نبضات الوجدان في أروقة الشجن
قراءة الأديب مجدي شلبي في
المجموعة القصصية "يوم في برواز" للكاتبة اليمنية أ/ نبيهة محضور
بقلم/ مجدي شلبي (*)
ــــــــــــــــ
مقدمة
ــــــــــــــــ
في "يوم في
برواز"، تنبض القصص بروح إنسانية عميقة، تتجلى فيها مشاهد الحياة كلوحات تأسر
الوجدان وتوقظ مشاعر الشجن، حيث تتنقل القصص بين عوالم واقعية ورمزية، مجسدة
تفاصيل الألم والأمل، وكأنها نبضات خفية تتردد في أروقة المشاعر التي نشعر بها
جميعًا؛ فكل قصة في هذا البرواز هي انعكاس لجزء من الذات، تأخذنا في رحلة داخلية،
حيث يلتقي الحنين بالواقع، والشعور بالتجربة الإنسانية على نحو يتماهى مع التأملات
الصامتة.
وهو مادفعني لاختيار
عنوان "نبضات الوجدان في أروقة الشجن" لقراءتي هذه، والتي هي في الحقيقة
ليست مجرد قراءة في نصوص المجموعة، بل هي استكشاف لجوانب النفس التي تبوح بها
القصص، وتلك النبضات التي تترجم صراعات الروح، انتصاراتها وانكساراتها، لتروي عطش
القارئ وتدفعه لتأملات تنبثق من أعماق الألم لتفتح بابًا نحو الأمل.
وقد لفتني من خلال
الاطلاع على هذه المجموعة القصصية "يوم في برواز" أن النصوص تتميز
بتنوعها وتكاملها، حيث تجمع بين القصة القصيرة التقليدية والقصص القصيرة جدًا، وتتناول
مواضيع إنسانية متعددة بعمق مشاعري، وتتجلى أساليبها في التوازن بين بساطة الأسلوب
وعمق الأفكار، وتأتي القصص مشبعة بالرمزية والبعد النفسي، وهكذا تقدم الأديبة
لوحات قصصية مليئة بالحنين، التأمل، والألم أحيانًا، متمردة على الواقع الاجتماعي
الذي تصوره بحرفية، ومن أبرز المواضيع التي ناقشتها المجموعة؛ على سبيل المثال:
الإنسانية والتفكك
المجتمعي كما ظهر هذا في قصص مثل "أنين" و"عري"، حيث تبرز
الكاتبة انعدام العدالة والظلم الذي يتعرض له الإنسان من خلال قصص قصيرة ذات بعد
إنساني عميق.
والرمزية والنفسية كما
ظهر في القصص القصيرة جدًا، مثل "بصير" و"قناع"، حيث تتجلى
الأبعاد النفسية والرمزية بشكل مختصر وفعّال، وتحمل الكلمات دلالات تتجاوز الظاهر
إلى ما هو أعمق وأبعد.
وهكذا تُعد "يوم
في برواز" مجموعة قصصية غنية بأبعادها النفسية والاجتماعية، ومقدمة بأسلوب
بسيط ولكنه مليء بالمعاني العميقة، التي تحفز القارئ على التأمل والتمعن في
تفاصيلها، وفي الصور البلاغية والرموز التي زخرت بها قصص المجموعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض الشواهد من الصور
البلاغية والرموز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة البلاغية في قصة
"بصير" (صفحة 24): "رشق فؤادها بسهام كلماته"، حيث تُشبَّه
الكلام الجارح بالسهام التي تخترق القلب، مما يضيف شعوراً بالألم العاطفي، السهام
هنا ترمز إلى الأثر النفسي العميق للكلام الجارح.
والصورة البلاغية في
قصة "لعنة" (صفحة 37: 38): "تبحث عن غراب يواري سوءتها"، هنا
تم تجسيد الغراب الذي يرمز للموت أو الفقدان وهو يواري سوءة البطلة، مما يعكس
مشاعر الألم الناتج عن الخطيئة والندم والحزن الشديد، وهو تناص مع الآية 31 من
سورة المائدة.
والصورة البلاغية في
قصة "أنين" (صفحة 39): "التحفوا الليل"، هنا تشبيه الليل
بالغطاء الذي يلتف حولهم؛ فيغمرهم بالحزن، ويشعرهم بالبرد النفسي، والليل يرمز
للعزلة والوحدة التي تسيطر على الشخصيات التي تعيش الألم والحرمان.
والصورة البلاغية في
قصة "قطعة حلوى" (صفحة 55): "لا أريد أن أكون كقطعة الحلوى
تلك"؛ هنا يتم تشبيه الذات بقطعة الحلوى التي تغزوها الذباب؛ فتفقد قيمتها في
ظل المتغيرات المحيطة، وقطعة الحلوى هنا ترمز إلى الذات المهدورة أو المستهلكة في
سياق المجتمع، ويعكس هذا رفضها للتحول إلى شخص فقد قيمه وقيمته.
والصورة البلاغية في
قصة "بصمة" (صفحة 89): "سنوات عمري لم تكن سوى بصمة"، يتم
تشبيه حياة الشخصية ببصمة، مما يعبر عن الفكرة العميقة للوجود الفردي وآثاره
البسيطة، والبصمة ترمز للأثر الذي يتركه الإنسان في حياته.
هذه مجرد أمثلة من
الصور البلاغية والرمزية، المعبرة عن المشاعر الإنسانية المعقدة والصراعات
النفسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في صورة الغلاف
وعلاقتها بالمتن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة الغلاف هي بمثابة
مفتاح لفهم عالم القصص، فهي تقدم لمحة سريعة عن الأجواء التي تسود المجموعة، وتثير
فضول القارئ وتشجعه على الغوص في أعماق القصص، وتعتبر صورة غلاف المجموعة القصصية
"يوم في برواز"؛ لوحة فنية بحد ذاتها، تحمل في طياتها دلالات عميقة
ترتبط بشكل وثيق بمحتوى القصص، حيث تسود الألوان الدافئة كالبرتقالي والأحمر، مما
يوحي بحرارة المشاعر والعواطف التي تتناولها القصص، وفي الوقت نفسه هناك لمحات من
الألوان الباردة، كالأزرق الداكن للخلفية، ما يعكس جوانب من الحزن والشجن التي
تتخلل الأحداث، وتظهر شخصيتان تتراقصان في وسط المدينة، ولكن بتحركات غير تقليدية،
وكأنها تطفو في الهواء، وهذا يعكس دعوة للدخول في عالم خيالي، وتبدو المدينة ذاتها
وكأنها مزيج من الواقع والخيال، والماضي والحاضر، ويظهر القمر في الجزء العلوي من
الصورة، ربما ليشير إلى دور الذكريات في تشكيل هوية الشخصيات، وهو ما يؤكد حقيقة
توافق الصورة بشكل كبير مع محتوى المجموعة القصصية، حيث تعكس قصصها المشاعر ذات
الطابع الإنساني العميق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
كلمة ختامية
ـــــــــــــــــــــــــــ
وفي ختام هذه القراءة
المتأنية، نغادر المجموعة القصصية "يوم في برواز" وقد تركت نبضات
الوجدان صداها في أعماق أرواحنا، بعد أن تجولت بنا قصصها في أروقة الشجن، حيث
تماهت الكلمات مع الأحاسيس الإنسانية العميقة، فتجلت لنا الحياة بمفارقاتها وعمق
مشاعرها، وكانت كل قصة مرآة تعكس وجعًا وصمودًا، وتنسج بين السطور حكمة خفية
تستدعي التأمل.
إن هذه المجموعة القصصية
لا تُقرأ فقط، بل تُعاش، حيث تأخذ القارئ في رحلة بين الحلم والواقع، بين الألم
والأمل، لتتركه محملًا بتأملات جديدة عن معنى الوجود وصراعات الروح، وكما أن
البرواز يحفظ الصورة في ذاكرتنا، فإن هذه القصص تحفظ فينا مشاعرها، وتبقى نبضاتها
تتردد في أروقة وجداننا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
ــ نُشرت في صحيفة (الشارع المغاربي ــ التونسية) بتاريخ 24 سبتمبر 2024