جماليات
الترميز وتجليات التأويل
قراءة الأديب مجدي شلبي في المجموعة القصصية القصيرة جدا (ظل طيف) للأديبة المغربية أ/ فاطمة الشيري
بقلم مجدي شلبي (*)
مقاربة
شعرية في عنوان المجموعة القصصية
يُذكرنا عنوان هذه
المجموعة القصصية (ظل طيف) بأبيات حكمة للشاعر الدكتور/ محروس بُريِّك؛ يقول فيها:
وما المرءُ إلا ظلُّ طَيْفٍ سينقضي *** وتأتي
ظلالٌ بعدهُ وطُيُوفُ
وما العُمرُ إلا غَفوةٌ بعدَ غفوةٍ *** وما
الناسُ إلا وَمْضَةٌ وخُسُوفُ
فمُرَّ على الدنيا خفيفًا كما الندى ***
فإنّا على هذي الحياةِ ضيوفُ.
مقدمة
تتميز القصة القصيرة جداً بالبداية
والنهاية السريعة، دون مقدمات طويلة أو تطورات متعددة، مركزة على موقف واحد في
لحظة معينة؛ فعناصر بنائها الفني يميزها الإيجاز الشديد، ومن ثم يتم اختيار
كلماتها بعناية فائقة، فكل كلمة يجب أن تساهم في تكثيف الفكرة أو المشاعر بشكل
مؤثر وفعال، وذلك باستخدام الصور الموحية القوية والرموز المساعدة، وهما عنصران
رئيسيان في القصة القصيرة جداً، حيث يساعدان في نقل معانٍ أعمق باستخدام نص مختصر،
يفتح باب التأويل على مصراعيه، ويمتد التركيز والتكثيف من الجمل والمفردات إلى
الاقتصاد في عدد الشخصيات أيضا، والاكتفاء بشخصية واحدة أو اثنتين، مما يساعد على
توجيه الانتباه إلى الحدث أو الفكرة الرئيسية، وبالرغم من الإيجاز والتكثيف الشديد
ــ وربما بسببه ــ تترك القصة القصيرة جداً تأثيراً عاطفياً قوياً وعميقا لدى
القارئ.
البناء
الفني والتجسيد القصصي في (ظل طيف)
إذا ما طبقنا هذه العناصر والمعايير
والضوابط على المجموعة القصصية (ظل طيف) للأديبة/ فاطمة الشيري؛ وجدناها واضحة
جلية في قصص المجموعة؛ التي يصدق في كل منها قول الشاعر/ أبو الفرج الأصبهاني (في
غير موضع):
اسمع حديثي تسمع قصة عجبا *** لا شيء أعجب
منها تبهر القصصا.
بداية من الإيجاز
والتركيز على نقطة أو فكرة واحدة بفعالية؛ حيث يتم تناول الصراع الداخلي، مرورا
بتكثيف المشاعر وإيصالها بسرعة وقوة؛ ففي قصة "عصير" على سبيل المثال:
"احتست الأوجاع من كأس خريف ممزوجا بخل العنب أثمل أنين السنين، أيقظ ذكرى
شحوب أغصان عانقتها الرياح. التفاح احتمى بليل طويل." (الصفحة رقم 106).
وغالباً ما تُستخدم
الرمزية والإيحاء والتلغيز لزيادة العمق والمعنى؛ ففي قصة "مقارنة" على
سبيل المثال: "تجلس بالقرب من نافذة القطار. تتأمل أولى قطرات السنة بعد
انتظار. على الزجاج تصطدم، تنساب على خدي. فراق حز في النفس.. بين هذا وذاك طوى
القطار المسافة." (الصفحة رقم 11).
وقد وضح بجلاء استخدام
الكاتبة للتناص في عدد من قصص المجموعة؛ ففي قصة "تخمة" على سبيل
المثال: "ان غدا لناظره قريب." (الصفحة رقم 74)، وهو يتناص مع قول
الشاعر/ قرار بن أجدع:
فإن يك صدر هذا اليوم
ولى *** فإن غدا لناظره قريب.
كما جاء البناء السردي
بسيطاً، مع التركيز على اللحظة أو الحدث المحدد؛ ففي قصة "عبودية" على
سبيل المثال؛ جاء البناء السردي مركزا على الصراع بين القيود ومحاولات التحرر:
"قررت منحه حريته، ملت التفكير، أرهقتها التعليقات. من بين أناملها أسقطته.
صرخ مستنجدا: بعيدا عنك نهايتي." (الصفحة رقم 109).
ومن ثم جاءت قصص هذه
المجموعة ملتزمة بالإيجاز والتركيز، وتكثيف المشاعر، واستخدام الرمزية والإيحاء،
والتناص والبناء السردي البسيط، مما يعكس براعة الكاتبة في هذا النوع الأدبي
الحديث.
عمق العنوان
واتساقه مع المتن
العنوان "ظل طيف" يحمل رمزية تعبر
عن الحضور الغائب، أو الذكرى التي تظل تطارد الشخصيات دون أن تختفي تمامًا،
و"ظل" يشير إلى شيء غير ملموس ولكنه موجود بشكل غير مباشر، بينما
"طيف" يدل على ظهور عابر لشخص أو ذكرى.
وتكمن دلالة العنوان في
المتن حيث أن قصص المجموعة ــ في أكثرها ــ تعكس حالة من الوجود والغياب، حيث تظل
الذكريات والمشاعر عالقة في وجدان الشخصيات مثل ظل طيف، ويتضح ذلك من خلال أمثلة
وشواهد:
أمثلة تعكس حالة حزن
بسبب مشاعر الفقد، منها ماورد في قصة "تسلل" على سبيل المثال: "في
القطار يجلسان متقابلين. عيناه في عينيها. يبتسم.. ويغفو ليستطيل الحلم. تمسك
حقيبة يدها، تغير المكان يفتح عينيه، يصطدم بصقيع المقعد." (الصفحة رقم 58).
وأمثلة أخرى تصف مشاعر
القهر وخداع الحب، منها مارود في قصة "سلاح" على سبيل المثال:
"تعود من اللقاء، تتأمل المرآة.. آثار اللسان.. طنين العواء. فرت دمعة من
القهر، أزاحت غشاوة عن عيون هامت عشقا به. سقط القناع." (الصفحة رقم 24).
ومن الأمثلة الدالة على
الوجود الخفي للذكريات التي تشكل جزءًا من الهوية الشخصية وتؤثر في الحاضر
والمستقبل، منها ماورد في قصة " أطلال" على سبيل المثال: "تتجول
بين غرف البيت. تتأملها.. تعود لأريكتها؛ تكتب فصول الرواية.. بدون نهاية."
(الصفحة رقم 21).
وهكذا نلاحظ أن عناوين
قصص المجموعة حملت دلالات عميقة ترتبط مباشرة بالموضوعات المطروحة فيها.
وكذلك العنوان الرئيس
ــ في هذه المجموعة القصصية ــ "ظل طيف" يرمز للحظات والتجارب التي تترك
أثراً دائماً في حياة الشخصيات، حتى وإن كانت قد مرت وولت، ومن ثم فهو عنوان يعكس
بشكل جميل ومؤثر الثيمات المركزية للمجموعة القصصية، ويعطي القارئ لمحة عن الأجواء
التي سيجدها في النصوص، وذلك لكونه ليس مجرد تعبير أدبي فقط، بل هو مفتاح لفهم
العمق العاطفي والنفسي لقصص المجموعة.
رؤية تحليلية
في الموضوعات الرئيسية والأسلوب الشعري
أولا: الموضوعات الرئيسية في "ظل
طيف" تشمل: الصراع الداخلي، ويظهر هذا جليا في قصة "وسط الطريق":
"تمسك بفنجان القهوة في بيت العزاء. تتجرع مرارة الرحيل بصمت.. تتأمل أسرة
تبكيه حرقة، لملمت خيبتها.. تضع نظارتها.. ترى أي الاتجاهات ستختار؟."
(الصفحة رقم 104).
الفقدان والضياع: ويظهر
هذا جليا في قصة "شهيدان": "الخبر حقن أوردتها انزعاجا تفاعل في
بوتقة جسد لون الوجه اصفرارا لفظت اسمه لآخر مرة، دخلت عالم الصامتين."
(الصفحة رقم 98).
مشاعر الخيبة والإحباط:
ويظهر هذا جليا في قصة "استجداء": "تنزوي على ناصية رصيف العمر
تنتحب بصوت رهيب تردد بلسان لا يكل. الرحمة يارحمان! خذ الجنة من تحت قدمي وارحمني
من احتراقي." (الصفحة رقم 100).
وتُظهر بعض القصص
تحديات العلاقات الأسرية والأصدقاء والعشاق، مع التركيز على كيفية تجاوز هذه
التحديات أو الاستسلام لها، ولاشك أن هذا العنوان "ظل طيف" كتشبيه مجازي
متسق مع المتن؛ يضفي على القصص عمقًا عاطفيًا وجمالًا شعريًا، ويدلنا على حقيقة أن
الأديبة/ فاطمة الشيري: ليست قاصة فقط؛ بل هي شاعرة أيضا، فقد صاغت قصصها بلغة
زاوجت فيها بين السرد القصصي والأسلوب الشعري؛ بطريقة فنية غنية بالرمزية
والشعرية، من خلال شخصيات ــ واقعية أو رمزية ــ تبدو كمرآة للمشاعر الداخلية
والتجارب الحياتية؛ مما يجعل القارئ يتعاطف معها ويشعر بقربها، وتدعوه للتأمل
والتحليل العميق؛ والشاهد على ذلك قصة "مخاض": "تقتفي منهج الصمت.
يستبيحها الحلم خارج مدارات الوعي. استهوته النفس.. استوطن. أنجب زمن اليأس."
(الصفحة رقم 108).
ملاحظة
هامشية:
بالرغم من أن قوة هذه المجموعة القصصية
تكمن في قدرتها على سرد مشاعر صادقة وتجارب إنسانية بعمق شعري، وبلغة غنية وتفاصيل
دقيقة تضفي جمالاً وسحراً على القصص؛ إلا أن الرمزية الغنية قد تمثل تحديًا لبعض
القراء، حيث تتطلب بعض النصوص تأنيًا وفهمًا أعمق لتقدير جمالها وإدراك دلالاتها
ومعانيها.
صورة غلاف
المجموعة القصصية ومدى تعبيرها عن الثيمات الرئيسية
تصميم الغلاف بلونيه الأسود والأبيض (غير
معتاد) يرمز من ناحية لجدة وطرافة المجموعة ــ غير الاعتيادية ــ ومن ناحية أخرى
يعبر عن حالة الغموض التي تعكس طبيعة قصص المجموعة، التي تحمل في طياتها معانٍ
عميقة تحتاج إلى تأمل وتفكير، وصورة القطار هنا ترمز إلى رحلة الحياة، أو ربما إلى
الزمن الذي لا يتوقف، وفي سياق قصص المجموعة القصصية القصيرة جداً، يمكن أن يكون
رمزاً للأحداث التي تمر سريعا، بإيجازها وتكثيفها الشديد، أما الدخان المتصاعد؛
فيرمز إلى الأفكار أو الذكريات التي تتلاشى بمرور الوقت، أو ربما يرمز إلى الأثر
الذي يتركه الإنسان خلفه كذكريات عابرة أو "ظل طيف"، وقضبان السكة الحديد
الممتدة إلى الأفق؛ تعزز فكرة الرحلة الطويلة أو المستقبل غير المعروف، سواء كانت
رحلة داخلية للنفس البشرية أو رحلة عبر الزمن، حيث تتوالى المشاهد والأحداث
المحملة كل منها بدلالات ومعانٍ كثيرة، ويمكن أن ترمز أيضاً إلى القرارات التي
نتخذها في حياتنا، حيث أن القضبان توجه القطار إلى مسار محدد ولا يمكنه الخروج
عنه، وهو ما يعبر عن الالتزام بنسق أسلوبي واحد في جل قصص المجموعة.
وهكذا حققت صورة الغلاف
توازناً بين البساطة والعمق، والدلالات المتسقة والمتناغمة مع المتن.
ختامًا
"ظل طيف" مجموعة قصصية أبدعتها
الأديبة فاطمة الشيري؛ فقدمت من خلالها تجربة قراءة غنية بالمشاعر والرموز، وجمعت
بين الجمال الأدبي والعمق الفكري، وعبرت عن تجارب إنسانية بصدق وشاعرية، تستحق
عليها التقدير والاحترام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد
كتاب مصر
ــ نُشرت هذه الدراسة
في جريدة النهار العراقية بتاريخ 21 يوليو 2024
تعليق الكاتبة أ/ فاطمة
الشيري على دراستي النقدية:
"جزيل الشكر وفائق
الامتنان للأديب مجدي شلبي على تناوله لمجموعتي ظل طيف قصص قصيرة جدا بِالقراءة والتحليل لمضمون ماجاء في نصوصها كل
الود والتقدير أستاذنا الفاضل مجدي شلبي على قراءتكم ونشرها في جريدة النهار
العراقية فعلا ممتنة لكم".