى التفصيل الواضح، وهو ما
سأحاول تناوله الآن في قراءتي المتواضعة، مشيرا في البداية لما يثيره البعض حول
أزمة (الزمكانية) في القصة القصيرة جداً...
تجاوز أزمة
(الزمكانية) في القصة القصيرة جدا
لقد رأينا بعض النقاد
يعيبون على القصة القصيرة جداً خلوها من الزمكانية، معتبرين أنها تفتقر إلى العمق
والتطور؛ حيث يرى هؤلاء النقاد أن القصة القصيرة جداً لا تمنح القارئ الوقت الكافي
لفهم سياق القصة، وتكوين صورة ذهنية واضحة للأحداث والشخصيات.
ومع ذلك فإن هناك من
يرى ــ ونحن منهم، وسوف أدلل على هذا من خلال شواهد من قصص المجموعة ــ أن القصة
القصيرة جداً يمكن أن تكون فعالة للغاية في إيصال رسالتها، حتى بدون استخدام البعد
الزمكاني بشكل واضح، وذلك من خلال استخدام تقنيات مثل الإيحاء والرمزية، بما يمكن
الكاتب من خلق عالم غني ومعقد في بضع جمل
قصيرة.
ففي النصوص المكثفة
يكون الاهتمام بالحدث أكثر من تحديد الزمان والمكان، نظرًا لطبيعة النص والغرض
منه، والتأثير الذي يريد الكاتب أن يحققه، وهو التركيز على نقل شعور معين أو رسالة
فلسفية أو مشاعر عميقة، دون الحاجة إلى توجيه القارئ بتفاصيل زمانية ومكانية
دقيقة، على نحو يطغى على الحدث ذاته، ومن ثم يكون استخدام الزمان والمكان بشكل
(ضمني) ليس فقط كإطار للأحداث، ولكن كعنصر رمزي ومعنوي يساهم في تحديد مضمون القصة
وتأثيرها على القارئ، وهذا هو الهدف الأساسي من القص.
ومن خلال
قراءة دقيقة في بعض قصص المجموعة، يمكن اكتشاف
عنصري
الزمان والمكان المستخدم
ففي قصة (فرحة): الزمان
يقع بين الحاضر: وهو زمن وقوع الحدث، وهو انتهاء الانتخابات واستعداد الأطفال
للاحتفال، والمستقبل: غير المحدد بشكل صريح، لكن يمكن استنتاجه من خلال
"استعدّ" و"الاحتفال".
أما المكان فهو
"مدينتي": أي المكان الذي يعيش فيه الراوي والأطفال.
وفي قصة (الوداع):
الزمان يقع بين الحاضر: زمن وقوع الحدث الرئيسي، وهو عودة الأسير من الأسر،
والماضي: الذي يشمل الفترة الطويلة التي مرت على غياب الأسير، والتي امتدت لأربعين
عامًا، والمستقبل: الذي يمكن استشفافه من خلال "عُكاز الرحيل" الذي
يُشير إلى اقتراب الوفاة.
أما المكان: فهو غير
محدد بشكل صريح، لكن يمكن استنتاجه من خلال بعض الإشارات، مثل "الوداع"
و "عُكاز الرحيل"، وهو هنا مكان نفسي حيث يقبع الحزن والألم في براح
الانتظار، وضيق الصدر ونفاد الصبر.
وفي قصة (العين
بالعين): الزمان يقع بين الماضي: زمن وقوع الأحداث الرئيسية في النص، وهي تبادل
الرسائل بين الراوي وحبيبته، وخطأ الراوي في إرسال الرسالة، وهجوم شقيق الحبيبة
عليه، والحاضر: زمن رواية القصة، حيث يُجيب الراوي على سؤال المذيع عن ذكريات
الزمن الجميل.
أما المكان: فهو غير
محدد بشكل صريح، لكن يمكن استنتاجه من خلال السياق، فـ(وجود حبيبة للراوي) يدلّ
على وجود مكان جمع الراوي بحبيبته، كما أن استخدام الصواريخ الورقية لتبادل
الرسائل؛ يدلّ على وجود مسافة بين الراوي وحبيبته، وهجوم شقيق الحبيبة على الراوي؛
يدلّ على وجود مكان يمكن أن يتواجد فيه شقيق الحبيبة، مثل منزل الحبيبة أو مكان
قريب منه.
وفي قصة (نذالة):
الزمان يقع بين الماضي: زمن وقوع الأحداث الرئيسية في النص، وهي لقاء البطل
بالفتاة لأول مرة، وكتابة البطل لقسمه على كتابة رواية عنها، واحتراق الصفحة
البيضاء، والزمن الحاضر: الذي يمكن استنتاجه من خلال عبارة "استعدَّ البطلُ
لروايةٍ جديدة".
أما المكان: فيمكن
استنتاج بعض المعلومات عنه من خلال السياق، مثل: وجود شجرة كثيفة الأغصان، وهو
يدلّ على وجود مكان مفتوح أو حديقة، ولقاء البطل بالفتاة لأول مرة؛ يدلّ على وجود
مكان ما التقيا فيه.
وفي قصة (الحياة):
الزمان: يمكن استنتاج الزمن الحاضر من خلال الأفعال:"هَرَبَ"،
"تجاوزَ"، "تاهَ"، "نظرَ"، "استعان"،
"سَمَعَ"، "عادَ".
أما المكان: يُشير
المكان الرئيسي في النص إلى "صحراء أفكاره"، ويُشير المكان الآخر إلى
"سجنه".
وهكذا استطاع القاص عبد
الله الميالي ببراعة أن يحقق المعادلة الصعبة، ويحل الإشكالية الجدلية المتعلقة
بالزمكانية، ويتحفنا بمجموعته القصصية (أراني أعصرُ حِبراً) التي ضمت مئة قصة
قصيرة جداً، يصدق فيها قول الشاعرة/ علية بنت المهدي (بتصرف):
إنها قصص برموز للحضور
*** وَإِيحاءٍ يلوح من بين السطور.
استخدام
الرمزية في قصص المجموعة
لا شك أن استخدام
(الرمزية) في قصص هذه المجموعة قد ساهم في إغنائها وجعلها تعبر عن معاني أعمق
وأوسع؛ لذا يمكن القول أن الرمزية تقنية أدبية تُعزز من قوة النص الأدبي وتأثيره
على القارئ، ومن أمثلة ذلك:
قصة (تعايش): التي
تتضمن عديد من العناصر الرمزية التي تُثري المعنى وتُضفي عليه أبعادًا مختلفة؛ أهم
هذه الرموز:
1ــ التحول إلى صرصار: حيث يرمز
تحول الراوي إلى صرصار إلى اغترابه عن المجتمع البشري وشعوره بالوحدة، ويُشير
الصرصار إلى مخلوق غريب يُنظر إليه غالبًا على أنه مُقزز ومُخيف، مما يعكس شعور
الراوي بالتهميش وعدم القبول، ويُمكن أيضًا تفسير التحول كوسيلة للهروب من واقع
قاسٍ لا يستطيع الراوي التأقلم معه.
2ــ الحفاظ على الجثة من
التفسخ: ترمز إلى التشبث بالحياة حتى في شكله الجديد؛ رفضًا لفكرة الموت والفناء،
والتوق إلى الخلود.
وفي قصة (صيد): تفتح
رموزها الباب واسعاً لعديد من الدلالات منها:
1ــ الدورة الطبيعية للحياة حيث
يُظهر النص التفاعل بين مختلف الكائنات الحية في النظام البيئي؛ فالعنكبوت يصطاد
فريسته (النحلة) بينما تراقب الذبابة المشهد، والعقرب بعد اصطياده فريسة أخرى،
يعود إلى جُحره منتشياً.
2ــ أو صراع الكائنات الحية من
أجل البقاء، فكل كائن يسعى للحصول على غذائه.
3ــ أو دلالة على الخطر والموت
ووجود خطر بيئي قادم، من خلال رموز كائنات سامة كالعنكبوت والعقرب.
4ــ أو مجرد رمز للصبر: صبر
العنكبوت في نسج خيوطه لصيد فريسته.
5ــ أو رمز للصراع بين الخير
والشر ــ وأعتقد أن هذا هو الأرجح ــ أو إسقاط على مشاهد بشرية يراها الإنسان في
رحلته الحياتية...
وفي قصة (جلجامش): نجد
العناصر الرمزية التالية:
1ــ انبعاث جلجامش من رماد
مكتبة التاريخ: هو رمز يدلّ على خلوده كرمز ثقافي وقيمة إنسانية؛ فقصته حُفرت على
ألواحٍ طينيةٍ صمدت عبر الزمن، ليُصبح رمزًا للحضارة الإنسانية وتجاربها، ويُشير
هذا الرمز إلى قدرة الفنون والآداب على تجاوز الزمن ونقل المعرفة والقيم للأجيال
القادمة.
2ــ اشتياقه لملحمة جديدة: يدلّ
هذا الرمز على رغبته الدائمة في التحدّي واكتشاف معنى الحياة؛ فبعد خوضه مغامراتٍ
عظيمة مع صديقه أنكيدو، لم يكتفِ بما حققه، بل سعى لمزيد من المعرفة والتجارب،
ويُشير هذا الرمز إلى سعي الإنسان الدائم للتطور والارتقاء، وعدم رضاه عن الوضع
الراهن.
3ــ التهامه ما تبقى من أسطورة
قديمة: يدلّ على رغبته في استيعاب المعرفة والتجارب من الماضي، فهو لم يكتفِ
بملحمته الخاصة، بل سعى لفهم تجارب الأبطال الذين سبقوه، يُشير هذا الرمز إلى
أهمية تراكم المعرفة عبر الأجيال، ودور كل جيل في بناء الحضارة الإنسانية.
4ــ وذات ربيع لم تنفعه نجدة
"أنكيدو": إشارة إلى عجز الإنسان عن تجنّب الموت، حتى في أوج قوّته،
ويُشير هذا الرمز إلى أن الحياة فانية، وأنّ الموت قدرٌ لا مفرّ منه.
5ــ غوصه بحثًا عن قبر: يدلّ
على بحثه عن سرّ الحياة والموت؛ فهو لم يستسلم لفقدان "أنكيدو"، بل سعى
جاهدًا لفهم معنى الموت وإيجاد حلّ له، يُشير هذا الرمز إلى سعي الإنسان الدائم
لفهم معنى الحياة والموت، ورغبته في إيجاد الخلود.
هذه مجرد أمثلة توضح
كيف استخدم الكاتب الرمزية بشكل متقن لتعزيز رسائل قصصه وتأثيرها على القارئ،
فالرمزية في هذه القصص لم تكن مجرد زخارف، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من بنية النص
ومن الرسالة التي يرغب في توصيلها إلى القارئ، وأداة فعالة في توصيل المعاني
العميقة، وإبراز النواحي النفسية والعاطفية للشخصيات.
ولم يعتمد القاص في
سرده القصصي على أسلوب وحيد (نمطي)؛ بل تنوعت أساليبه السردية واللغوية، وهو تنوع
أستعير في وصفه قول الشاعر/ عبدالغني النابلسي (بتصرف):
وتأمل (الأنماط) حيث
تنوعت *** لك تنجلي في بهجة وبهاء.
تنوع
الأسلوب السردي
إن قصص هذه المجموعة
تمثل تنوعاً في استخدام الأساليب السردية واللغوية، بشكل مبدع يؤدي لتعزيز
المشاهد، وتعميق المعاني، وإيصال الرسائل النفسية والفلسفية؛ مما يسهم في إثراء
تجربة القراءة، بمحاولة تفسير القصص بشكل أعمق؛ فقد استخدم الكاتب (الرمزية) في
بعضها لنقل رسائل معقدة أو لإيجاد تأثير عميق، مثلما ورد في قصص: (تعايش، صيد،
جلجامش) ــ كما سبق أن أشرنا ــ، واعتمد (الشاعرية) في البعض الآخر لخلق جو من
الجمال والتعبير الفني، مثلما جاء في:
قصة (أصوات): التي
تتميز بشعرية واضحة من خلال عناصر: الصور الحسية (الصوت/ "الطفلُ يتمرّدُ على
النوم، يعزف ببراعةٍ سيمفونيةَ البكاءِ")؛ فتُجسّد هذه العبارة صوت بكاء
الطفل كسيمفونية، مما يُضفي على النص صفة موسيقية، وعبارة "الأبُ يدخلُ على
الخطِ لضبطِ إيقاعِ نغماتِ الشخيرِ"؛ فيها تشبيه لصوت الشخير بنغمات موسيقية،
ممّا يُضفي على النص لمسة فكاهية ساخرة، (سيأتي الحديث عن السخرية لاحقاً).
وقصة (هواية): التي
تتميز بلمسات شعرية خفية، من خلال الصور الحسية: "لَمحها بثوبٍ جَديد"،
"سالَ لِعابه"، "دَفَعَ مهرَها بسرعةِ البرق"، "جَلسَ في
الباص يحتضنها"، "امتشقَ قلمه"، "طعنها برفق"،
"رماها من النافذةِ منتشياً"، وهذه العبارة الأخيرة تجسد شعور الرجل
بالفخر والإنجاز بعد حلّ الكلمات المتقاطعة، ممّا يُضفي على النص لمسة من البهجة
والسعادة، كما اتسمت القصة بإيقاع سريع يتناسب مع سرعة الأحداث،
وقصة (ألغام): التي
تتميز بلمسات شعرية عميقة، تظهر من خلال الصور الحسية: "في بلادِ
الغُربةِ"، "استلمَ هديةَ صديقه"، "فتحَ الحقيبةَ"،
"حفنةٌ من ترابِ الوطنِ": تُثير هذه العبارة مشاعر الحنين إلى الوطن
والشوق لأرضه، ممّا يُضفي على النص لمسة من الرومانسية، و"امتلأتْ كفّه
دَماً": تُجسّد هذه العبارة المفاجأة والصدمة التي شعر بها الشخص عند رؤية
الدماء، ممّا يُضفي على النص لمسة درامية، وقد تميزت القصة بإيقاع سريع يتناسب مع
سرعة الأحداث، ممّا يُضفي عليه لمسة من التشويق.
بينما استخدم القاص
(الواقعية) في قصص أخرى لتصوير حقائق ووقائع تنم عن الواقع المعاش والتجارب
الإنسانية، مثلما جاء في:
قصة (مصائب): التي
تميزت بواقعية مُؤلمة، حيث تُجسّد معاناة الناس بعد غارة جوية على مدينتهم، من
خلال المشهد العام: "انتهتِ الغارة"، "خرجتِ المدينة تُلملم
أشلائها"، "خسائرُ بيتنا ليست كبيرة"، "دميةٌ محترقة"،
"وطفلةٌ غادرتْ تُجدّل ضفائر الشمس": تُشير هذه العبارة إلى موت الطفلة
في الغارة، ممّا يُضفي على النص شعورًا بالفاجعة.
وقصة (نفاق): التي
تتميز بواقعيتها المُنكشفة، حيث يُجسد تناقض (المظاهر الخارجية): "زرتُ صديقي
العائدَ من المهجر"، "رأيتُ على وجهه سيمياء المؤمنين وقد طالتْ
لِحيته"، و"حدّثني عن الإيمان"؛ مع (السلوكيات الداخلية):
"عادتْ ذاكرتي إلى عشرِ سنوات عندما اقترضَ مني وهرب"، و"لم يُسددْ
الدين حتى الآن".
وقصة (درس): التي تتميز
هي الأخرى بواقعيتها المُؤلمة، حيث تُجسد تجربة قاسية عاشها الراوي في طفولته:
"صفعني المُعلمُ لأنّي لم أحفظ جدولَ الضربِ"، "استوعبتُ الدرسَ
جيداً"، و"كلمّا نسيتُ شيئاً تلمّستُ خدّي".
وتقودنا هذه القصة إلى
الحديث حول تقنية التندر والسخرية والتفكه في القصة القصيرة جداً عموماً، وفي هذه
المجموعة القصصية تحديداً، وأستعير لتقديم هذا الباب؛ قول الشاعر/ أحمد شوقي:
من كـل
فــاكهة وكل فكـاهـة *** هيأت نحـلاً واتخـذت شـرابا
ما زلت تنثر
كل طيبة الشذى *** حتى جمعت من الزهور كتابا
فـأتى ألـذ
من الربيع وعهـده *** فضـلاً وأمتع في الـبدائـع بابا.
تقنية
التندر والسخرية في هذه المجموعة
السخرية في القصة
القصيرة جداً ــ عموماً ــ تلعب دورًا محوريًا في إيصال الرسائل بشكل مكثف وغير
مباشر، من خلال تكثيف المعنى واختزال الأفكار والمشاعر في جمل قصيرة، مما يعزز من
قوة النص ويجعله أكثر تأثيرًا، كما تُستخدم السخرية لتسليط الضوء على التناقضات
والعيوب في المجتمع بأسلوب لاذع، مما يدفع القارئ للتفكير بعمق حول الموضوع،
وإضفاء الطابع الفكاهي يجعل القصة أكثر جذبًا وإمتاعًا للقراء، ويسهم في تخفيف ثقل
الموضوعات الجادة.
فضلاً عن اعتماد
السخرية على التلميح والإيحاء بدلاً من المباشرة والتصريح، مما يُشرك القارئ في
عملية فك الرموز وفهم المعاني المخفية، فيزيد تفاعله مع النص، وقد وضح هذا جليا في
قصص المجموعة، ومن أمثلة ذلك:
السخرية من الواقع
السياسي في قصة (مفاجأة)، والسخرية من الواقع الاجتماعي في قصة (عزيمة)، السخرية
من مصير الإنسان الخائف في قصة (عقوبة)، السخرية من عبثية العملية النقدية وغياب
عدالتها في قصة (تأديب)، والسخرية من عبثية الحياة والضغوط اليومية في قصة (قرار)،
والسخرية من السطحية في قصة (مسلسل)...
ولأن الأسلوب الساخر والتصوير
الحي يجعل القصص قوية ومؤثرة لكونها مكثفة وموحية؛ فقد نجح الميالي في استخدامه
الرمزية والاختزال لطرح قضايا اجتماعية وسياسية بعمق وسخرية جادة، وجدية ساخرة.
تنوع
الموضوعات
وكما تنوعت الأساليب
السردية المستخدمة في قصص المجموعة ــ على نحو ماتمت الإشارة إليه ــ (الرمزية،
الشاعرية، والواقعية)؛ تنوعت أيضاً الموضوعات التي تم التعبير فيها عن المشاعر
بشكل فعال؛ مثل: الحب في قصة (اشتعال)، والفقدان في قصة (الوداع)، والحرية في قصة
(انتفاضة)، والمأساة في قصة (مصائب)، والانتقام في قصة (كَيْدهُم)، والخيانة في قصة
(مؤامرة)، والغموض في قصة (صَيْد)، والذكريات في قصة (ذكريات)، والأحلام في قصة
(أحلام)، والتضحية في قصة (وفاء)، والعزيمة في قصة (عزيمة)، والمرارة في قصة
(تصحّر)، والمحن في قصة (حصاد)...
هذه العناوين تمثل
مجموعة متنوعة من الموضوعات والمشاعر التي تناولتها القصص المختلفة في هذه
المجموعة؛ فكل قصة تحمل رسالة فريدة وتعبر عن جانب معين من تلك الحالات، مما
يجعلها متنوعة وغنية بالمحتوى الأدبي والإنساني.
التوفيق في
العنونة
ومثلما كان القاص
موفقاً في اختيار عنوان مجموعته القصصية؛ كان موفقاً ــ أيضاً ــ في اختيار عناوين
قصصه بصورة عامة، على نحو يثير الفضول، ويلمح لمحتوى غني يستحق الاكتشاف، وأبرز
هذه العناوين: عنوان (عُروج)، وجاءت بعض العناوين على نحو يتراءى لنا ــ في
البداية ــ أنه كاشف عن مضمون القصة وموضوعها بشكل واضح، لكن سرعان ما نكتشف أن
هذا الوضوح كان وضوحا مراوغا؛ ومن الأمثلة؛ عناوين: (مفاجأة)، و(تعايش)...
خلاصة القول
القصص التي ضمتها
المجموعة القصصية (أراني أعصرُ حِبراً) تبرز تجربة إبداعية غنية ومتنوعة، في
المواضيع والأساليب، وفي التعبير عن المواقف النفسية والاجتماعية مما يعكس تجربة
إنسانية واسعة النطاق؛ تلقي الضوء على التحديات والمعاناة والنضالات الإنسانية؛
لحث القارئ على استكشاف الحياة بطرق مختلفة، وتترك لديه انطباعاً قوياً يدفعه
للتفكير في مختلف الجوانب الفلسفية والعاطفية للحياة، والتأمل في عمق الإنسان
وتعقيداته، وتُظهر مستوى عالٍ من الإبداع والمهارة القصصية للقاص عبدالله الميالي،
الذي تمكن من إنشاء نصوص تحمل رسائل ومعاني عميقة تستحق الاستكشاف والتأمل، وتعكس
احترافية وإبداعًا فنيًا قصصيًا ملحوظًا في هذه المجموعة، وهو ما أهله للفوز عنها
بالمركز الثالث في جائزة دمشق بنسختها الثالثة لأفضل مجموعة قصص قصيرة جداً عربية
في العام 2023؛ فخالص التهنئة وإلى مزيد من الإبداع والتميز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجدي شلبي ــ عضو النقابة
العامة لاتحاد كتاب مصر
ــ نُشرت هذه الدراسة
في جريدة النهار العراقية بتاريخ 18 يونيو 2024
وفي مجلة المدار الثقافية
المغربية في العدد المزدوج (يوليو وأغسطس/ 2024)
تعليق الكاتب أ/
عبدالله الميالي على دراستي النقدية:
"كل الشكر
والتقدير للناقد المصري مجدي شلبي على إضاءته لمجموعتي القصصية (أراني أعصِرُ
حِبرًا) التي نشرها في مجلة (مدارات الثقافية) المغربية بعددها المزدوج لشهري
يوليو/أغسطس. وكل الشكر للأستاذ الحسن الكامح رئيس تحرير المجلة".