تحولات الفقد ومفارقات
الوجود
قراءة الأديب مجدي شلبي في ثمان قصص قصيرة
جدا للكاتبة الأردنية أ/ سناء وادي الرمحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:
لقد فاجأتنا الكاتبة والناقدة القديرة أ/
سناء وادي الرمحي بمجموعة من قصصها القصيرة جدا، التي نشرتها لها صحيفة الدستور
الأردنية بتاريخ 12 أغسطس الجاري 2024، وهي قصص يربط بينها "تحولات الفقد
ومفارقات الوجود"، ومدى معاناة الإنسان مع تلك التحولات التي تظهر في أشكال
مختلفة؛ من الفقدان الجسدي إلى الفقدان العاطفي، ومن اللحظات اليومية البسيطة، إلى
المواقف التي تقلب حياة الشخصيات رأسًا على عقب، وتكشف عمق توتراتهم النفسية
والوجودية، وتقدم لمحة عن صراعاتهم الداخلية وتأملاتهم الحياتية، من خلال تنوع في
الأسلوب وحرفية في تناول المواضيع المتعلقة بالفراق، الحنين، الخوف، والبحث عن
الأمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجليات الإبداع في تنوع الأسلوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاشك أن تنوع الأسلوب في الأدب عموما ــ وفي
هذه المجموعة القصصية على وجه الخصوص ــ يحمل عدة فوائد مهمة؛ منها: جذب اهتمام
القارئ وإبقائه متشوقًا لاكتشاف المزيد، حيث يشعر بالتجدد المستمر في كل قصة، كما
أن تنوع الأسلوب يساعد الكاتب على تقديم كل شخصية أو موقف بأسلوب يناسبها، مما
يضيف عمقًا وواقعية أكبر للعمل الأدبي، وهنا تظهر براعة الكاتب وقدرته على التحكم
في أدواته الفنية بما يعكس مهاراته في التكيف مع متطلبات كل قصة أو فكرة على حدة.
وهو ماظهر جليا في الثمان قصص؛ مما ساهم في
تقديم تجربة قرائية متعددة الأبعاد تعكس عمق الأفكار والمواضيع المطروحة؛ على نحو
ما سيتضح في القراءة التحليلية التالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأملات نقدية وقراءة تحليلية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه التأملات النقدية؛ أقدم قراءة
تحليلية متعمقة للقصص المعروضة؛ للكشف عن تقنيات السرد وأبعاده الفنية والرمزية:
1ــ توظيف المفارقة والرمزية: تتميز القصص
القصيرة جدًا في هذه المجموعة من القصص؛ بتوظيف المفارقة والرمزية بشكل بارز؛ ففي
قصة "بنك"، نجد أن توقعات الشخصية الأساسية تتحطم على صخرة الواقع
القاسي عندما تتحول ماكينة البنك من وسيلة للتعامل المالي إلى آلة تنذر بالموت: "لم
تُخرج الماكينة إلا شهادات وفاة!."، هذه المفارقة تسلط الضوء على الهشاشة
الإنسانية في مواجهة النظم البيروقراطية، وقد استخدمت الكاتبة في هذه القصة (الأسلوب
الرمزي الساخر).
2ــ الاغتراب والوحدة: في قصة
"سفر"؛ نرى تجسيدًا دقيقًا لحالة الاغتراب والوحدة التي تصيب الإنسان
عند لحظات الوداع؛ "سافر كل شيء، وبقيتُ أنا!"، السفر هنا ليس فقط
انتقالًا جغرافيًا بل هو انتقال عاطفي وفكري، حيث يبقى الشخص في مواجهة ذاتية مع
إحساس بالفراغ والضياع، والنهاية المفتوحة تعمق من الإحساس بالوحدة، مما يترك
القارئ متأملًا في تأثير الرحيل على النفس البشرية، وقد استخدمت الكاتبة في هذه
القصة (الأسلوب التأملي الحزين).
3ــ التناقض بين التوقعات والواقع: في قصة
"رجوع"؛ نجدها تجسد بشكل مكثف التناقض بين التوقعات والواقع، إذ يتحول الفرح
المتوقع بالعودة؛ إلى صدمة، ويتحول الترحيب إلى ظلام قاتم وموت؛ "كل شيء جاهز
لمراسم الاستقبال، فجأة، أظلم المكان، الناس والأمكنة تنحني على مسقط رأسي. لم
يقبلوها، بل صاروا جزءا من التراب."، القصة تعكس هشاشة الأمان الظاهري، حيث
يمكن أن تنقلب الأحوال في لحظة، ويتحول الفرح إلى فاجعة؛ هذا التناقض يلقي الضوء
على حقيقة أن الحياة مليئة بالمفاجآت غير المتوقعة، التي قد تحطم الآمال، وقد
استخدمت الكاتبة في هذه القصة (الأسلوب المأساوي المفاجئ).
4ــ دور الضعف والقوة في العلاقات الإنسانية: في قصة "انتقام"؛
يتم استكشاف الديناميكيات المعقدة للقوة والضعف في العلاقات الإنسانية؛ فالشخصية
الرئيسية التي كانت قوية ومتسلطة تجد نفسها في نهاية المطاف ضعيفة وتحت رحمة من
كانت تستبد بهم؛ "كان قاسيا، متجبرا... حانت ساعته وبدا ضعفه؛ بكى كالأطفال،
قبّل رأسها ويديها لتبقى... سحبوه بقوة، وحملوا جثمانها إلى مثواه الأخير."،
هذا الانقلاب في الأدوار يبرز كيف يمكن للموت أن يكون وسيلة للانتقام من الظلم،
وكيف أن اللحظات الأخيرة من الحياة قد تحمل كشفًا عن الحقائق الدفينة للعلاقات،
وقد استخدمت الكاتبة في هذه القصة (الأسلوب النفسي المعبر عن التناقض).
5ــ الصراع الداخلي والخوف: في قصة
"مصافحة"؛ يبرز الصراع الداخلي للشخصية والرعب الذي يصاحبها؛ فاليد التي
ترفض مفارقة السارد تصبح رمزًا للرعب الداخليـ الذي لا يمكن الفرار منه؛ "سحبت
يدي مسرعا، سألوذ بالفرار دونما التفات، هناك على بر ظننته آمنا، وجدت يده وقد أبت
مفارقتي."، هذا الخوف غير المبرر وغير المنطقي؛ يكشف عن القلق العميق الذي
يعيش في أعماق النفس، والذي يرفض الانفصال عن التجارب المؤلمة حتى بعد مرورها، وقد
استخدمت الكاتبة في هذه القصة (الأسلوب الرمزي المعبر عن القلق العميق).
6ــ تأثير الذكريات والمخاوف على الحياة
اليومية: في قصة "بقع"؛ نرى كيف تتحول المخاوف
والذكريات القديمة إلى مصدر للكوابيس والقلق؛ فالقصة تعكس تأثير الماضي على
الحاضر، حيث تستمر الذكريات في مطاردة الشخصية حتى بعد أن تصبح تلك المخاوف جزءًا
من الماضي؛ "لكم أزعجتني بقع الزيت على الملابس،... باتت تلك البقع لا تزورني
إلا في الكوابيس..."، هذه الكوابيس تشكل صورة مقلقة للحياة التي تظل عالقة
بين الماضي والحاضر، وقد استخدمت الكاتبة في هذه القصة (أسلوب القلق المتعلق
بالذكريات).
7ــ العبثية والمرارة في الحياة اليومية: في قصة
"أضحية"؛ يتم الكشف عن عبثية الحياة والمرارة التي قد تصاحبها؛ "شحذ
سكينه، أراح الأضحية على جنبها الأيمن... شوهدت وهي تجري بين الأنقاض... أما
صاحبها فقد سقط مضرجا بدمائه وقلبه ملتصق بالتراب."؛ فالتضحية بالأضحية التي
تهرب من مصيرها المحتوم، وسقوط صاحبها الذي ينتهي مضمخًا بدمائه، يعكسان مأساة
الوجود حيث تختلط الفعل الرمزي بالواقع القاسي، وهذا التداخل يصور عالمًا مليئًا
بالعبثية وعدم اليقين، وقد استخدمت الكاتبة في هذه القصة (الأسلوب العبثي والمرير).
8ــ الحنين وفقدان الاتصال العاطفي: في قصة "رسائل"؛
نجد تأملًا عميقًا في الحنين إلى الماضي وفقدان الاتصال العاطفي في العصر الرقمي؛
"كم عشقت رسائل الورق: شكلها. رائحتها. الخط المنمنم،... افتقدتها كثيرا في
زمن وسائل التواصل السريعة... عثرت مؤخرا على العديد منها في جيوب المعاطف
المنسية."، فالرسائل الورقية التي تحمل دفء العلاقات القديمة تتحول إلى تذكار
مؤلم للفراق، وهذه القصة تقدم نقدًا ضمنيًا لتسارع العصر الحديث، وكيف أثر ذلك على
جودة العلاقات والتواصل الإنساني، وقد استخدمت الكاتبة في هذه القصة (أسلوب الحنين
للزمن الجميل).
ـــــــــــــــ
خاتمة
ـــــــــــــــ
وهكذا قدمت الكاتبة المبدعة أ/ سناء وادي
الرمحي من خلال مجموعة قصصها القصيرة جدا؛ تأملات مكثفة في التجارب الإنسانية؛ فكل
قصة من القصص الثمان المعروضة؛ ليست مجرد حكاية، بل هي مرآة تعكس واقعًا مركبًا،
وتجعلنا نرى أنفسنا في مواقف قد نكون عشناها، أو نخشى أن نعيشها.
لقد أبدعت كاتبتنا في عالم القصة على نحو يشبه
إشراقة فجر جديد يبدد عتمة التكرار، وأثبتت قدرتها على استكشاف أعماق النفس
البشرية، والتعبير عن مكنوناتها، بكلمات تبعث الحياة في القصص، وتمنحها رونقا
فريدا.
خالص التمنيات الطيبة بمسيرة مليئة بالإبداع
القصصي الراقي والمتجدد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
ــ نُشرت في جريدة الزمان بتاريخ 31 أغسطس 2024