تراتيل العشق وسلاسل الظلم
قراءة الأديب مجدي شلبي في رواية
"أشخاص قد تعرفهم" للكاتب الموريتاني أ/ محمدو ولد بوبكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي (*)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة
ــــــــــــــــ
في هذه الرواية يتجلى العنوان "أشخاص قد
تعرفهم"، كنافذة تأملية تأخذ القارئ إلى عوالم شخصيات قد تكون مألوفة، لكنها
تحمل في طياتها صراعات داخلية معقدة، تختبئ خلف قناع الحياة اليومية، كاشفة لنا عن
مساحات معقدة من الصراعات بين الذات والآخر، بين الماضي والحاضر، وبين الذاكرة
والمصير.
وجوهر هذه الرواية يعكس بعمق تشابك علاقات ومصائر
الشخصية الرئيسية في إطار محكم من العواطف المقيدة والظلم الجائر؛ فنرى الجمال
الروحي للعشق وقد تحول من شعور نقي يربط القلوب؛ إلى قيدٍ يخنق الروح ويزيد من
معاناة البطل، هذا الحب الذي كان ملاذًا وأملًا له في محبوبته (سلم)، قد تحول إلى
سلاسل من المعاناة والألم، حيث يجد نفسه متورطًا في تهم باطلة، فتتداخل مشاعر
الفقد والظلم والخيانة مع قسوة الحياة خلف القضبان لعدة سنوات سرقت منه ليس فقط
حريته، بل حبه الأعمق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلاقة بين العنوان والحبكة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرتبط العنوان
"أشخاص قد تعرفهم" بشكل مباشر بالحبكة، فمع تقدم الأحداث، يتضح أن فهم
العنوان يتطور؛ حيث يقوم الراوي بالتفاعل مع حساب على الفيسبوك يظهر له في قائمة
"أشخاص قد تعرفهم"، والذي يحكي قصة غامضة لشخص مجهول يحمل الرقم 19، وهو
ما يثير فضول الراوي، ويعكس جزءًا من وسائل التواصل الاجتماعي، التي تكشف عن صلات
غير متوقعة بين الشخصيات، مما يؤدي إلى تعقيد الأحداث، وفتح الباب أمام السرد
الدرامي داخل الرواية بحرفية وإتقان، حيث يتقدم السرد بشكل خطي، ولكنه يشتمل على
الكثير من الاسترجاعات (فلاش باك) لأحداث ماضية متعلقة بالشخصية الرئيسية، حيث
يتنقل النص بين مشاهد مختلفة، مساهما في تعزيز فكرة الهوية المشتتة، والتعقيدات
النفسية التي يعاني منها البطل جراء ما تعرض له من ظلم وغدر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثيمات الرئيسية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الظلم والغدر قد أديا به إلى سلسلة من
الأحداث المؤسفة، بداية من اتهامه بتهمة جائرة والحكم عليه وتجريده من حريته، وهو
مايعكس ثيمة أساسية في الرواية تتعلق بتجربة السجن والتعذيب: "صدى التعذيب في كل زاوية، صراخ وعويل، وبكاء وأنين" (ص 13)،
كما أن هناك رحلة طويلة للبحث عن الحقائق المغيبة والقصص التي تبقى في الظل، فضلا
عن عديد من التأملات عن الفقد والانفصال، سواء كان الفقد ماديًا أو معنويًا، مما
يجعله موضوعًا مركزيًا في الرواية؛ فالعلاقة العاطفية بين البطل وحبيبته (سلم)
ليست مجرد حب عابر، بل علاقة مركبة تحمل في طياتها الكثير من الألم والظلم، الذي
ينعكس على مصير البطل: "ولم أكن أدري... أن التصاق أسمائنا سيتحول مع الأيام إلى عناق حميم
لقلوبنا، التي سيفجعها الدهر بصروفه ونوازله" (ص 23).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلاقة العاطفية وتأثيرها على مصير البطل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحب الذي
نما مع الوقت: "لم يزدني
الفراق إلا هياما وتعلقا بها... أراها تكبر فتزداد جمالا، وأزيد افتتانا بها" (ص 28)،
لكن هذا الارتباط العاطفي لم يكتمل بسبب تدخل قوى خارجية مثل الحجاب عبد الجليل،
الذي كان شخصًا محتالًا يحاول السيطرة على حياة (سلم)، والبطل يرى في الحجاب
تهديدًا لعلاقته معها، وهو ماحدث بالفعل؛ فقد استغل الحجاب عبد الجليل جهل أهل (سلم)
وإيمانهم بخرافاته: "فالوغد
يأخذ مكانة مقدسة في قلوب أهل تلك الربوع، فأقنعهم
بزواجه منها" (ص 29)، وهنا تتجلى الصراعات النفسية لدى البطل، بسبب فقدانه
حبيبته.
والمدهش أن هذا الحب كان سببًا في اتهامه ظلمًا مرتين؛ المرة الأولى
كانت بسبب الحجاب عبد الجليل، الذي قُتل في ظروف غامضة بعد أن خُطبت (سلم) له، رغم
أن البطل لم يقتله، إلا أن أصابع الاتهام وجهت إليه، مما أدى إلى سجنه بتهمة القتل،
وهذا الاتهام كان نتيجة الغيرة المجتمعية والافتراضات الخاطئة، حيث اعتقد الناس أن
البطل هو من قتل الحجاب بدافع الغيرة والانتقام لحبه وحبيبته، وبسبب الحكم عليه ــ
ظلما ــ بالسجن؛ تموت والدته من الحزن عليه وعلى المصير الذي آل إليه:
"والدتي ماتت تحت تأثير صدمة غيابي وخبر الحكم علي بالمؤبد" (ص 40)، وهو
الأمر الذي زاد من معاناته وأشعره بالعجز والخذلان.
المرة الثانية كانت بعد خروجه ــ
بعفو ــ من السجن، حيث اكتشف أن حبيبته (سلم) تزوجت من سويدي ولد أمحمد، وهو الصديق
الذي خانه وشهد ضده في المحاكمة الأولى ليخلو له الظفر بها، ورغم أن البطل لم يسع
للانتقام من هذا (الصديق) الخائن؛ إلا أن الظلم استمر في مطاردته؛ فاتهم مجددا
بجريمة لم يرتكبها، وهكذا كلما اقترب البطل من تحقيق سعادته مع حبيبته، كان الحيف
يتدخل ليحطم آماله، وهنا يعبر البطل عن امتعاضه وتهكمه من هذا الظلم الذي تعرض له:
"أستحضر جلسات
المحاكمة، والحكم الجائر في حقي الأول والثاني، ترى هل كان من الضروري أن أقتل
الحجاب "عبد الجليل"؟ وهل كان من الضروري أيضا أن أقتل "سويدي ولد
أمحمد"؟ حتى أسجن بحق!" (ص 62)، ورغم خروجه من السجن للمرة الثانية؛ لم
يشأ الكاتب أن ينهي روايته بمشهد تقليدي على غرار: (عاد البطل إلى البطلة وتزوجا
وعاشا في تبات ونبات وانتهت الحدوتة)، بل ختم روايته بعبارة: "حتى الآن مازالت ترفض أن تقرأ رسائلي"، وبهذا ترك النهاية مفتوحة على عديد من الاحتمالات، وأضاف
المزيد من مشاعر التعاطف الإنساني مع البطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللغة والأسلوب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعتمد الرواية
على لغة وصفية قوية بتفاصيل مدهشة، تمزج بين الواقعية والشاعرية في التعبير عن العزلة
والمعاناة النفسية، مما يساهم في خلق جو من الإثارة والمتعة والتعاطف مع البطل
الذي يحمل الرقم 19 ــ المرتبط به في سياقات متعددة ــ حيث يتجاوز هذا الرقم دلالته العددية
ليصبح رمزًا لمصير مرتبط بالمعاناة التي تلاحق البطل؛ مما يعزز البعد المأساوي في الرواية.
وتأتي اللغة برمزيتها متجاوزة الاستخدام التقليدي؛ بغية التعبير عن
معانٍ أعمق وأكثر تجريدًا، وذلك من خلال التصوير الفني والإيحاءات البلاغية؛ مثل: "كانت
أضواء البرق تتراقص في أفق السماء الشرقي منذرة بهبوب عاصفة"، "أشعة
الشمس تتسلل باستحياء"، "أعيش على ما تبقى من ذكريات مشتتة في أقصى مدائن الروح، وأحلام
ضائعة تذروها الرياح في واد سحيق"، "ذاكرتي... صماء كصخرة راسية"،
"لقد طعنتني الذاكرة بخنجر الخذلان"، "تحفر مناجل العذاب أخاديد
مؤلمة على أطراف جسدي المنهك"، "وقد انتصف القمر على صدر السماء، متسللا
بخفة كاللص الهارب خلف النافذة"، "وبدأ الكون يرتدي معطفه الحالك،
وتجمعت خيوط الدجى تحتفل بالمغيب"، "لفظتنا تلك الحافلة، وتخلصت منا كما تلقى النفايات في سلة المهملات"...
كما وردت بعض العبارات المستوحاة من آيات
قرآنية؛ مضيفة أبعادا جمالية رائعة، ومعبرة بجلاء عن ثقافة الكاتب الدينية: "أربعة
وأنا خامسهم"، "كانوا يسمونه سوء العذاب"، "وعسى أن يكون
قريبا"، "جادت بالمطر والأرض اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج"، "ولم
تنفعه يومها توسلاته بأقرب الأقربين ولا شفاعة الشافعين"، "كان الجميع
ينظرون إليها وأفئدتهم هواء"، "بيضاء كوجنة القمر تسر الناظرين"،
و"هؤلاء البدو الكرام
يحسبهم الجاهل أغنياء من شدة التعفف"...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرآة الثقافة العربية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تُعتبر هذه الرواية أنموذجا للأدب
الموريتاني؛ بتصويرها للبيئات الموريتانية، خاصة البادية والمدينة: "بادية
الواد قابعة في هدوء سرمدي وسكينة دائمة، لنأيها عن ضجيج المدن والمركبات، نمط
الحياة فيها بسيط، مفعم بالأصالة والتقليد فالسكان هناك سلموا من المسخ الثقافي
والحضاري الذي أخذ يغزو المدن الموريتانية" (ص 17)، والمدهش أن القضايا التي
أشارت إليها الرواية؛ تؤكد حقيقة العلاقة بين
الخصوصية الموريتانية وعمومية الثقافة العربية: فعن قضية المياه: "الماء في الصحراء؛ قضية موت أو حياة،
والصراع عليه مسألة أزلية بين قبائل المنطقة، وضحاياه كثر على مر التاريخ، وكم من
أضرحة حول نقاط المياه شاهدة على ذلك" (ص 23)، وعن التنكر والخداع والتضليل:
"في العاصمة نواكشوط؛ لا يوجد مستحيل على الإطلاق، وليس غريبا أن تجد أعتى
المجرمين يتقمص دور شيخ جليل أو إمام مسجد" (ص 35)، وعلى طريقة المثل (إن غاب
القط؛ إلعب يافار)؛ جاءت العبارة: "كان يتناوب على رعايتنا فريق من الممرضين
ينشطون نهارا في حضرة كبيرهم وتقل حركتهم ليلا" (ص 43)، والتناقض بين الاسم
والمسمى في العبارة: "الطريق المشؤوم الذي يلقبه السكان "طريق الألم"
- لكثرة ضحاياه - استعاضا عن تسميته الأصلية "طريق الأمل"" (ص 45)،
والإشارة إلى المغالاة في المهور: "الحصول على مهر دون جهد في مجتمع يغالي في
المهور" (ص 27)، وعن ظاهرة العزوف عن القراءة: "في مجتمع معظم أجياله لا
تقرأ بقدر ما يشغلها طلب العيش واللهو" (ص 32)، وعن التطور التكنولوجي:
"تعيش طفرة في عالم الاتصال، حيث الأطفال والكبار على حد سواء منهمكين في
تشغيل هواتف ذكية" (ص 36)، وعن قضية الهجرة إلى المدن: "سكان الحي
تفرقوا في المدن والمراكز الحضرية بين ساع لتعليم أولاده، وهاربا من القحط والجفاف"
(ص 40)، وعن ظاهرة الاصطياف في المدن الساحلية: "فترة تنشط فيها هجرة سكان الداخل
هربا من ارتفاع درجات الحرارة في عمق البلاد إلى مدينة نواكشوط التي تعانق أمواج
المحيط، متدثرة بتيار كناريا البارد" (ص 41).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة الغلاف وعلاقتها بالمتن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تظهر في الغلاف صورة شخص يغوص بعمق في مياه
البحر المظلمة، مما يعكس شعورا بالضياع أو التورط في أعماق النفس، وهذا الرمز يعبر
عن الانغماس في المجهول أو الغوص في أعماق العلاقات الإنسانية، التي تكون مليئة
بالأسرار والغموض، ويتناسب هذا مع فكرة الرواية.
كما أن العنوان "أشخاص قد تعرفهم"
يتماشى مع صورة الغلاف من حيث الإيحاء بأن هؤلاء الأشخاص ليسوا كما يظهرون، بل هم
مثل مياه البحر؛ رغم الهدوء السطحي، هناك عمق مليء بالأسرار والمفاجآت التي قد
تُغير من رؤية الإنسان للآخرين، ويتلاقى هذا مع المفهوم الغامض للغوص في العلاقات
البشرية، فلربما من نظن أننا تعرفهم ونثق فيهم، نكتشف أننا نجهل الكثير عن دواخلهم،
ويأتي هذا انعكاس للرحلة النفسية الصعبة التي مر بها بطل الرواية نفسه، إذ يظهر
الشخص وحيدًا في ظلام البحر، في حالة عجز، وهو يسبح في عمق لا يمكن إدراك نهايته
بسهولة، وهو تصوير رمزي للتحديات التي تواجه الشخصية الرئيسية، سواء في الحب،
الظلم، أو الخيانة، وهكذا تتناغم صورة الغلاف تمامًا مع المتن الروائي.
ــــــــــــــــــــــــ
خاتمة
ــــــــــــــــــــــــ
في الختام لا يسعني إلا أن أشيد بهذه التحفة
الأدبية، التي تجسدت فيها قسوة الحياة وآلام الفقد والحب الضائع، تجسيدا لمعاناة
الإنسان في صراعه مع الظلم والمصير، فتحولت الكلمات إلى لوحات حية، تلامس القلوب
وتثير في النفوس تأملات عميقة حول مصائرنا الإنسانية المرهونة بالتضحية والفقد، وتؤكد
حقيقة أن الكاتب ليس مجرد راوٍ للأحداث، بل هو فنان ينسج من خيوط التجارب
الإنسانية نسيجًا خالدًا، يظل عالقًا في أذهاننا وقلوبنا.
ومن ثم لم يكن غريبا أن يحصد عن هذا العمل عددا
من الجوائز الأدبية الرفيعة، التي استحقها بجدارة، لتصبح شهادة على قدرة الأدب في
تجسيد أعقد مشاعر الإنسان، وجعلها مرآة تعكس الألم والخيبة، وتبث فينا في الوقت
ذاته أملًا دائمًا بأن الحب، رغم قيوده، قادر على منحنا معنى نستند إليه في مواجهة
ظلم الحياة والبشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
ــ نُشرت في العدد 77 من مجلة (النيل والفرات) الصادر بتاريخ 15 نوفمبر 2024
تعليق الكاتب على هذه القراءة:
Medou Hamadi ممتن لكم أستاذي الكريم
الأديب مجدي شلبي على هذه القراءة النقدية الرائعة التي ألمت بمختلف الجوانب
الفنية والأدبية للرواية؛ وهي أفضل قراءة نقدية قدمت حتى الآن حول هذا العمل
المتواضع.