أصداء الحنين والأثر/ نقش خالد في ذاكرة الأدب
قراءة الأديب
مجدي شلبي في ديوان (خربشة على جدار الزمن) للشاعر المصري أ/ جمعة مبارك
بقلم/ مجدي شلبي (*)
مقدمة
في عالم الشعر تتنوع الأشكال
والأساليب، ويظهر الشعر العامي كصوت ينبع من أعماق الشعب، ليحاكي همومه وآماله،
ويرسم بحروفه صوراً ناطقة تعبّر عن واقع الحياة اليومية، ويأتي ديوان "خربشة
على جدار الزمن" للشاعر جمعة مبارك، بتمكنه البارع من اللغة العامية، لينسج
من حروفها وكلماتها نسيجاً شعرياً يأسر القلب والعقل معاً، ويصل مباشرة إلى روح
القارئ، ويجعله يعيش كل لحظة وكل تجربة وكأنها جزء من حياته الخاصة، فيترك هذا
أثرا خالدا في ذاكرته لا يمحوه الزمن.
ومن هنا تنبع أهمية هذا
الديوان؛ لكونه يعكس بصدق وعفوية تجربة الشاعر الذاتية وتجارب من حوله، مستخدماً
لغة بسيطة لكنها عميقة، تدعو للتفكير والتأمل، في محاولة لفهم اللحظات التي قد
تبدو صغيرة في ظاهرها، لكنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات، التي لا
تعبر فقط عن اللحظات العابرة، بل تغوص في أعماق التجربة الإنسانية، ملتقطة تفاصيل
الحياة بكل ما فيها من ألم وفرح، من نجاح وفشل، مجسدا ــ من خلال قصائده ــ الصراع
الأبدي بين الإنسان و(جدار الزمن)، الذي نحاول جميعاً أن نترك عليه (خربشة)
بصماتنا، قبل أن نمضي، ومن هنا تتضح دلالة العنوان العبقري ورمزيته.
تجليات
العنوان في قصائد الديوان
إن استخدام مفردة
"خربشة" يضفي على العنوان طابعاً من العفوية والتلقائية، التي قد تكون
عميقة التأثير رغم بساطتها الظاهرية، و"الجدار" كرمز يمثل الثبات
والدوام، يدفعنا لاستعراض قصائد الديوان؛ لملاحظة كيف أن العنوان "خربشة على
جدار الزمن" قد تجلى في العديد من القصائد، حيث يعبر الشاعر عن رغباته
وأحلامه وتجارب حياته، التي يحاول نقشها على جدار الزمن؛ وأبرز هذه القصائد:
القصيدة التي حملها عنوان الديوان (خربشة على جدار الزمن)، وقد عبر الشاعر فيها عن
رغبته في ترك أثر بسيط على جدار الزمن، متمثلاً في أمنيات وكلمات قليلة لكنها تحمل
معانٍ عميقة: "كان نفس أخربش في الجدار/ واترك علامة أو اثر/ حبة أماني
وكلمتين/ أو نقش مرسوم ع الحجر." (الصفحة رقم 26).
وهكذا يتضح ارتباط
العنوان بمضمون القصائد، حيث تتجلى الخربشات كرموز للتجارب الإنسانية التي تترك
أثراً على جدار الزمن، مجسدةً الطموحات، الأحلام والآلام التي عبر عنها الشاعر
بلغة عامية بسيطة وعميقة في آن واحد، وصانعة جسرا من المشاعر المتبادلة بينها وبين
القارئ.
وكما استطاع الشاعر
توظيف قصائده لتكون جسرا بينه وبين قارئه، سوف ألقي الضوء على كيفية تمكن الشاعر
من توظيف اللغة العامية؛ لتكون جسراً يصل بين الزمان والمكان.
الزمكانية
في ديوان "خربشة على جدار الزمن"
(الزمكانية) في هذا الديوان؛
هي عنصر رئيسي يعكس تداخل الأحداث والمشاعر عبر الزمان والمكان، وقد استطاع الشاعر
جمعة مبارك توظيفهما بمهارة، ليعبر من خلالهما عن تجارب إنسانية وعاطفية عميقة،
مما يضفي بعدًا فلسفيًا ووجوديًا على قصائده، ويأتي البعد الزماني ليشكل جسرًا بين
الماضي والحاضر والمستقبل؛ مما يخلق تواصلاً مستمراً بين التجارب والذكريات، وقد
يأتي الزمن كعنصر متغير؛ فيعبر الشاعر عن مرور الزمن وتأثيره على الإنسان،
والعلاقات بين الأحباء؛ مثلما جاء في قصيدة (وهم) على سبيل المثال:
"أنا مش بقولك رجعي
الأحلام ولا بـ اشتكي لك من زمان ماضي
أنا بس عايش لسه ف
الأوهام أنا قلبي هو الجاني والقاضي." (الصفحة رقم 11)
ويوظف الشاعر عنصر
المكان؛ فتأتي الأماكن كرموز حية تعبر عن تجارب ومشاعر معينة كما ورد في
قصيدة "تفاءل":
"يا شعاع الشمس خبط ع
البيبان/ بوس خدود الورد واعشق ف المكان" (الصفحة رقم 86)
وقد يأتي المكان كرمز
للذكريات والمشاعر؛ معبرا عن ارتباطه العميق بالأماكن التي سار فيها؛ مثلما جاء في
قصيدة (اعتراف):
"وكنت شايفك من مكانك أجمل
الأشياء ف عمري/ ب اعترف لك ان كل الذكريات والاماكن والحواري اللي مشيناها/ كلها
كانت معاكي احلي شئ." (الصفحة رقم 12)
وقد استطاع أيضا توظيف
الزمكانية (الزمان والمكان معا)؛ لتعميق الفهم والارتباط بين الأبعاد الزمنية
والمكانية؛ مثلما جاء في قصيدة (ذكريات قديمة) على سبيل المثال:
"رغم ان الغربه ساعتها
بتاكل فيه كتير/ بس انتي عنيكي جداري/ وداري ووطني هناك." (الصفحة رقم 77)
ومن هذا التداخل بين
الزمان والمكان، الذي يعزز من عمق القصائد، أنتقل إلى الرؤية التحليلية لهذا
الديوان باستخدام أكثر من نظرية نقدية.
رؤية
تحليلية من منظور خمس نظريات نقدية
في هذا النقد والتحليل،
سأحاول الغوص في ثنايا هذا الديوان، لاستكشاف الجوانب الفنية والفكرية التي
تناولها الشاعر، وتحليل الأساليب التي يستخدمها للتعبير عن مشاعره وأفكاره من
منظور: (النظرية النفسية)، و(النظرية البنيوية)، و(النظرية الرمزية)، و(النظرية
التفكيكية)، (النظرية الاجتماعية):
فمن خلال النظرية
النفسية، يمكننا تحليل قصائد الديوان كمحاولة لاكتشاف العواطف والتجارب الداخلية
للشاعر، وكيفية تعبيره عن الصراعات النفسية التي يواجهها؛ فنأخذ مثالا على ذلك؛
مما جاء في قصيدة (خربشة على جدار الزمن):
"وسندت روحي ع الجدار/
يمكن تعبت من السفر/ يمكن قدر/ يا شيالين كتفي انخلع/ قلبي أتوجع/ والقلب من خوفه
انحسر." (الصفحة رقم 27)
نلاحظ هنا أن الشاعر
يعبر عن حالة من الإرهاق النفسي والتعب الذي يشعر به، مما يعكس صراعه الداخلي مع
الزمن والأقدار.
ومن خلال النظرية
البنيوية، التي تركز على تحليل النصوص من خلال البنية الداخلية للنص، وكيفية تكوين
المعاني من خلال العلاقات بين الكلمات والجمل، يمكن تطبيقها على مطلع ذات القصيدة:
"كان نفس أخربش في الجدار/
واترك علامة أو اثر/ حبة أماني وكلمتين/ أو نقش مرسوم ع الحجر." (الصفحة رقم
26)
نلاحظ هنا كيف أن
الشاعر يستخدم بنية النص بشكل مكثف؛ لخلق صورة متكاملة تعبر عن رغبته في ترك أثر،
حيث تتكامل الكلمات والجمل لتكوين معاني أعمق ترتبط بالتجربة الإنسانية.
ومن خلال النظرية
الرمزية، التي تركز على استخدام الرموز في النصوص الأدبية وكيفية تفسيرها لخلق
معانٍ عميقة ومتعددة الأوجه، يمكن تطبيقها على قصيدة (ارتجال):
"شايفك ملاك/ وان كان عليا
انا مش حسيبك للهلاك/ ح افضل وراك/ سندك هناك/ احنا ارتباط دم ومصير."
(الصفحة رقم 29)
نلاحظ هنا أن الشاعر
يستخدم رموزاً مثل "الملاك" و"الهلاك" لخلق معانٍ رمزية تعبر
عن الصراع بين الخير والشر، والحماية من الخطر، مما يضفي عمقاً إضافياً للنص.
ومن خلال النظرية
التفكيكية، التي تركز على تحليل النصوص الأدبية من خلال تفكيك المعاني والتناقضات
الداخلية للنص، يمكن تطبيقها على قصيدة (الليل):
"الليل مهوش أحلام وبس/
الليل كمان كوابيس/ والوحدة جو الليل عذاب/ والليل حيطان متاريس/ الليل جدار بارد
ضلمة بدون فوانيس/ قاعد لوحدي حزين صابر علي حالي والحرف ليا انيس..."
(الصفحة رقم 28)
يعبر الشاعر عن الليل
ككيان متناقض، حيث يكون مسرحًا للأحلام والكوابيس، وللوحدة والعذاب، وهذا يعكس
حالة الإنسان في تعامله مع الليل كمكان للاسترخاء والخوف في آن واحد.
ومن خلال النظرية
الاجتماعية، التي تركز على تحليل النصوص الأدبية في سياقها الاجتماعي والثقافي،
وكيفية تأثير النصوص على المجتمع والعكس، يمكن تطبيقها على قصيدة (أبو الحشا):
" أبو الحشا راجل بسيط/
غلبان صحيح لكنه حويط/ لو تعرفوه ح تقدروه ايام ما كان الناس دي ناس/ ولكنش مال
ولكنش سيط/ كنت اما اقابله اسأله اذي حال ابو الحشا/ فيرد رد بفرفشه/ تقصد بنام من
العشا/ ننهي الكلام بالابتسام..." (الصفحة رقم 87)
من منظور النظرية
الاجتماعية، يقدم النص صورة لشخصية (أبو الحشا) البسيطة التي تعاني من الفقر،
لكنها تتمتع بصفات إيجابية تجعله محبوبًا ومحترمًا، ويعكس النص قيم المجتمع؛ مثل
التضامن والتعاون والتقدير للصفات الشخصية، بديلاً عن التقدير للممتلكات المادية،
أو المكانة الاجتماعية... كما يُظهر قدرة الأفراد على التكيف مع الظروف الصعبة،
بروح مرحة وتفاؤل، مما يبرز الجوانب الإنسانية العميقة في العلاقات الاجتماعية.
ومن خلال هذه النظريات
النقدية المتعددة، نستطيع أن نستكشف عمق ديوان "خربشة على جدار الزمن"
للشاعر جمعة مبارك، وكيفية تعبيره عن تجاربه النفسية والاجتماعية، من خلال بنية
شعرية تتسم بالرمزية، والأساليب البلاغية، التي أخصص لها الفقرة التالية.
دور البلاغة
في تشكيل القصائد
في ديوان "خربشة
على جدار الزمن" للشاعر جمعة مبارك، استخدم الشاعر العديد من الأساليب
البلاغية، التي تعزز من قوة وجمال قصائده؛ ومن أمثلة استخدامه للاستعارة ــ
استعارة الليل بالطيف ــ في قصيدة (اعتراف): "غصب عني صدقيني/ لما طيف الليل
يجيني" (الصفحة رقم 13)
وفيها يشبه الشاعر
الليل بالطيف الذي يزوره، مما يعطي صورة حية عن حالة الحزن أو التأمل التي يشعر
بها ليلا.
ومن أمثلة التشبيهات ــ
تشبيه القمر بطائر مفرود الجناح ــ في قصيدة (اعتراف): "والقمر فارد جناحة ع
البيوت" (الصفحة رقم 14)
وهنا يشبه الشاعر القمر
بطائر جناحه مفتوح، مما يعطي انطباعاً بالجمال والسلام الذي يغمر المكان.
ومن أمثلة استخدامه
للجناس؛ في قصيدة (أنا المحقوق وانا الغلطان): " لف الأمل بإديه حبال/ مجدوله
ذي المشنقه/ ولقيتني جو الشرنقه/ مسكين وحيد..." (الصفحة رقم 18)
الجناس بين
"المشنقة" و"الشرنقة" حيث تتداخل الكلمتان في النغمة، مما
يوحي بالحركة والإسقاط إلى داخل شيء معقد ومغلق، وهذا الاستخدام للجناس يعطي النص
إيقاعًا موسيقيًا، ويعزز المعنى من خلال التكرار الصوتي والتلاعب بالألفاظ.
ومن أمثلة استخدامة
للمقابلة؛ ما جاء في قصيدة (رباعيات): "جبر الخواطر فضيلة وكسرها
مذموم..." (الصفحة رقم 15)
هنا يستخدم الشاعر
المقابلة بين "جبر الخواطر" و"كسرها" ليوضح الفكرة بأسلوب
بلاغي قوي.
ومن أمثلة استخدامه
للكناية ــ كناية عن الحزن والهم ــ ماجاء في قصيدة (حالة خاصة جدا): " فين
شجرتي؟" (الصفحة رقم 38)
"شجرتي" هنا: كناية
عن الجذور، أي المكان أو الأشخاص الذين يشعر تجاههم بالانتماء والارتباط العميق،
ومن ثم يكمن الحزن في السؤال؛ كناية عن فقدان الأمل والخيبة.
ومن أمثلة استخدامه
للطباق؛ ماجاء في قصيدة (أنا بنذرك وبحذرك): " يكفيكي ان الشمس تطلع ف
النهار... والليل اذا عدي ب يمسح دمعتك " (الصفحة رقم 30)
هنا نجد استخدامًا
واضحًا للطباق بين "النهار" و"الليل"؛ النهار يرمز للوضوح
والنور والنشاط، بينما الليل يرمز للهدوء والظلام والراحة، هذا التناقض يعزز
المعنى الشعري بتقديم حالتين متناقضتين تؤثران في حياة الشخص.
هذه الأمثلة تظهر مدى
براعة الشاعر جمعة مبارك في استخدام الأساليب البلاغية لتعزيز معاني قصائده،
وإيصال مشاعره وأفكاره ورسائلة الضمنية بعمق وجمال.
ملامح
الغنائية في النظم الشعري
يتميز الشعر الغنائي
بعدة خصائص؛ تجعله فريدًا عن باقي أنواع الشعر، منها: التعبير عن المشاعر الشخصية
للشاعر، مثل الحب، الحزن، الفرح، والألم، فضلا عن الإيقاع الموسيقي الجميل
والانسجام اللغوي، الغني بالعواطف والصور الجمالية، والتركيز على أفكار ومشاعر
مكثفة، وتكرار بعض المقاطع لتعزيز الإيقاع والموسيقى وتأكيد المشاعر.
وهو ما أراه متحققا
بوضوح في بعض قصائد الديوان؛ ومنها قصيدة (غمض عنيك): "غمض عنيك/ يمكن وانا
ملهوف عليك/ تقدر تشوفني في المنام/ غمض عنيك/ سيب ايدي ترتاح بين اديك/ وتقول
عليك احلي الكلام/ غمض عنيك/ وانا قلبي بيضلل عليك/ حب وامان/ فارتاح ونام/ انا
ياما كنت بحن ليك/ واشتاق لنظرة من عنيك/ نظرة بتربط عمري بيك/ لو حتي نظرة
والسلام/ غمض عنيك". (الصفحة رقم 7).
وقصيدة (أنا آسف) التي
جاء فيها: " انا آسف جدا يا حببتي/ انا اسف جدا سامحيني/ رغم اني انا لومتك
ايامها/ ان انتي اخترتي طريق تاني/ و كسرتي الحلم اللي خلقته/ ف سنين وسنين جو
كياني/ انا كنت بشوفك حلم كبير/ مال قلبي وروحي ووجداني/ حلم انا كونته بإحساسي/
وعملتوا قصور وبنيت له جسور/ وبقيت سجاني وحراسي" (الصفحة رقم 34).
وقصيدة (علميني
الحب):"اسقي قلبي من حنانك/ واسقي نيلك من حنيني/ ياللي قلبك هو عمري/
وابتسامتك شوق سنيني/ ابدريني وي شمسك/ واحصديني وي قمحك/ اعجنيني من ترابك/
شكليني من ملامحك/ رسي قلبي فوق شطوطك/ واخلطي عمري بخطوطك/ يطلع الصوت ذي
صوتك." (الصفحة رقم62)
وقصيدة (مين اللي قال):
"مين اللي قال ان انتي مش فاكره/ او يوم نسيتي الحب او ناكره/ عدي زمان
الغيبه والسكره/ واديكي لسة ف قصـتي ذاكره/ يشهد عليكي كل حلم جميل/ تشهد عليكي
الأرض والمواويل/ وعيون ولادنا وفجرنا والنيل/ وقلوب بتحمد ربنا وشاكره."
(الصفحة رقم 85)
أصداء
ومقاصد في رسائل القصائد
في ديوانه "خربشة
على جدار الزمن"، سعى الشاعر جمعة مبارك إلى إيصال مجموعة من الرسائل العميقة
والمتنوعة، والتي تتشابك مع بعضها البعض لتعكس تجربة الإنسان مع الزمن، والحياة،
والمشاعر الإنسانية المختلفة، بداية من رسالة الأثر والوجود، ورغبة الإنسان في
تحقيق الخلود والتأثير: "كان نفس أخربش في الجدار/ وأترك علامة أو أثر/ حبة
أماني وكلمتين/ أو نقش مرسوم ع الحجر"، مرورا برسالة الوطن والهوية،
والاعتزاز بهويته المصرية: "انا مصري/ وأبويا وجدي مصريين/ وغرزا جذوري جوا
الطين/ سنين وسنين"، ورسائل الحب والفقد: التي تنوعت ما بين (رسالة إلى أمي)
الصفحة رقم 21: "لو يعيدوا العمر تاني/ كنت أغزل من عيوني/ شال حرير أهديه
اليكي/ كنت أفضل بين اديكي/ أعشق النسمة اللي مرت/ يوم عليكي/ وافتخر واتباهي
بيكي/ وأترمي واتحامي فيكي".
وبين رثاء صديق (الى
صديق العمر محمود شعبان) الصفحة رقم 83: "اه ياصاحبي بس كان فيه حاجة لسه مصبراني/
اني لسه باستهجا الشعر والشوق والحنين/ وافتكر صوتك يا صاحبي يحي فيا الشعر تاًني/
واكتب الاحلام قصايد/ قلب يترحم عليك/ والوجود بيقول آمين".
ولم يغفل الشاعر عن
توجيه رسالة إلى والديه وبلده من خلال الإهداء: "إلي التي أحبتني من شغاف
قلبها دون غرض؛ إلي التي شجعتني ان اكتب الحرف إلي الحبيبة الأولي في حياتي امي
رحمها الله، وإلي أبي الذي تعلمت منه الكثير ــ رحمه الله ــ والي بلدتي برمبال
الجديدة، الي بلدي الذي اعشقه مصر".
أما زوجته وأم أولاده؛
فقد خصها بقصيدة بعنوان (سكة سفر) جاء فيها: "بس أرجوكي ف زعلنا/ حطي دايما
شئ ف بالنا/ انك انتي جزء مني/ حته من عمري اللي فات/ وانك انتي أم ابني/ وانك
انتي أم البنات." (الصفحة رقم 40).
الرابط بين:
الحب، الفقد، الأثر والزمن
في ديوان "خربشة
على جدار الزمن" للشاعر جمعة مبارك، تتشابك مواضيع الحب، الفقد، الأثر،
والزمن؛ بطريقة بديعة تعكس التجربة الإنسانية بكل تفاصيلها وتعقيداتها، هذه
المواضيع ترتبط ببعضها البعض من خلال عدة جوانب مشتركة، تعبر عن رحلة الإنسان في
الحياة وتفاعله مع العالم من حوله.
وأكتفي بعرض بعض
النماذج المعبرة عن المواضيع الأربعة من واقع الديوان؛ ففي الحب: يعبر الشاعر عن
حبه الكبير وارتباطه بمن يحب في قصيدة (سكة سفر) الصفحة رقم 40: "إحنا روح
بتحب روح/ إحنا ياستي قدر..."
وفي الفقد: يعبر الشاعر
عن ضياع حبه في قصيدة (وهم) (الصفحة رقم 11): "وعرفت إن الحب ولى وراح/ ولا
عاتش راجع للهوي قلبي/ م العشق قلبي بات وكله جراح/ والجرح غّوط يا عيون
خبي".
والملفت للنظر أن قصائد
الحب والفقد تربطها المشاعر الشخصية للشاعر تجاه المحبوب والوطن أيضا؛ ففي الأثر
والزمن: يتحدث الشاعر عن فخره بوطنه وكيف أن هذا الحب للوطن يترك أثراً في حياته
متجذرا عبر الزمن؛ فقد جاء في قصيدته (أنا مصري) الصفحة رقم 80:"انا مصري/
وأبويا وجدي مصريين/ وغرزا جذوري جوا الطين/ سنين وسنين".
وهكذا تتداخل هذه
المواضيع بشكل طبيعي في حياة الإنسان، حيث يبدأ الحب كقوة دافعة، يعقبه الفقد كجزء
لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، وكل تجربة حب أو فقد تترك أثراً، والزمن هو الإطار
الذي يحدث فيه كل ذلك، كما أن الزمن يعزز من قيمة الحب ويعمق شعور الفقد، ويظل
الأثر كذكرى خالدة تتحدى الزمن، وهذه المواضيع تشكل معاً نسيجاً متكاملاً يعبر عن
رحلة الإنسان في البحث عن المعنى والوجود في هذا العالم.
وقد أبدع الشاعر جمعة
مبارك في التعبير عن تلك المشاعر والأفكار بأسلوب شعري بديع يجسد التجربة
الإنسانية بكل جوانبها، وتتشابك مواضيع الحب، الفقد، الأثر، والزمن، بطريقة تعكس
التجربة الإنسانية بكل تفاصيلها وتعقيداتها.
العلاقة بين
رمزية الغلاف وجوهر الديوان
صورة الغلاف هي أول ما
يواجه القارئ قبل الغوص في متن الديوان، وتلعب دوراً محورياً في جذب الانتباه،
وتهيئة القارئ للتعرف على مضمونه، ولا شك أن غلاف هذا الديوان "خربشة على
جدار الزمن"؛ عكس بدقة جوهر ومحتوى الديوان من خلال الرمزية المستخدمة فيه؛
فالجدار المتشقق: يرمز إلى الزمن بصلابته وثباته، ولكن تشققاته تشير إلى تأثير
التجارب والأحداث عليه، وهذا يتناغم مع عنوان الديوان، حيث ترمز
"الخربشة" إلى المحاولات البسيطة للإنسان في ترك أثر أو بصمة في مجرى
الزمن، مما يعكس عفوية التجارب الإنسانية ورغبتها في البقاء، وقد عبرت قصائد
الديوان عن تلك الرغبة؛ بالرغم من تحديات الزمن والعوامل المحيطة به، على نحو ما
أشرنا من شواهد شعرية فيما سبق.
أما الساعة المرسومة
على الغلاف؛ فترمز للزمن المتحرك والدائم، بينما الأرقام المتناثرة تشير إلى تشتت
اللحظات والتجارب الإنسانية عبر الزمن، وقد استخدم الشاعر الزمن كموضوع رئيسي في
قصائده، معبراً عن التأمل في مروره وتأثيره،
وهذا يظهر جلياً في قصيدة (ذكريات قديمة): "ساعات الناس بيقولوا اتجن/
مهو قلبي ساعات بيحن/ والوحده ساعات بتخلي العقل يزن/ والنبي لتجيني وشوفك مرة
كمان/ وانا عارف ان الوقت معتش زمان" (الصفحة رقم 78)
ومن ثم فصورة الغلاف
عبرت بشكل متكامل عن جوهر ومحتوى الديوان، من خلال الرمزية العميقة للجدار المتشقق
والساعة والخربشات، ونجحت الصورة في نقل فكرة تأثير الزمن والتجارب الإنسانية
المتناثرة والمتشابكة على حياة الأفراد، بتناغم مع النصوص الشعرية في قصائد
الديوان.
غير أن اللافت للنظر أن
صورة الغلاف اكتفت بالتداخل الرمزي بين الزمن والأثر، وخلت تماما من أي رمز مباشر
للحب والفقد، وهو ماقد يعتبره البعض تقصيرا، وأراه مقصودا من جانب الشاعر والمصمم؛
ربما بهدف التركيز على عنصر الزمن والأثر، وهو مايمكن إسقاطه ضمنيا على الحب
والفقد، دون استخدام الرموز التقليدية المكررة والمباشرة مثل القلوب أو الدموع،
والاكتفاء باستخدام رموز مختلفة أكثر تميزاً، بهدف إشعار القارئ بالغموض الذي
يداعب فضوله، مما يدفعه لاستكشاف المحتوى الداخلي للديوان بشغف، وهذا الأسلوب يمكن
أن يكون فعالاً لجذب انتباه القراء وجعلهم يتفاعلون مع الفصائد بطريقة أعمق.
خاتمة
هذا الديوان هو لوحة
فنية ناطقة، تنبض بالحياة والتجارب الإنسانية العميقة، يحملنا الشاعر بين طيات
قصائده إلى عالم مفعم بالأحاسيس والمشاعر، مجسداً رحلة الإنسان في صراعه مع الزمن،
ومحاولاته المستميتة لترك أثر في هذا الكون الفسيح.
إن مزايا هذا الديوان
تتجلى في القدرة الفائقة للشاعر جمعة مبارك على تحويل التفاصيل اليومية البسيطة،
إلى صور شعرية عميقة، تستقر في وجدان القارئ؛ فبكلماتٍ عذبة وسلسة، رسم الشاعر بعض
المشاهد والمشاعر الحياتية، التي تتنوع بين الفرح والحزن، النجاح والفشل، الطموح واليأس،
محققاً توازناً بديعاً بين العفوية والبساطة من جهة، وبين العمق والفكر من جهة
أخرى.
وفي ختام هذه الرحلة
الأدبية، لا يسعني إلا أن أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير لهذا الشاعر المبدع، الذي
استطاع أن يحول خربشاته على جدار الزمن؛ إلى نقش خالد في ذاكرة الأدب.
كل التوفيق للشاعر جمعة
مبارك، مع خالص التمنيات الطيبة؛ بأن يظل قلمه نبراساً يستضيء به عشاق الأدب،
ومحبي النظم الصادق، النابع من أعماق القلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد
كتاب مصر
ــ تُشرت هذه الدراسة
في مجلة النيل والفرات بتاريخ 15 أغسطس 2024