بصمات الضوء والظلال
قراءة الأديب مجدي شلبي في المجموعة القصصية (تمر وجمر) للكاتب
البحريني أ/ حسن بوحسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي (*)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:
في هذه المجموعة
القصصية "تمر وجمر"، يقدم لنا الكاتب مشهداً أدبياً يتجاوز حدود
المألوف، حيث تلتقي المشاعر المتناقضة؛ لتعكس تفاصيل الحياة بألوانها المتباينة،
وفي هذه القراءة سأحاول إلقاء الضوء على لحظات النقاء والأمل، والظلال التي تخفي وراءها
عمق الألم والمرارة، لنكتشف معا حقيقة أن الحياة؛ تترك بصماتها على مشاعرنا، كما
يترك الضوء أثره على الظلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علاقة صورة الغلاف
بالعنوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تظهر صورة الغلاف بتدرجات
من اللون الرمادي، مع بعض البقع السوداء والشقوق؛ وهذه الألوان الداكنة تعطي
إحساسًا بالغموض، وربما الحزن والهم، اتساقا مع الصعوبات والمشاكل، التي تواجه
الشخصيات في المجموعة القصصية.
وأرى أن هذا الطابع التجريدي،
يهدف إلى تحفيز خيال القارئ، وجعله يتساءل عن العلاقة بين هذه الصورة وهذا العنوان
"تمر وجمر"، الذي يجمع بين كلمتين متناقضتين: "تمر" الذي يرمز
إلى الحلاوة والخير، و"جمر" الذي يرمز إلى الألم والنار؛ ومن ثم يعكس الغلاف
بدوره هذا التناقض بين الخير والشر، الحلاوة والمرارة، السلام والمعاناة، ويدلنا
على الثيمات الرئيسية للمجموعة القصصية، حيث تتنقل الشخصيات بين هذه الحالات
المتناقضة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجليات التباين
وجماليات المفارقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتجلى بعض تناقضات
الحياة في المجموعة القصصية؛ كمرايا تعكس عمق التجربة الإنسانية، حيث تتشابك
الآمال مع الآلام في نسيج متقن، وتبرز جماليات المفارقة كلمحات ساحرة؛ تعري
الحقائق المستترة، لتضفي على النصوص بعدًا فلسفيًا، معبرا عن حجم الهوة العميقة
بين المظهر والجوهر، الشكل والمضمون، الأفعال والأقوال، الوزن والقيمة، الظاهر
والباطن، الشكلانية والعمق، العبادات والمعاملات، السر والعلن، القلوب والأبصار،
الروح والجسد، القشور والمقاصد، والمبادئ النظرية والسلوك العملي... حتى أضحى مألوفاً
لدينا أن نرى الضدين معاً؛ كالتناقض بين الفقر والغنى:
ففي قصة (سلمان وباخرة
"جبل سورا") على سبيل المثال؛ يتجلى التباين بين حياة الطبقة العاملة
وحياة الأغنياء والميسورين، فـ(سلمان) برغم عمله الجاد، يظل عاجزاً عن تحقيق
أحلامه بالسفر، بينما الآخرون يتنقلون بحرية ويتمتعون بالحياة، يقول الشاعر/ جبران
خليل جبران: (إنَّ في التمر نواةً.. حفظت سر النخيلْ/ وبقرص الشهد رمزٌ.. عن فقير
وحقولْ)، هذا التباين يسلط الضوء على الفجوة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع،
مما يعكس التناقض بين واقع (سلمان) المرير، الذي لسان حاله قول الشاعر/ ابن
الرومي: (أرقتُ كأني بتُّ ليلي على الجمرِ) وأحلامه الكبيرة، التي يصدق فيها وصف
الشاعر/ أحمد شوقي: (شَيّعـتُ أَحْلامي بقلبٍ باكِ)،والتباين بين
المكانين: الباخرة التي تمخر عباب
البحر دافعة للحلم والمغامرة والحرية والانعتاق، والرصيف الذي يظل ثابتا، معبرا عن
حالة الشعور بالعزلة والقيود، التي يفرضها الواقع على (بطل) القصة.
كما يتجلى التناقض في العلاقات
الاجتماعية ــ على نحو ماجاء ــ في قصة (سلاّمة وسعود الطيّب) على سبيل المثال؛ حيث
يتم الكشف عن تصرفات الحاج سعود غير اللائقة تجاه سلاّمة؛ مما يعكس التناقض بين
المظاهر المخادعة، والحقيقة الواقعة؛ وفي مثل هذا يقول الشاعر/ حمزة الملك طمبل:
أنا لا تأخذ
المظاهر مني *** لا ولا يخدع الطلا أبصاري.
يظهر الحاج سعود في
بداية القصة كإنسان متدين وطيب، ولكنه يخفي رغبات وسلوكيات غير لائقة، هذا التناقض
بين المظهر والواقع؛ يعكس تعقيدات العلاقات الإنسانية، ويزداد التناقض غرابة في
نهاية القصة؛ حيث يتم الدفاع عن المذنب، ومعاقبة كاشف الحقيقة، نتيجة قوة التأثير
الاجتماعي، والضغوط التي يمكن أن تقلب الحقائق، وتُعيد تزييفها للحفاظ على الوضع
القائم.
وفي قصة (كمال وصرخة دلال)؛
تجسيد للثنائية بين الكمال والنقص؛ (كمال) يمثل حالة الكمال التي تحولت إلى نقص
بسبب المرض، ولسان حاله ينطق بقول الشاعر/ الشهاب المنصوري:
(رحل)
الكمال فقالوا *** ولى الحجا والجلال
فللعيون
بكاءٌ *** وللدموع انهمال
وفي فؤاديَ
حزن *** ولوعة لا تزال.
وصرخة (دلال) تعبر عن
المعاناة الناتجة عن هذا النقص، وحرمان (كمال) من الكمال الذي تنشده!.
إن هذه مجرد إشارات
تعكس بوضوحٍ؛ فداحة التناقضات وجماليات التعبير عنها؛ مما يؤكد العلاقة الوثيقة
بين عنوان المجموعة ومحتواها القصصي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأملات في أبعاد
التقنية والمضمون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هنا نحاول الكشف عن التوازن
الدقيق بين التقنية السردية، والمحتوى العميق، الذي يعزز من تأثير القصص، ويرفع
قيمتها الأدبية؛ ونبدأ بإلقاء الضوء على الأبعاد التقنية، ومنها: الوصف التفصيلي
للأحداث والشخصيات؛ ففي قصة (أبو عماد والخيمة) على سبيل المثال؛ يتجلى الوصف
التفصيلي في تصوير الخيمة ومكوناتها، الذي جاء بالنص التالي:
"نظر إلى خيمة من صنع
شركته الخاصّة باتت قريبة منه وهو يصيخ السمع إلى قهقهات فرح وانشراح تنبعث من
داخلها، متناغمة مع شيء من ترانيم موسيقية ممزوجة بغناء جميل وصوت شجيّ...".
(الصفحة رقم 18)
ثم يأتي الوصف التفصيلي
للشخصية المحورية (أبو عماد)، الذي ورد بالنص التالي:
"أخذ أبو عماد مكانه داخل
الخيمة وجلس بأريحية إلى جانبهم يخاطبهم ويتودّد إليهم، شعروا جميعا بالغبطة وهم
يستقبلون شخصية بهذا الحجم ويتساوون معها في الحديث والمزاح وفي الجلوس على قطع
اسفنجية متواضعة جدا..." (الصفحة رقم 19).
أما استخدام الحوار
لتطوير الأحداث؛ فقد ظهر بوضوح في عديد من القصص، منها على سبيل المثال؛ قصة (المحسّن
وصَفْصاف أوجي):
"ــ لم تجبني على
سؤالي، من أنت؟
ــ أنا سمير أوجي.
ــ سمير أوجي؟! هل تقصد
أنك الأديب العربيّ الشهير سمير أوجي...
ــ نعم هو أنا، المعذرة
لم ألحظك من البداية.". (الصفحة رقم 44).
ومن الأبعاد التقنية
إلى الأبعاد الموضوعية؛ حيث تتناول قصص المجموعة قضايا معاصرة؛ ففي قصة (سِرداحة ميسي
ورونالدو) على سبيل المثال؛
نجدها تسبر أغوار العلاقات الإنسانية المعاصرة، والتحديات
التي يواجهها الشباب، وتأثير ثقافة الرياضة على حياتهم، والعلاقة المتناقضة بين
الطموحات الشخصية والواقع الملموس، فضلا عن الصراع المحموم بين مشجعي ميسي
ورونالدو: " استعجلوهم إلى النّهوض، أثاروا حفيظتهم وهم يقذفونهم بأقسى العبارات
ويصفونهم بالخائفين والجهلة في عالم كرة القدم، احتدم صراع الكلمات بين المجموعتين."
(الصفحة رقم 36).
وهذا لا يعكس فقط
التباين في الأذواق والتفضيلات الرياضية، ولكنه يشير إلى كيفية تأثر العلاقات
الشخصية بالصراعات الثقافية والاجتماعية والرياضية أيضا؛ مما يجعلها قصة غنية
بالرموز والدلالات.
وفي قصة (المحسّن
وصَفْصاف أوجي)؛ يتم استكشاف العمق النفسي للشخصية؛ من خلال الوصف التالي:
"بعد أن أشعلت في مخيلته
نار دهشة مربكة، وحيرة امتزجت بتساؤل ملحّ لبعض الوقت إن كانت تعرفه أو ربّما
شاهدت صورته يوما ما وهي تقرأ شيئا من كتاباته... لم يعرف بالتحديد ما يدور برأسها
ورأس صاحبتها ولماذا نظرت إليه هو بالتحديد من بين هذا الجمع، ولم يتوصّل إلى
معرفة سرّ غمزها المفاجئ ودواعي ابتسامتيهما معا، فضّل تنكيس رأسه وتجاهل الأمر
حتى لا يقع في حرج." (الصفحة رقم 42).
وتم تجسيد البيئة بشكل
حسي وواقعي في عديد من القصص، منها على سبيل المثال؛ ما ورد في قصة (الحاج كاظم
ومليون نملة): "يُدقّق في الطرق الترابية وتفاصيل البيوت القديمة وجدرانها
السميكة ورونقها العمرانيّ السّاحر ويتحسّر،... ويتذكّر كيف كانت مساحة خضراء
مكتنزة بأشجار التّين واللوز والعنب والرّمان وغابة نخيل متشابكة وحزاماً أخضر
يطوّق القرية من جهة الغرب بشجيرات البمبر والنبق المتعانقة." (الصفحة رقم
54)، وهنا يتنوع الإيقاع الزمني فينطلق خيال (البطل) بين الحاضر، وذكريات الماضي؛
مما يخلق تنوعا في الإيقاع والزمن.
وهكذا تُظهر قصص
المجموعة؛ كيف أن الكاتب حسن بوحسن قد استخدم التقنيات الأدبية المختلفة، لإبداع
قصص ذات بعد جمالي عميق، تجمع بين الوصف التفصيلي والحوار البناء، وتعالج موضوعات
اجتماعية ونفسية معاصرة، بلغة بلاغية وشعرية غنية بالوصف، وبناء سردي مشوق،
مستخدما الرموز ــ أيضا ــ لتعميق المعاني، مثلما جاء في قصة (كمال وصرخة دلال)
على سبيل المثال:
" شعر... وأن فراش طربه
ونشوته متهالك وغائص في التربة الليّنة مثل باخرة تجمّدت في مرساها الأخير بعدما
أحيلت إلى التقاعد وفقدت قدرتها على شهوة الرقص فوق الماء المالح وغادرها عنفوان
التمايل المتوازن والتجاوب السريع مع حركة تلاطم الأمواج." (الصفحة رقم 48).
ومن إثراء النصوص
بالرموز، والعديد من الدلالات (وليست "دلال" واحدة!)، نستكمل تأملاتنا في
الأساليب البلاغية، التي استخدمها الكاتب في إبداع قصصة، وبعض الشواهد الموثقة
منها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللمسات البلاغية في أسلوب
السرد والتعبير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتجلى براعة الكاتب في
توظيف الأساليب البلاغية المتنوعة لإثراء نصوصه، من خلال استخدام التشخيص والتجسيم
والاستعارات والتكرار والتشبيهات والرموز، التي تعزز من جمالية السرد والتعبير، على
نحو ما ورد في قصص المجموعة، ومنها قصة (أمّ الزّرانيق وريح الصّرصر) على سبيل
المثال:
التشخيص: " وأمّ الزرانيق ثابتة في
موقعها مثل الجبل، تحتضن أبناءها بأمن وسلام."(الصفحة رقم 65)، تشخيص يُعطى
المدينة صفات إنسانية.
التجسيم: "ريح
صرصر عاتية، ستكون شديدة السّرعة، ساخنة ومحمّلة بالأتربة وحصيات صغيرة مدبّبة
وملتهبة مثل الجمر" (الصفحة رقم 62)، تجسيم الرياح وإعطائها صفات ملموسة.
الاستعارات: "تقلع
الأخضر وتطحن اليابس" (62)، استعارة لتوضيح القوة التدميرية للرياح.
التكرار: "يهلك
فيها الكهول، تذوب فيها الرجال مثل ذوبان السمن فوق النار، تطرح فيها النّسوة
حملهن" (62)، التكرار في جملة "فيها" لزيادة التأكيد على الدمار
الشامل.
التشبيهات: "تذوب
فيها الرجال مثل ذوبان السمن فوق النار." (62)، تشبيه ذوبان الرجال بذوبان
السمن.
الرموز: "أمّ
الزرانيق"، قد ترمز إلى الوطن أو الأرض الأم، و"ريح الصرصر"، ترمز
إلى المصاعب أو الكوارث التي تهدد المجتمع.
وفي قصة (حسّون الكنّون
والسّنونو):
التشخيص: "يرغب في
أن أمّه وأباه يناديانه بكلمات رقيقة مثل "روحي، عمري" بدلا من حسّون."
(الصفحة رقم 70)، وفي هذا إعطاء أسماء التحبب صفات إنسانية، و"والناس غير
المؤدبة التي تنادي بحسّون وحمّود وسعيدان يتكاثرون مثل النّمل." (الصفحة رقم
74)، وفي هذا تشخيص للناس وإعطائهم صفات تكاثر النمل.
التجسيم: "قلبه في
كلّ يوم وفي كلّ ساعة كلّما سمع منهما لفظ اسم (حسّون)، يتلوّى ألمًا من الداخل."
(الصفحة رقم 70)، وفي هذا تجسيم للقلب وجعله محسوسًا بتأثير الاسم عليه.
الاستعارات: "يحتفظ
بقنينة ماء بلاستيكية في يده المتجمّدة من هبّات الهواء البارد." (الصفحة رقم
71)، وفي هذه استعارة توضح شدة برودة الهواء.
التكرار: "يا ولدي
.. روحة الجامعة أرحم وأنفع لك من جلسة الحوش من دون فائدة، بسّك من قطيعة الناس،
اسمع كلام أبوك، قطّعت قلبي يا حسون"، التكرار في مناداته "يا حسون."
(الصفحة رقم 74)، للتأكيد على الحنان والحب.
التشبيهات: "وينفجر
غضبا ويهيج على أصدقائه مثل حيوان مفترس." (الصفحة رقم 70)، وفي هذا تشبيه له
في غضبه بالحيوان المفترس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوهر السرد: خلاصة ما ترويه القصص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في عالم السرد الأدبي،
تُعتبر القصص مرآة تعكس عمق التجارب الإنسانية ومكنوناتها، وبينما تُسحرنا
التفاصيل؛ تظل الحقيقة التي تنبثق منها؛ هي ما يشكل لبّ الحكاية وجوهرها، وفي هذه
الفقرة سنغوص في "جوهر السرد" لنكشف النقاب عن خلاصة ما ترويه قصص
المجموعة، التي يصدق فيها وصف الشاعر/ البرعي:
حروف معان
أَو عقود جواهر *** تحاكى مصابيح النجوم الزواهر.
جوهر القصة الأولى: (سلاّمة
وسعود الطيّب) الصفحة رقم 9: تقدم هذه القصة نقدًا لاستخدام التكنولوجيا في كشف
الحقائق وتأثيرها على الأفراد المعنيين، مع التركيز على التناقضات المجتمعية، من
خلال شخصياتها المتعددة وأحداثها المتشابكة، وتعكس القصة تعقيدات العلاقات
الاجتماعية والضغوط النفسية التي يمكن أن يتعرض لها الأفراد في مجتمع تقليدي محافظ،
وتُظهر القصة كيف يمكن للتكنولوجيا أن تكشف الحقائق، ولكنها في نفس الوقت تكشف عن
مقاومة المجتمع لتلك الحقائق، ومعاقبة من يحاول إظهارها، مما يؤدي إلى مزيد من
التعقيد والمآسي.
جوهر القصة الثانية (أبو
عماد والخيمة) الصفحة رقم 17: هذه القصة تقدم قراءة عميقة في النفس الإنسانية، وتكشف عن هشاشتها أمام قوى
الطبيعة، ومن خلال أحداث القصة، يتعلم القارئ أن النجاح المادي لا يكفي لمواجهة
جميع التحديات، وأن التواضع والاعتماد على الآخرين والتكاتف في الأوقات الصعبة؛ هي
قيم أساسية للنجاة والتغلب على المحن، والقصة تبرز أيضاً أهمية الاحترام المتبادل
بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية، وتقدم درساً قوياً حول قوة
الطبيعة وقدرتها على تحدي الإنسان.
جوهر القصة الثالثة (سلمان
وباخرة "جبل سورا") الصفحة رقم 23: هذه القصة تعكس معاناة الإنسان البسيط، المحصور في روتين حياته اليومية، وأحلامه
المكبوتة بالسفر والهروب، ومن خلال سرد دقيق ومشاعر عميقة، ينجح الكاتب في تصوير
التباين بين الواقع والحلم، والتحديات التي تواجه الأفراد في سعيهم لتحقيق أحلامهم،
والقصة تقدم درساً عن أهمية الصبر والتحمل، وأيضاً عن قوة الحلم وتأثيره على النفس
البشرية.
جوهر القصة الرابعة (سِرداحة
ميسي ورونالدو) الصفحة رقم 31: هذه القصة تقدم تصورًا دقيقًا وصورًا حية؛ لحب
الشباب لكرة القدم، ومشاعرهم تجاه لاعبيهم المفضلين، والصراع بين مشجعي ميسي
ورونالدو؛ يعكس التباين في الأذواق والتفضيلات الرياضية، ولكن أيضًا يشير إلى كيف
يمكن أن تتأثر العلاقات الشخصية بالصراعات الثقافية والاجتماعية، وهو تجسيد
لآمالهم وأحلامهم، والتحديات التي يواجهونها في اللعب، والتي تنتهي بسقوط الحائط
في نهاية القصة، الذي يُعتبر رمزًا لانتهاء الصراع، وعودة التوازن بين المتنافسين،
حيث يلتقي الجميع في حبهم لكرة القدم بروح رياضية.
جوهر القصة الخامسة (المحسّن
وصَفْصاف أوجي) الصفحة رقم 39: تقدم نهاية القصة صورة مؤثرة لعالم الإبداع الأدبي،
فبينما يظل إبراهيم في عزلته مع كتابه؛ يُبرز الهروب والتجنب من سمير أوجي الفجوة
بين الطموح الفردي والواقع الاجتماعي، وهذه النهاية تعكس التوترات الداخلية
والخارجية التي يواجهها الكُتّاب في سعيهم لتحقيق الاعتراف والتقدير، وتثير
تساؤلات حول مدى قيمة الأعمال الأدبية مقارنة بالتقدير الاجتماعي والشخصي، ومن
ناحية أخرى يمكن أن يكون فشل إبراهيم المحسّن في الخروج من عزلته؛ جاء نتيجة
لمبالغته في تقدير إبداعه، وافتقاده للتواضع في تقديم نفسه، هذه النقطة تعزز فهمنا
لأسباب عدم نجاحه في التواصل مع الآخرين، وتحقيق التقدير الذي يسعى إليه، في الوقت
الذي ارتبط اسم أوجي بالصفصاف (صفصاف أوجي)؛ لرمزية الصفصاف تلك الشجرة المعروفة
بمرونتها وقوة تحملها، وهي تعبر عن القدرة على التكيف مع الظروف المختلفة، وفي
سياق القصة، تُعد رمزًا لشخصية أوجي التي تتميز بالقدرة على التكيف، والتعامل مع
المواقف بطريقة مرنة، وقد تشير إلى شخصية قادرة على فهم وتقدير الإبداع الأدبي
بمرونة.
جوهر القصة السادسة (كمال
وصرخة دلال) الصفحة رقم 47: وهي قصة تسرد حياة زوجين يعانيان من ضغوطات صحية
ونفسية، تؤثر على علاقتهما؛ كمال يعاني من داء السكري، الذي أثر على قدراته
الجسدية والعاطفية، مما جعل حياته الزوجية غير مستقرة، وزوجته دلال؛ تعاني من
خيبات أمل وفقدان السعادة، التي كانت تعيشها سابقاً؛ بسبب تدهور حالة زوجها، وتستعرض
القصة الصراع الداخلي لكل من كمال ودلال، والضغوط النفسية التي يمر بها الزوجان.
جوهر القصة السابعة (الحاج
كاظم ومليون نملة) الصفحة رقم 53: هذه القصة تقدم نقدًا اجتماعيًا عميقًا من خلال
تصوير الاختلاف بين الأجيال، والتغيرات الثقافية التي تؤثر على المعايير والتوقعات؛
فالحاج كاظم الذي يأتي بآمال كبيرة، يجد نفسه في مواجهة مع واقع غير متوقع، مما
يعكس التحديات والصراعات، التي يمكن أن تنشأ بين القيم التقليدية والتغيرات
الاجتماعية، والنمل في القصة يمثل مشاكل قد تكون صغيرة، ولكنها تتفاقم وتصبح غير
محتملة.
جوهر القصة الثامنة (أمّ
الزّرانيق وريح الصّرصر) الصفحة رقم 61: هذه القصة تعكس
تعقيدات استجابة الأفراد والمجتمعات للأزمات، من خلال الخوف من الكارثة، والتأثير
الإعلامي الذي يمكن أن يتباين بين الأشخاص، وكيف يمكن أن تستمر الحياة في مواجهة
التهديدات الكبرى.
إن الاستخدام المكثف
للوصف والتفاصيل في هذه القصة؛ يعزز الإدراك بمدى تأثير الأزمات على المجتمع،
وكيفية التعامل معها بأساليب مختلفة، مما يعكس قوة الإرادة، والتمسك بالحياة في
مواجهة المجهول.
جوهر القصة التاسعة (حسّون
الكنّون والسّنونو) رقم الصفحة 69: هي قصة مليئة بالرمزية والتصوير الأدبي العميق،
والأسماء في القصة تلعب دورًا محوريًا في توضيح الصراعات الداخلية والخارجية
لشخصياتها، مما يضيف بُعدًا رمزيًا وعاطفيًا إلى القصة؛ فـ (حسن) الذي يحمل اسمًا يرمز إلى الشخص الطيب الحساس الذي يشعر بالغربة، ويجد في طائر (السّنونو)
نوعًا من الهروب من معاناته الشخصية، والعلاقة بين حسن والسّنونو تعكس الصراع بين
الرغبة في الثبات والتمسك بالواقع المحيط، والبحث عن الهروب والتحرر.
جوهر القصة العاشرة (الجوديّ
وسام خوير) الصفحة رقم 79: هذه القصة تحمل مغزى عميقًا حول التأثيرات النفسية
والاجتماعية لتقدم العمر، وتعكس العلاقة بين الجودي وكبار السنّ، وكيف يسعى
الأشخاص المتقدمون في السنّ لإيجاد المتعة والتسلية في حياتهم، والجودي يمثل دورًا
محوريًا في توفير هذه المتعة، من خلال تقديم عروض السفر وتسلية الأرواح المتعبة، وتدعو
القصة ــ ضمنا ــ للتفكير في كيفية تلبية احتياجات كبار السنّ، وتقديم الدعم
والاهتمام لهم، بطرق تحسن من نوعية حياتهم، وتعكس قيمة الرحمة والتفاهم في
العلاقات الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرايا السرد: أوجه
التشابه بين "تمر وجمر" وأعمال أدبية أخرى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما تعكس المرايا
وجوهنا وتفاصيل ملامحنا؛ تعكس السرديات الأدبية تجارب الحياة في تجلياتها الفريدة،
وفي "تمر وجمر" نجد تشابكات مبدعة مع أعمال أدبية أخرى، تعزز من تفرد
هذه المجموعة وتبرز جوانبها المتألقة، وتتداخل فيها المشاعر والتجارب الإنسانية
المشتركة؛ منها على سبيل المثال:
رواية (بداية ونهاية)
لنجيب محفوظ: التي تتناول التغيرات الاجتماعية، التي طرأت على أسرة مصرية بعد وفاة
عائلها، وتأثيرها على حياة كل فرد من أفراد الأسرة.
والمجموعة القصصية (أرخص
ليالي) ليوسف إدريس: التي تناولت قصصها مواضيع اجتماعية وإنسانية متنوعة؛ مثل
الفقر والعلاقات الاجتماعية والتحولات في المجتمع المصري.
والمجموعة المنوعة (دمعة
وابتسامة) لجبران خليل جبران: التي تضم مجموعة من القصص القصيرة والمقالات، التي
تتناول مواضيع إنسانية واجتماعية بعمق فلسفي، وأسلوب بلاغي مميز.
ومن الأعمال الأدبية
العالمية:
رواية (البؤساء)
لفيكتور هوغو: التي تناولت قضايا اجتماعية وإنسانية مثل الفقر والظلم الاجتماعي،
وتأثير الثورة الفرنسية على حياة الأفراد.
ورواية (الحرب والسلام)
لتولستوي: التي تناولت تأثير الأحداث التاريخية الكبرى مثل الحروب، على حياة
الأفراد والمجتمع الروسي.
ورواية (مائة عام من
العزلة) لغابرييل غارسيا ماركيز: التي تناولت تاريخ عائلة بوينديا وتحولات المجتمع
من خلال قصص الأجيال المتعاقبة، مع التركيز على البيئة، والتغيرات الاجتماعية.
وهكذا تتسم هذه الأعمال
الأدبية، مثل مجموعة (تمر وجمر)، بعمقها في تناول القضايا الاجتماعية والإنسانية،
وتصوير الشخصيات بواقعية، وتجسيد البيئات المحيطة بشكل حي ومؤثر، هذه المواضيع
تبقى دائماً ذات صلة؛ لأنها تعبر عن تجارب إنسانية مشتركة ومستمرة عبر الزمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"تمر وجمر":
نسيج أدبي متفرد يتحدى التقليد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموعة "تمر
وجمر" للكاتب حسن بو حسن؛ تتميز بعدة جوانب تجعلها فريدة ومختلفة عن الأعمال
الأدبية الأخرى، التي تتناول مواضيع مشابهة. من بين هذه الجوانب المتميزة:
اللغة البلاغية
والشعرية: فالقاص حسن بو حسن يستخدم لغة غنية بالوصف والتشبيهات، مما يضفي جمالًا
خاصًا على قصصه، وهذا الأسلوب البلاغي يعزز من تجربة القراءة، ويجعل الوصف أكثر
حيوية وتأثيرًا؛ ومن أمثلة ذلك: "نظر إلى خيمة من صنع شركته الخاصّة باتت
قريبة منه وهو يصيخ السمع إلى قهقهات فرح وانشراح تنبعث من داخلها، متناغمة مع شيء
من ترانيم موسيقية ممزوجة بغناء جميل وصوت شجيّ..." (الصفحة رقم 18).
كما تميزت مجموعة
"تمر وجمر" بعدد من الخصائص، التي تجعلها مختلفة عن أعمال أدبية أخرى،
ومن هذه السمات:
الأسلوب السردي الذي يتميز
بتقنيات معينة في الوصف والتفصيل، قد تكون مختلفة عن الأعمال الأخرى، فضلا عن
استخدام الرموز والتجريدات التي تعكس تجارب وواقع شخصياتها، بطرق غير تقليدية، مما
يمنحها طابعًا خاصًا ومميزًا.
فإذا ما تحدثنا عما
تعكسه مجموعة "تمر وجمر" من واقع ثقافي أو اجتماعى محدد؛ لأيقنا أن هذا يمنحها
خصوصية، ويعزز من قيمتها الأدبية كوثيقة ثقافية.
كما أن التنوع الكبير
في الموضوعات التي تعالجها؛ يمنحها ثراءً أدبيًا، ويوفر للقارئ تجارب متنوعة، تترك
تأثيرًا نفسيًا خاصًا، يتعلق بالوجود والإنسانية بشكل مكثف ومؤثر.
ولا شك أن الشخصيات في
"تمر وجمر" معقدة وعميقة، مما يجعلها تبرز عن الشخصيات في الأعمال
الأخرى التي قد تكون أكثر تقليدية أو نمطية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفرد البعد الدلالي
لعناوين القصص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن اختيار الكاتب
لأسماء الشخصيات كعناوين لقصصه، له دلالات متعددة؛ منها: تسليط الضوء على دور الشخصية
في القصة، مما يشير إلى أهميتها في تطور الحبكة، أو التأثير على الأحداث فيها،
فضلا عن أن لكل اسم دلالة رمزية أو تجسيد معين، أو سمات شخصية أو صفات مميزة، تكون
بمثابة تلميح لمحتوى القصة، ووسيلة تساهم
في تعميق فهم القارئ لها، وتوضيح الرسائل المركزية فيها.
ــــــــــــــــــ
خاتمة
ــــــــــــــــــ
كما يمتزج (تمر) الحياة
بوهج (الجمر)، يقدم لنا الكاتب في مجموعة (تمر وجمر) قصصاً تُحلق بنا عبر مسارات
متنوعة من التجربة الإنسانية، في لوحات أدبية مفعمة بالأمل والضياء، الوجع والشقاء،
معبرة عن الحياة بتفاصيلها المتناقضة بين الحلاوة والمرارة، وعاكسة قسوتها وجمالها
في آن واحد؛ لتبقى في الذاكرة بصمة من النقاء والعمق، لكاتب مبدع استطاع أن يكشف النقاب
عن (جمر) أعماق المشاعر الإنسانية، وينسج منها قصصا كـ(التمر) في حلاوتها، بمهارة
وحرفية واقتدار، عبر التباين بين الهدوء والثورة، البساطة والعمق، والنور والظل،
وأستعير ــ في وصف هذه المجموعة القصصية ــ قول الشاعر/ فاروق جويدة (بتصرف):
لؤلؤة تعانق
صمت أيامي
يسقط ضوءها
خلف الظلال
(سردك
القصصي) بحر النور يحملني إلى
زمن نقي
القلب، مجنون الخيال.
دمت ودام إبداعك، وإلى
آفاق أرحب من التألق والتميز بإذن الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة
لاتحاد كتاب مصر
ــ نُشرت هذه الدراسة
في صحيفة أخبار الخليج البحرينية بتاريخ 24 أغسطس 2024
https://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1376287
تعليق الكاتب أ/ حسن
بوحسن على هذه الدراسة:
صباحك جمال نقدي ورقي
أدبي
قرأت ورقتك النقدية
القيّمة والراقية جدا جدا بصمات الضوء والظلال، الوصف فيها أو التعبير عن جمالها
ببضع كلمات لن يوفيها حقها، عزيزي أستاذ مجدي، إنها تحفة بلاغية مكتملة الحسن
والعمق النقدي ونص برتبة إضافة نوعية للمجموعة القصصية تمر وجمر.
وقد استطعت في هذا
العمل النقدي أن تحتوي كل خفايا وأسرار وثيمات المجموعة وهواجس وإحاسيس
شخصياتها، أهنيك على هذا الإبداع النقدي
وما تمتلك من مساحة بلاغية ووصفية لرسم المشهد العام للمجموعة بدقة متناهية، وفي
ذات المقام أشكرك الشكر الجزيل الذي يليق بمقامك وأنت قامة أدبية عربية يشار إليها
بالبنان وتعرّف بنبلها وعظبم تواضعها وجليل عطائها الذي لا ينضب.
وهذه القراء النقدية
المتميزة في طريقها إلى النشر، سأرتب لذلك
مع معد الصفحة الثقافية في الصحيفة اليومية الأولى في البحرين أخبار الخليج. سعدت
كثيرا بقراءتها، ومن جديد تقبل تحياتي وتقديري وشكري لك.🌹 حسن بو حسن