أصداء الكسر في مرايا الصمت قراءة الأديب مجدي شلبي في رواية "الكسر" للكاتبة التونسية أ/ سعاد الفقي بوصرصار

 أصداء الكسر في مرايا الصمت

قراءة الأديب مجدي شلبي في رواية "الكسر" للكاتبة التونسية أ/ سعاد الفقي بوصرصار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم/ مجدي شلبي (*)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة

هنا في رواية "الكسر" تنكشف لنا عوالم غائرة بين السطور، حيث يتردد صدى الألم والتمرد في نفس الأنثى التي كسرت قيودها في صمتٍ مدوٍّ؛ فبين جنبات هذه الرواية، تتحرك البطلة كظلٍ يبحث عن النور وسط متاهات النفس والمجتمع، تسعى للحرية وهي مثقلة بجراح الماضي، وتتشكل مرايا الصمت كصور متقابلة لحياتها، تعكس (كسرها) الداخلي وخوفها من المواجهة، وفي كل مرآة يتردد الصدى، ليرسم أبعاد معركة خفية بين القهر والتحرر، وفي هذه القراءة نغوص في رمزية الكسر والصمت، في محاولة لفك شفرة الروح، التي تنطق بالوجع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشخصيات الرئيسية والثانوية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سندس: البطلة المحورية للرواية، وهي تتميز بالخوف العميق والانطواء نتيجة للتحرش الذي تعرضت له في طفولتها من زوج عمتها، وهي تحمل في داخلها جرحًا نفسيًا كبيرًا جعلها تنفر من الرجال، "كل الذكور أصبحوا نسخة كاريكاتورية من زوج العمة القبيح" (ص 26)؛ فتحبس نفسها في عوالمها الخاصة، مما يؤثر على علاقتها بعائلتها وبخاصة أمها، وتصف الكاتبة مشاعر سندس المضطربة وتأثرها بما حدث لها؛ بقولها: "فقد أثرت الحادثة على سلوكها... أصبحت تميل للوحدة والانعزال" (ص 18)​

الفوزي: يمثل الضد بالنسبة لحاتم، ويجسد التناقض بين القوة المادية والافتقار للمشاعر: "انقض عليها كالوحش. صفعها وأمسكها من شعرها وسحبها على الأرض وهو يصرخ..." (ص 69)

حاتم: زميل سندس في الجامعة الذي يشعر بعاطفة نحوها، وهو شخص رقيق وعاطفي، يحاول دعم سندس والتقرب منها بحذر واحترام: "سعى حاتم بلطفه إلى تهدئتي والتهوين عليّ" (ص 204).

الأم: تسعى لطمأنة نفسها بزواج سندس، معتقدة أن الزواج هو الحل لإعادة الأمن للعائلة، ولكنها لا تدرك الجرح العميق الذي تحملته ابنتها، مما يدفعها للصدام المستمر معها: "وما زاد من هواجسها هو رفض سندس جميع من تقدم لخطبتها... فعادت ــ الأم ــ الى محاصرة البنت: ـــ لماذا ترفضين الزواج؟ إلا إذا كنت خائفة من افتضاح أمرك". (ص 31).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحبكة الرئيسية والفرعية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحبكة الرئيسية تدور حول معاناة سندس من جرحها النفسي والتحديات التي تواجهها في التأقلم مع محيطها، سواء في العائلة أو الجامعة.

أما الحبكات الفرعية؛ فتتناول علاقتها بأمها، زملائها، وخاصة حاتم والفوزي، وهذه الحبكات الفرعية تتشابك مع الحبكة الرئيسية في عرض الصراع الداخلي لسندس، خاصة مع تطور الأحداث حول زواجها المفروض من الفوزي، ونرى ذلك في المواجهة بين أم سندس وسندس، حيث تقول الأم: "وإن لم يكن وسيما فالرجل لا يحتقر، لا ينظر الى وجهه ما دام جيبه ملآنا"، (ص 37)، و"أنتِ لا تفهمين، كل ما أريده هو أن أطمئن عليك" (ص 39)​.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الزمان والمكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المكان: تدور الأحداث في بيئة قروية تتحكم فيها العادات والتقاليد، مما يزيد من شعور سندس بالعزلة، حيث تظهر القرية كمكان مغلق يحاصر شخصيتها وتتحكم فيه تقاليد الزواج والخضوع للسلطة الأبوية، وحتى الجامعة مثلت مكانًا جديدًا، مليئًا بالقلق والخوف من العالم الذكوري، ومشاعر القهر؛ تقول البطلة: "أدرس الحقوق ولا أعرف كيف أتمتع بأبسط حقوقي في تقرير مصيري واختيار ما أريد في حياتي الشخصية؟". (ص 57)

أما الزمان: فهو غير محدد بدقة، لكنه يمتد عبر سنوات دراسة سندس في الجامعة، فضلا عن استعادتها لذكريات الزمن الماضي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقنيات الفنية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تستخدم الكاتبة الوصف في عرض المشاهد الداخلية والخارجية للشخصيات، مثل وصف شعور سندس بالخوف حين تقول: "كان الليل مطبقًا أنفاسه على القرية، والظلمة شديدة" (صفحة 5)​، وقد أتى الحوار الداخلي ليعكس صراع الشخصيات مع نفسها، ويظهر في تفاعل سندس مع أمها معبرا عن التوترات النفسية والمعاناة الداخلية.

وقد اعتمدت الرواية على تقنية (الفلاش باك) في استعادة الذكريات المؤلمة لسندس، مما يوضح تأثير الماضي على حاضرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصور البلاغية والرموز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شخصية سندس تمثل رمزًا للتحرر من القيود الاجتماعية والتقاليد الصارمة، التي تعيق تطور المرأة وتحقيق ذاتها، وتحمل الرغبة في الهروب من العنف العائلي والتحرش الذي عانته من زوج عمتها، مما جعلها تنفر من الحياة الزوجية التقليدية التي ترمز إلى القيود التي يفرضها المجتمع على المرأة.

فضلا عن الصورة البلاغية المتمثلة في : "احتضنت في أعماقها بذور الخوف والكره والإرباك" (ص 18)، وفي (الظلام) الذي وظفته الكاتبة كصورة مستمرة في الرواية لتمثيل حالة الخوف والضياع التي تعيشها البطلة، وكيف تعكس الظلمة الخوف الذي يلاحقها من الماضي والرعب من المستقبل: "الليلُ مطبق أنفاسه على القرية. والظلمة شديدة. وهي تطوي الطريق لاهثة لا تلوي على شيء". (ص 5)، وقولها: "عليّ أجد مكانا يأويني من الليل ويحميني من العائلة والجيران ومن نظرات الاحتقار والمهانة في عيونهم" (ص 88).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التصنيف الأدبي لهذه الرواية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنتمي رواية "الكسر" إلى الأدب الاجتماعي، الذي يعالج قضايا اجتماعية شائكة مثل التحرش، والظلم الأسري، والتمييز الجنسي، كما يمكن تصنيفها ضمن الأدب النسوي، حيث تركز على معاناة المرأة، والقمع الذي تواجهه النساء في الحياة الاجتماعية والمهنية، والضغوط التي تفرضها العادات الاجتماعية، والتحديات التي تواجهها الأنثى في مجتمعات ذكورية، كما تلمّح الرواية إلى الاحتجاجات الطلابية والاضطرابات السياسية التي واكبت تواجد البطلة في الجامعة وعزوفها عن المشاركة فيها: "آلت على نفسها ألا تتدخل في شيء ما عدا الدراسة" (ص 36).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرسالة التي تريد الكاتبة إيصالها للقارئ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه الرواية تمثل دعوة للتحرر من الظلم الاجتماعي والعائلي، مع التركيز على أهمية الوقوف ضد التحرش والعنف، سواء كان ذلك من قبل الأقارب أو من قبل المجتمع ككل، كما تدعو إلى فهم أعمق لدور الأسرة في حماية الأبناء ودعمهم، بدلاً من التستر على المشكلات التي تترك أثرًا نفسيًا عميقًا عليهم، وقد جاء على لسان البطلة: "أعلنت عن رغبتي في تكوين جمعية تكون صوت كل من يتعرض إلى الاعتداء أو التحرش وخاصة من قبل المحارم. عندما يصبح حاميها حراميها" (ص 193).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قراءة في صورة الغلاف وعلاقتها بالمتن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صورة غلاف رواية "الكسر" تعبر بعمق عن مضمون الرواية وما تحمله من رمزية ذات صلة بتجربة الكسر النفسي والاجتماعي الذي تتعرض له البطلة، ويظهر في الصورة فتاة صغيرة خلف نافذة مشروخة، وهي تمد يديها على الزجاج، وكأنها تحاول التواصل مع العالم الخارجي أو الهروب منه، مما يعكس حالة العزلة والاغتراب الداخلي الذي تعانيه الشخصية الرئيسية، والشروخ التي تملأ الزجاج ترمز إلى الكسر الداخلي الذي لا يمكن إصلاحه بسهولة، ويترك أثراً عميقاً، تماماً كما يترك الألم والجرح النفسي أثراً في الروح.

الطفلة في الصورة تُمثل البراءة المفقودة أو الحلم المحطم، حيث تواجه العالم بنظرة تجمع بين الخوف والتساؤل، مما يعكس صدى الأحداث التي تتعرض لها البطلة في الرواية، ويبرز الغلاف قوة الصمت وصدى الكسر الذي يتردد في خلفية حياتها، معبرا عن الجوهر الرمزي العميق للرواية، ومقدماً صورة بليغة لأثر الكسر الذي يحدث في الداخل، والذي ينعكس على كل ما يحيط بالشخصية، ليبقى معها كصدى دائم في مرايا الصمت.

ـــــــــــــــــــــــــــ

كلمة أخيرة

ـــــــــــــــــــــــــــ

في خاتمة قراءتي هذه، التي عنونتها بـ"أصداء الكسر في مرايا الصمت"، نصل إلى عمق التجربة الإنسانية التي تتجسد في صراع بطلة الرواية بين الصمت والكسر، بين الاستسلام والمقاومة، فلقد كشفت لنا صفحات الرواية عن رحلة نفسية مؤلمة تتوارى خلف أقنعة الصمت، حيث تتحول كل لحظة إلى مرآة تعكس جراحًا دفينة وأحلامًا مكسورة، ومع ذلك فإن هذا (الكسر)، على الرغم من قسوته؛ يمثل بداية التحول والتجاوز، فالأنثى في هذه الرواية ليست ضحية قدرها، بل هي صوت خافت يتردد في فضاءات الصمت، متمسكًا بحق الوجود والتحرر، ومن ثم تبقى هذه الرواية شهادة حيّة على أن الصمت قد يكون في ظاهره هزيمة، ولكنه في جوهره صرخة تمرد كامنة تنتظر اللحظة المناسبة لتشق طريقها نحو النور والتحرر.

تحية للكاتبة أ/ سعاد الفقي بوصرصار على هذا العمل الأدبي الجريء، الذي يأخذنا إلى أعماق النفس البشرية بجرأة وإحساس مرهف تستحق عليه الكاتبة المبدعة كل التقدير والاحترام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

ــ نُشرت في جريدة النهار العراقية بتاريخ 29 سبتمبر 2024

ــ ونُشرت في جريدة الشارع المغاربي التونسية بتاريخ 8 أكتوبر 2024

ــ ونُشرت في جريدة المصري اليوم المصرية ــ سور الأزبكية ــ بتاريخ 9 أكتوبر 2024

تعليق الكاتبة على هذه الدراسة:

مساء النور استاذ

شكرا على هذه الدراسة العميقة لروايتي الكسر 

شكرا على الحرفية وسرعة الانجاز وهذا غير غريب عنكم فانا منبهرة بغزارة انتاجك وتنوعه

لقد شرفتني باهتمامك بكتاباتي واسعدتني بما كتبت وحبرت

بكل ود احب ان اسالك هل لي ان انشر الدراسة ام انتظر نشرها في الصحف كما ذكرت

لانني اعلم ان بعض المجلات ترفض ان تنشر ما كان قد نشر على صفحات الملتيميديا

مرة اخرى شكرا ولك باقة ياسمين من تونس