تراتيل عزاء
في مرايا الوجد وأنسنة الرمز
قراءة الأديب مجدي شلبي في المجموعة القصصية (بائعة
الياسمين) للكاتبة التونسية د. هالة مهدي
بقلم/ مجدي شلبي (*)
مقدمة
تتجلى قصص هذه المجموعة
كلوحات زاخرة بالرمزية والتعبير العاطفي العميق، ويشير العنوان "بائعة
الياسمين" إلى حالة من الوجد النفسي والحنين الداخلي، الذي تنعكس تفاصيله في
مرايا السرد، حيث تتردد أصداء الحزن والألم كتراتيل خافتة في خلفية النصوص، وهذه
التراتيل لا تعبر فقط عن الفقدان أو الأسى، بل تأخذ طابعًا روحانيًا يعيد صياغة
الحزن؛ كجزء من رحلة الإنسان نحو الفهم، وكيفية تعامله مع واقعه.
فكل قصة تفتح نافذة إلى
قلب من القلوب المضطربة، وتعكس في الوقت نفسه شعورا بالوحدة والعزلة، مما يجعل
القارئ يتأمل فيما وراء الظاهر.
وعندما نقول
"مرايا الوجد"، فإننا نستحضر تلك اللحظات التي تُحاكي فيها القصص أعماق
النفس البشرية، كاشفةً عن بواطن الألم والفرح، الحزن والأمل، عبر صور فنية تختبئ
خلفها معانٍ ودلالات لا تُفهم إلا بتأمل عميق.
أما المقصود بـ "أنسنة
الرمز" فهو تحول الرموز المجردة إلى عناصر حية تتفاعل مع محيطها، وتعبر عن
الذات الإنسانية بكل ما تحمله من تعقيدات، وفي هذه المجموعة، يأخذ كل رمز دوره في
رسم ملامح الشخصيات وصياغة تجاربها، وبهذا الربط العميق بين الوجد الداخلي وأنسنة
الرمز؛ تفتح القصص أبوابها أمام القارئ، ليدخل في عوالم من السرد الغني بالتأملات
والرموز، التي تتشابك لتكوّن فسيفساء فريدة، تأخذنا في رحلة عبر أحاسيس إنسانية
تتجاوز حدود الكلمات.
ومن هنا تبدأ قراءتي
النقدية والتحليلية في كل قصة على حدة، والغوص في أعماق الرموز والمشاعر التي
تعكسها مرايا السرد، لأسبر أغوار الشخصيات وألقي الضوء على جوهر المعاني المستترة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جماليات السرد
في الرمز والوجد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في عالم الأدب القصصي،
تلعب تجليات السرد دورًا محوريًا في تشكيل التجربة القرائية، وذلك من خلال إلقاء
الضوء على أصداء الرموز وعمق الوجدان، واكتشاف أغوار العلاقة بين الرمز وجماليات
السرد، حيث تتناغم الرموز المعقدة مع الأبعاد العاطفية، والتأملات الوجدانية
والنفسية للشخصيات؛ لتخلق تجربة سردية متميزة؛ على نحو ما توضحه قصص المجموعة،
التي اخترت من بينها خمسة عشر مثالا:
1ــ جماليات السرد في
قصة (بين اليقظة والحلم): تتداخل في هذه القصة عناصر الواقع والخيال، مما يعكس
تناقضات الوعي البشري بين ما يعيشه الإنسان، وما يحلم به، والسرد في هذه القصة يعتمد
على الانتقالات السريعة بين مشاهد اليقظة والحلم، وهو ما يعزز شعور القارئ بالتردد
بين الواقع والوهم.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في تفاعل الشخصيات مع عناصر الطبيعة مثل (الشمس والقمر)، حيث تأخذ هذه
الكيانات صفات إنسانية؛ تعبر من خلالها عن آراء وأفكار تتعلق بحياة الإنسان
اليومية، والشاهد على ذلك: "في الليل سأل
القمر... أجاب القمر باستغراب..." (ص 7)، القصة هنا أنسنت القمر ليكون مصدرًا للحكمة والضوء رغم استغراب الشخصية من
طريقة تفاعله معه.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": "لم يعرف بأن الحب
إذا بقي طيّ الصدور يكون مآله ظلمة القبور." (ص 8)؛ فهذه العبارة مرآة تعكس الحالة
الوجدانية للشخصية والصراع الداخلي بين مشاعره المكبوتة وواقعه الذي لا يستطيع
التكيف معه، وتوضح عدم قدرته على التعبير عن مشاعره العاطفية، مما يؤدي إلى نهايات
مؤلمة وحزينة.
2ــ جماليات السرد في قصة (حوار
مع الأموات): القصة تعتمد على فكرة الحوار مع الموتى، وهو ما يتيح للشخصية
الرئيسية استرجاع ذكريات وتصورات حياتية في ضوء مواجهتها للموت، واستخدام الحوارات
الداخلية يعزز من التوتر النفسي للشخصية.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في الحوار الذي جرى بين البطل و(صوت الميت) من داخل القبر، والشاهد
على ذلك: عندما سأله الميت
"لماذا تأتي إذن إلى المقبرة كلّ يوم مادام لك في الحياة من يحلو البقاء
بجانبه؟" (ص 12)، هنا نجد أن الموتى يمثلون ضميرًا حيًا يوقظ الشخصية
الرئيسية من سباتها، مما يعكس تحولًا في رمزية المقبرة من مكان للموت، إلى مكان
للحياة الروحية والاستنارة.
والشاهد المعبر عن
مرايا الوجد: " جلس قبالة القبر وبدأ يحدّث الميت: كيف كانت وفاتك؟ أجاب صوت من داخل القبر."
(ص 11)؛ فالحوار مع الأموات يمثل مرآة لوجد الشخصية العميق، وشعورها بالانتماء إلى
عوالم غيبية، وماضٍ لم يغادرها بعد، مما يعكس حالة تأمل وتواصل مع الماضي.
3ــ جماليات السرد في قصة (القط
والكلاب): تعتمد القصة هنا على تجسيد الصراع
بين القطط والكلاب، كرمز للصراعات اليومية التي يمر بها الإنسان.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في تحول الحيوانات في القصة
إلى كائنات تعكس مشاعر وأفكار إنسانية، كالخوف والرغبة في الانتصار، والشاهد على
ذلك: " هربت الكلاب وبقي القط يستجمع طاقته لمواصلة سيره... وجد جحرا كبيرا بالقرب
من مكانه فاحتمى به منتظرا.." (ص 19)، وهذا المشهد يظهر كيف أنسنت القصة (القط)، ليكون عاكسًا للحذر والتخطيط
البشري.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": "تعالى صوت ذلك القط مرة أخرى لكنه بدا واضحا هذه
المرة وكأنه يستعدّ لشن حرب شرسة ضدّ الكلاب." (ص 22)، والقط هنا يمثل مرآة
لحالة وجدانية؛ تعكس الثقة بالنفس مقابل الخوف الكامن من الآخرين (الكلاب)، مما
يعكس صراعاً داخلياً بين القوة والخوف.
4ــ جماليات السرد في قصة (حديث
الأعمى والأعرج والأبرص): تبرز جماليات السرد في الحوار
الثلاثي بين شخصيات تمثل حالات إنسانية مختلفة، مما يجعل القارئ يتأمل في التنوع
البشري ومعاناته.
وتظهر "أنسنة
الرمز" في الرموز الثلاثة (الأعمى، الأعرج، الأبرص)، والتي لا تُختزل في
المرض، بل تعبر عن مشاعر وأفكار أعمق تتعلق بالوجود الإنساني، والشاهد على ذلك؛ من
قول الأعمى: "أما أنا فما
أبصرت يوما، لكني كنت أرى الجمال في كلّ مكان أسير فيه معكما." (ص 26)، وهذا المقطع يعبر عن أنسنة حالة العمى من مجرد فقدان البصر إلى رؤية أعمق
بالحواس الروحية.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": محاولة كل منهم أن يثبت للآخرين أن آلامه هي الأكبر،
وتنافسهم في سرد حكاياتهم المأساوية، وهذا الحديث هو مرآة لوجدهم المشترك، حيث يعكس كل منهم إحساسه بالعجز
والمعاناة.
5ــ جماليات السرد في قصة (تكنولوجيا): يعتمد السرد هنا على الحوارات الداخلية والخارجية، وانتقال السرد بين
الواقع الافتراضي والحياة اليومية بشكل سلس.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في ظهور (التكنولوجيا) في القصة
ككائن حي؛ يتدخل في تشكيل حياة البشر، مما يضفي عليها طابعًا إنسانيًا، والشاهد
على ذلك: "لمح الهاتف الذي
بيد الشاب فإذا به منغمس في الحديث مع أطراف عدة." (ص
28)، وهذه الجملة تُظهر كيف تحولت التكنولوجيا إلى كيان حي يؤثر في الإنسان، الذي
يتفاعل ويتعامل معه.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": "نهض من جانبها
يلعن التكنولوجيا ومخترعيها، فالكلّ صار منغمسا في عالم خيالي ناسيا أنّ لواقعه
عليه حق.." (ص 29)؛ فالتكنولوجيا هنا هي
مرآة لعزلة الشخصيات عن بعضها، وفقدان التواصل الحقيقي، مما يعكس وجع الغربة
والانفصال عن الواقع الاجتماعي.
6ــ جماليات السرد في قصة (بائعة
الياسمين): اعتمدت الكاتبة هنا على
سرد قصصي ذو طابع شعري ــ ربما لكونها في الأصل شاعرة ــ حيث جمعت بين وصف الطبيعة
ومشاعر الشخصية الرئيسية بحرفية وإبداع.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الياسمين)، الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة البطلة ويمثل
ارتباطها بأمها وذكرياتها؛ فالرمز يتجاوز كونه مجرد زهرة ليصبح حاملاً لمشاعر
وأحاسيس البطلة، والشاهد على ذلك:"بقيت أنا بائعة الياسمين أنثر صور الياسمين
على الورق علّني أجد فيها رائحة أمي." (ص 39).
والشاهد المعبر عن
"مرآة الوجد": "توفيت والدتي، وقبل دفنها جمعت الياسمين والفل
الموجودين في حديقة بيتنا مع أبناء أخوتي، ونثرته على جسدها الطهور، ثم ودعتها
الوداع الأخير ليكون ذاك آخر عهدي بالياسمين." (ص 39)، والوجد هنا يتمثل في الفقد العميق والشوق للأم الراحلة، مما يجعل البطلة
تشعر بالغربة عن عالمها دون أمها.
7ــ جماليات السرد في قصة (رؤيا):
السرد هنا يحمل طابعاً غرائبياً، يتنقل بين الواقع والحلم بسلاسة، مما يخلق جواً
من الغموض والتوقع.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الجسد الميت) الذي يصبح
كيانًا حيًا يشعر ويحتاج إلى وسائل اتصال تكنولوجية مثل الهاتف المحمول، مما يجسد
كيف أن أنسنة الرمز تجعل الجسد الميت كائنًا واعيًا قادرًا على إدراك الأحداث
المحيطة به، والشاهد على ذلك: "حاولت أن تستقيم في جلستها لكنها لم تستطع
كذلك. تمنت لو كان معها جوالها لترى ما يحصل بعد وفاتها، من سيحزن لفراقها؟ من
سينساها؟ من سيبقى يذكرها؟"(ص 54).
والشاهد المعبر عن
"مرآة الوجد": "بعد عودة الجميع من المقبرة استمر حزن بعضهم قليلاً
من الوقت ربما كان أسبوعًا أو شهرًا أو سنة لم تعرف كم بالضبط، لكن المؤكد أنّ
الكلّ قد نسيها عدا والدتها المسنة وأبناءها الذين غادرتهم وهم مازالوا في أول
الطريق." (ص 54)، وتعكس هذه العبارة مشاعر العزلة والنسيان التي يتعرض لها
الإنسان بعد الموت، وهي مرآة لوجدان الحزن والألم الناجم عن فقدان الأحبة وتلاشي
ذكراهم.
8ــ جماليات السرد في
قصة (خاطر غريب): تتميز بالسرد التأملي الذي يتعمق في تفاصيل الأفكار الداخلية
للشخصية، مما يعزز من طابعها الفلسفي.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الخاطر الغريب)، الذي يرمز إلى هواجس الإنسان الداخلية، ويتحول
إلى كيان يعيش ويعشش داخل عقله، والشاهد على ذلك: "خطر له خاطر غريب ساعتها...
ابتسم لهذا الخاطر وراح ينسج خيوطه في ذهنه.."(ص 60).
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": "تخيل نفسه وهو يعالج القبر المظلم يريد الخروج
منه... تسعة أشهر كاملة وهو يحاول أن ينبش القبر. كان هيكلا عظميًا لا روح فيه ثم
بدأت ملامحه تكتمل شيئا فشيئا إلى أن استقام بشرا سويا" (ص 60)؛ هذا الشاهد
يعكس التفاعل الداخلي لعبد السلام مع مشاعر الوجد والحنين أثناء إعادة بناء
ذكرياته بشكل عكسي، تبدأ من القبر وتنتهي بالولادة، وهذه التأملات تكشف عن شعور
عميق بالحنين والتعلق بالذكريات، خاصة بأسرته وطفولته.
9ــ جماليات السرد في قصة (نور
المقابر): يتميز السرد هنا بالجمع بين الظلام والنور، حيث تصف القصة كيف يمكن
للأمل أن ينبعث حتى في أحلك اللحظات.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (نور المقابر)، الذي يرمز إلى الأمل، الذي ينبعث من قلب اليأس،
ككيان حي ينير درب الضائعين، والشاهد على ذلك: "الجدة عائشة العائدة من ظلمة
القبر" وأن "والده العائش شُفي والجدة عائشة شُفيت وعاد كلاهما إلى
الحياة بعد أن عايشا نور المقابر" (ص 70)، فيُعطى للمقابر والنور خصائص
إنسانية وكأنها أماكن تؤثر على البشر وتعطيهم حياة جديدة بعد الموت، والمقابر هنا لا
تمثل مجرد مكان للدفن، بل تصبح رمزًا يحمل معنى أعمق للحياة ما بعد الموت.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": يتجلى في الحزن والفرح المتناقضين، اللذين يعيشان داخل
أفراد العائلة: "كانوا جميعا يعيشونها بكلّ تفاصيلها مرة في النور ومرة في
الظلام، مرة بحزن ومرة بفرح." (ص 68)، وهذه العبارة تصف تجربة وجدانية
متذبذبة بين الأحاسيس المختلفة، وهي حالة تعكس عمق التجربة الإنسانية في التعايش
مع تناقضات الحياة.
10ــ جماليات السرد في قصة (ورقة
الطلاق): يتسم السرد هنا بالواقعية الحادة، ويعكس المعاناة العاطفية والقرارات
الصعبة التي تُتخذ دون رجعة.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الورقة) التي كُتب عليها؛ فأضحت رمزًا لأنسنتها، حيث تحولت من
مجرد قطعة من الورق إلى كيان يحمل مشاعر ومواقف حياتية تؤثر على مصير الزوجين، والشاهد
على ذلك أن الزوجة عندما: "أخذت الورقة وبدأت تحدّق فيها، بدت لها الكلمات
مثل الطلاسم يقفز بعضها فوق بعض" (ص 74)؛ حيث تتحول الكلمات إلى طلاسم، مما
يضفي على الورقة رمزًا بشريًا يحمل معاني الغموض والقلق.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": الشعور بالندم والقلق من المستقبل الذي تعيشه الزوجة بعد
تصرفها المتهور: "رأت نفسها تقف أمام القاضي وهو يقول لها: زوجك يريد أن
يطلقك فماذا تقولين؟." (ص 74)، وهنا حالة وجدانية يعيشها الشخص في مواجهة
قرارات حاسمة.
11ــ جماليات السرد في
قصة (أنا لا أشبه ظلي): السرد ــ في هذه القصة ــ يتسم بالتحليل النفسي العميق،
حيث يستكشف العلاقة بين الذات والصورة.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الظل)، الذي يتحول إلى كيان تتحدث معه وتوجه الكلام إليه؛ والشاهد
على ذلك: "كانت تسير في الشارع تحادث ظلها قائلة له..." (ص 78).
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": محادثة الشخصية لظلها
قائلة: "أنت لا تشبهني في شيء" (ص 78)، ويمثل ذلك انعكاسًا للاغتراب
النفسي والشعور بالانفصال عن الذات، وحالة الصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصية.
12ــ جماليات السرد في
قصة (انتظار): هذه القصة تعتمد على السرد البطيء المليء بالتفاصيل الدقيقة، مما
يعزز من إحساس القارئ بالزمن الطويل الذي يمر على الشخصية.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الانتظار والمجيء)، والموت هنا شخصية حية تتحاور معها، ترفضه
أحياناً وتشتاق إليه في أحيان أخرى، إلى أن يأتي ليأخذها في لحظة لم تعد ترغب فيها
بذلك، والشاهد: "غادر المكان وتركها تصارع مرضا ألم بها... ربّما حزنت لأنه
لم يأخذها معه، ولكنها في تلك اللحظة تذكرت أبناءها فعاد إليها بعض الأمل... نسيته
فترة وانشغلت عنه بالعمل والأبناء ومشاغل الحياة. كانت كلّما تعودها حالات اليأس
والضيق تفكر به وتتمنى أن يأتي لحظة ليأخذها بعيدا... دخل عليها يوما في غفلة
منها، لم تكن تفكر به تلك اللحظة." (ص 100).
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": "حاولت طرده... توسلت إليه أن يتركها ويعود
لاحقا... لكنّه لم يسمعها. اقترب منها ولأوّل مرة أحست بأنه وحش كاسر لا رحمة له
ولا شفقة، عنيد، ظالم، مستبد... ابتعدت تريد الهرب منه لكنها كانت كمن ينزل في بئر
عميقة."(101)، وهو تعبير عن مزيج من الرهبة والعجز والتوسل؛ فالموت يظهر كقوة
قاهرة لا يمكن مقاومتها، مجسداً الوجد العميق في إدراك الشخصية لحتمية النهاية.
13ــ جماليات السرد في قصة (الوشاح):
السرد ــ في هذه القصة ــ يتميز بالوصف الشاعري الذي يربط بين الأشياء العادية
والمشاعر العميقة.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الوشاح)، الذي يرمز إلى الوقار، وتسعى إليه الشخصية؛ فيتحول إلى
كيان يمنح الجمال والوقار عليها عندما ارتدته، والشاهد على ذلك: "وضعت الفتاة
الوشاح الأسود على رأسها فأضفى عليها هالة من الوقار وجمالا."(ص 103).
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": ارتداء الوشاح وما
يحمله من ذكريات؛ يعكس الوجد المترسخ في النفوس والأثر النفسي للذكريات العزيزة،
التي تظل عالقة في الذاكرة.
14ــ جماليات السرد في قصة (الاحتفال):
تبدو تلك الجماليات في استخدام لغة حية وواقعية لوصف المشاعر والأحداث، وقد جاء تصوير
العنف المنزلي الذي تعاني منه البطلة؛ مرسوما بوضوح وبشكل مؤثر، مما يجعل القارئ
يعيش معها معاناتها، كما أن وصف الاحتفال بالطلاق كحدث سعيد؛ هو صورة جديدة
ومبتكرة تثير الدهشة والاستغراب.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (الاحتفال بالطلاق)، وهذا الرمز يحمل في طياته معانٍ عميقة تتجاوز
مجرد الاحتفال بحدث شخصي، فهو رمز للحرية والاستقلال والتخلص من العبودية، كما أنه
يرمز إلى تحدي المجتمع وتقاليده، التي تحكم على المرأة وتقمعها، والشاهد على ذلك؛
قول البطلة: "نعم قد يكون الطلاق أبغض الحلال لكنه يبقى حلالا لمن يعيش مثلي
وإلا لما حلّله الله، انتظرت هذا اليوم طويلا، فحياة الجحيم لا تُطاق، فكيف حكمتم
عليّ بالموت بعد أن منحي القضاء الحياة من جديد؟" (ص 110)، وهنا يتم تحويل
الطلاق من مجرد إجراء قانوني إلى رمز للحرية والحياة الجديدة، وهو تحول يعكس
الرغبة الإنسانية في التحرر من القيود الاجتماعية.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": الاحتفال وما يصاحبه من
مشاعر مختلطة تعكس الوجد المتناقض بين الفرح الظاهر والحزن الباطن، والاحتفالات
هنا تمثل مرآة للوجد بين الابتسامات الظاهرة والآلام الخفية.
15ــ جماليات السرد في قصة (السراب):
في هذه القصة ترسم الكاتبة صورة رومانسية للحب عن بعد، مستخدمة لغة شاعرية وعبارات
مؤثرة؛ فتصف مشاعر الشوق والانتظار والحنين بعمق، مما يخلق جوا من الحميمية
والرومانسية.
وتتجلى "أنسنة
الرمز" في (المحيطات والمسافات)؛ التي يضفي النص صفات إنسانية عليها، والشاهد
على ذلك؛ وصف رغبة البطلة في:
"امتصاص كل المحيطات لتقرّب المسافة بينهما."(ص 112)، والمحيطات هنا
ليست مجرد مساحة جغرافية من المياه، بل تحولت إلى كائنات حية يمكن التحكم فيها،
والتأثير على طبيعتها.
والشاهد المعبر عن
"مرايا الوجد": عندما تتأمل البطلة الخريطة؛ تشعر بالضياع والحنين، وذلك
لبعد المسافة بينهما، مما يعكس وجدان البطلة المتعذّب بين البعد الجغرافي والعاطفي
أيضا.
والعنوان نفسه
"السراب" يعبر عن حالة الوجد التي تعيشها البطلة؛ فهي تلاحق شيئًا غير
حقيقي، مثل السراب في الصحراء، مما يعكس شعورًا داخليًا بالوحدة والخوف من أن يكون
حبها مجرد وهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تراتيل عزاء: فانتازيا
الموت على مسرح الحياة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا العنوان
"تراتيل عزاء" يعبر بعمق عن الجو العام للمجموعة القصصية، حيث يشكل
الموت ــ المادي أو المعنوي ــ محوراً بارزاً ومسيطراً على أحداث وحوارات الشخصيات،
والموت هنا ليس مجرد نهاية محتومة، بل هو عنصر يمارس سلطته على الحاضر والماضي، ويتسرب
إلى تفاصيل الحياة اليومية، ويتجلى في مشاعر الحزن والفقدان، التي تلتف حول
الشخصيات، وفي كل قصة تظهر هذه التراتيل كمرايا لعوالم الشخصيات المليئة بالأسى
والذكريات، حيث تحاكي الكلمات إيقاع الحياة والموت في تناسق عجيب، معبرة عن
الوجدان الإنساني في مواجهة الفناء.
هذه التراتيل ليست مجرد
مرثيات، بل هي دعوة للتأمل في معنى الحياة والموت، ومحاولة لفهم كيف يمكن أن يكون
العزاء؛ جزءاً من رحلة البحث عن معنى أعمق للوجود.
مع وجوب الإشارة إلى
الجانب الفنتازي في قصص المجموعة، وعلاقته بالعنصر المسيطر عليها (الموت)؛ حيث بدت
قصة (حوار مع الأموات) على سبيل المثال، نموذجا مدهشا ومعبرا عن تلك الفنتازيا
الرائعة؛ من خلال ذلك التفاعل مع الموتى بطرق غير ممكنة في الواقع؛ مما عزز من قدرة
الكاتبة على التعبير عن القضايا الإنسانية الكبرى ــ في مجموعتها القصصية ــ بطرق
إبداعية فريدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلاصة القراءة
النقدية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن هذا العمل الأدبي
يقدم لنا رؤية متكاملة لعمق التجربة الإنسانية، من خلال تصدير الرموز إلى مستوى
الإحساس المباشر، حيث يصبح كل رمز تجسيدًا لحالة وجدانية وثقافية، تعكس تباين
جاذبية الظاهر وتعقيد الباطن.
ولهذا أرى أن
"بائعة الياسمين" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي رحلة في متاهات النفس
البشرية، تجسد ببلاغة شديدة ما تعنيه "مرايا الوجد" و"أنسنة الرموز"
في تشكيل معانٍ جديدة.
إنها دعوة للمزيد من
التأمل، كما أنها شهادة على براعة الكاتبة د. هالة مهدي في صياغة الأدب، الذي
يتحدى الزمن، ويجعل من كل قراءة؛ رحلة اكتشاف جديدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة
لاتحاد كتاب مصر
ــ
Hela Mehdi قراءة جادة لمختلف اقاصيص
مجموعتي القصصية بائعة الياسمين.. ألف شكر أستاذ على هذا التوسع في تناول كل قصة
قصيرة على حده وقد اصبت في انتباهك إلى رمزية الموت والفناء المنتشرة في مختلف
الأقاصيص بطرق متفاوتة.. دمت مبدعا استاذ.. أنتظر قراءة أخرى لمجموعتي الثانية
البياض الأسود.