ظلال الغياب
ومرآة الوجود
قراءة الأديب مجدي شلبي في المجموعة القصصية (ابتسامات
هاربة) للكاتب البحريني أ/ محمد أبو حسن
بقلم/ مجدي شلبي (*)
ـــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:
ـــــــــــــــــــــــــــ
في عالم تكتنفه ظلال
الغياب، حيث تتلاشى الملامح، وتتلاعب الأحاسيس على أطراف الذاكرة، تبرز مرآة
الوجود كنافذة تأملية تطل على أعماق الذات، وهنا تتجلى المجموعة القصصية
"ابتسامات هاربة" بإشراقاتها، لتنير دروب الهوية في غياهب الفقد
والخسارة، والانكسار والشوق، وتأخذنا في رحلة بين سطورها المرهفة، حيث يلتقي
الماضي بالحاضر في سرد معبر، يجسد تلك اللحظات التي تعيد تشكيل ملامحنا في مرآة
الحقيقة، وتدعونا للتفكر بعمق، فيما فقدناه ونتحسر عليه، وفيما بين أيدينا ولا
نشعر بقيمته؛ يقول الشاعر/ ابن الرومي:
ستألفُ
فقدان الذي قد فقدته *** كإلْفكَ وجْدان الذي أنت واجدُ
على أنه لا
بدّ من لذْع لوعةٍ *** تهبُّ أحايينا كما هبَّ راقدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إبحار في محيط
السرد القصصي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في بداية رحلتنا
الاستكشافية هذه؛ يجدر بنا أن نشير إلى أن تشابك موضوعات هذه المجموعة القصصية وتكاملها؛
يعزز من عمق السرد القصصي، ويعطي للقصص بعدًا إضافيًا، حيث تمتزج الأفكار والعواطف
معًا، لتخلق نسيجًا معقدًا ومتماسكًا، وهذا التشابك يسمح لكل قصة بأن تكون جزءًا
من صورة أكبر، حيث تتداخل الخيوط السردية لتكشف عن معانٍ ورؤى مشتركة، مما يضفي
على المجموعة وحدة فنية وموضوعية متكاملة، مجسدة أحاسيس ومشاعر، تعكس معاناة النفس
البشرية في مواجهة الفقد، الحنين، والبحث عن الهوية، وكل قصة تشكل قطعة من هذا
النسيج المعقد، الذي يعبر عن تجارب الإنسان مع الذكريات، الخوف، العزلة، والحب، وتتنوع
القصص بين استكشاف أعماق اللاوعي البشري، كما في "هواجس ضائعة"، وبين
الغوص في ذكريات الزمن وتأثيرها كما في "وعاد من حيث جاء"، وتُبرز
الصراع الدائم بين الأمل واليأس، وبين العدل والظلم، مما يجعلها مرآة للواقع
النفسي والاجتماعي للإنسان.
وقصص مثل "بقايا
سجود" و"وتناثر الحلم" تعكس الصلة العميقة بين الإنسان وجذوره،
بينما قصص مثل "ظلمة الطريق" و"القماش الأسود" تتناول
التحديات التي يواجهها الفرد في التعامل مع الفقد، الحزن والموت.
وهذه المجموعة القصصية
لا تكتفي بعرض هذه الموضوعات فقط، بل تتجاوز ذلك لتطرح تساؤلات حول طبيعة العدالة
الكونية، وتأثير الطمع والخيانة على حياة الأفراد، كما في "طموحٌ تائه"،
ودعوة للتأمل في قوة العلاقات الإنسانية وكيف يمكن للأقدار أن تتبدل بشكل غير
متوقع، كما تُبرز قصص مثل "سر الاختفاء" و"مفاجأة غائبة".
ومن ثم تشكل هذه القصص
رحلة نفسية وعاطفية عميقة داخل أروقة الروح البشرية، متنقلة بين مراحل الحياة
المختلفة، لتكشف عن الأثر الباقي للأحلام، والندم، والذكريات، كما هو الحال في
"عزف آخر".
والمجموعة بأكملها تقدم
تجربة غنية ومؤثرة، تلامس القارئ بصدقها وشفافيتها، وتعكس عمق الصراعات الداخلية
التي يعيشها الإنسان، مما يجعلها تلامس قلب القارئ وتثير فيه مشاعر التعاطف والحزن؛
مصداقا لقول الشاعر/ جبران خليل جبران:
قَصَصْتَ
عَلَيَّ مِنْ عِبْرِ اللَّيَالِي *** غَرَائِبَ لا تُدَانِيهَا الظُّنُونُ
فَمَا
بَلَغَتْ شِغَافَ القَلْبِ إِلاَّ *** وَقَدْ فَاضَتْ مِنَ الحُزْنِ العُيُونُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة نقدية
في قصص المجموعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القراءة النقدية، لن
تقتصر على تناول الشخصيات الرئيسية والأبعاد الزمكانية لكل قصة من قصص المجموعة،
بل سنغوص في التفاصيل الدقيقة للنصوص، مستعرضين ــ بقدر الإمكان ــ الجماليات
البلاغية والرموز المبتكرة التي تنبض بها، وسنعزز رؤيتنا بشواهد نصية توضح البراعة
اللغوية والتفرد الأسلوبي الذي يميز هذه المجموعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"سأنتظرك هنا"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتجلى ملامح الألم
الإنساني المكثف، حيث يعكس النص رحلة تأملية في عالم الفقد والانتظار، وتمزج القصة
بين البساطة الظاهرية في السرد وعمق المشاعر الإنسانية، مما يجعلها قصة تحمل بعدًا
نفسيًا يتقاطع فيه الحاضر مع الماضي، ويستمر الألم مع كل لحظة انتظار.
الشخصية الرئيسية: رجل
مسنّ يعاني من فقدان ابنه وينتظر عودته في ذات المكان الذي فقده فيه: "أخذ
يناشد بقايا الأمل المرتبك في روحه للعثور على ذلك الطفل الذي أخفته الأيام" (ص
9)، والوقت يتحرك بين الحاضر والماضي بسلاسة، حيث يسترجع ذكريات ابنه المفقود
وزوجته الراحلة، حتى أضحى الزمن الماضي يثقل كاهل الحاضر، إذ يبقى الحاضر معلقًا
في تلك اللحظة المأساوية التي فقد فيها ابنه، فلا يستطيع المضي قدمًا في حياته دون
أن يعود إليها باستمرار، وهذا يجسد فكرة الانتظار الذي يعبر عن العجز عن قبول
الفقدان والمضي قدمًا؛ "هو هنا الآن وسيستمر، سوف يحدق في وجوه المارة صباحا
ومساء وفي كلّ الفُصولْ." (ص 9).
المكان: المكان هو مدخل
عمارة في حي معين، والشاهد: "وقف بالقرب من مدخل العمارة وهو يتأمل المارة...
جلس عند تلك الشجرة العتيقة يأنس بظلالها"(ص 7)، فهي ليست مجرد ملاذ من حر
الصيف؛ بل رمز لاستمرارية الأمل في قلب الألم.
وقد استخدم الكاتب أسلوب
السرد المتقطع والصور البلاغية والرموز؛ لينقل المشاعر بشكل مؤثر، والشاهد: "تكسوها
وريقات الشجر الذابلة." (ص 7)، هنا يُستعار وصف الذبول للأوراق للدلالة على
مرور الزمن وفقدان الأمل، و"هي تشبهه كثيرا في ثباته وصموده" (ص 7)،
يشبه الشجرة العتيقة بثبات الرجل وصموده أمام الزمن، وهكذا ترمز الشجرة العتيقة
إلى ثبات الذكريات وتعلق البطل بماضيه.
والملاحظ أن الكاتب قد اعتمد
على الحوار الداخلي بشكل رئيسي ليعكس المشاعر العميقة للشخصية الرئيسية، فهناك
تناسق بين الصمت الخارجي للبيئة المحيطة، والصوت الداخلي الذي يعج بالحزن والأسى،
مما يعمق الشعور بالفقدان والوحدة.
ويبدو أن الطفل محمود الذي
يُظهر تعلقا عاطفيا قويا بالرجل المسن، جاء ليعوضه عن غياب ابنه المفقود: "لكن
الطفل محموداً ذا الثمان سنوات كان كثير المزاح معه لأنه تعلق به كثيرا، اعتاد أن
يناديه دائما جدو، جدو.. أحبك كثيرا" (ص 8)، وتبرز هذه العلاقة الجانب
الإنساني في القصة، حيث تتداخل مشاعر الفقدان مع رغبة في استمرار الحياة من خلال
التفاعل مع الآخرين، حتى ولو كان هذا التفاعل مؤلمًا.
ومن ثم جاء العنوان "سأنتظرك
هنا" معبرا بوضوح عن الصراع الداخلي للشخصية بين الاستسلام للواقع المأساوي،
والتمسك ببصيص من الأمل رغم كل شيء، وبخاصة أن ذات العبارة الأخيرة التي وعده ابنه
بها قبل أن يفقده؛ كانت: "أبي سأنتظرك هنا" (ص 9).
وتنتهي القصة بتأكيد
على استمرار الرجل المسن في الانتظار، وهذا يعكس فلسفة النص القائمة على عدم
التمكن من الفكاك من الماضي، ليترك القارئ مع إحساس قوي بالأسى والتعاطف مع الرجل
المسن، الذي لسان حاله ينطق بقول الشاعر/ جميل صدقي الزهاوي:
انا شيخ
بذكرياتي أحيا *** فهي ان لم تكن فاني قاض
انا ماش الى
الوراء كأني *** اتحرى مستقبلي في الماضي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"هواجس ضائعة"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصية المحورية في هذه
القصة تعاني من صراع داخلي شديد بين شعور العجز ومحاولة إثبات الذات، وهذا الصراع
يتجلى بوضوح من خلال محاولات الشخصية إقناع نفسه والآخرين بأنه ليست عاجزا: "أنا
لست عاجزا، لست عاجزا، افتحي الباب"(ص 11).
أما الشخصية التي وصفها
بـ "الحقيرة": "أنت حقيرة.. ِحقيرة.. كنت أحتقرك ولا زلت" (ص
13)، والتي يُفهم من السياق أنها تسببت في قعوده وعجزه، فقد تكون مزيجًا من عدة
عوامل، مما يترك تفسيرات متعددة للنص: إما أن تكون (الظروف القاسية والصعوبات التي
قد يكون واجهها) وأدت إلى تحطيم أحلامه وعجزه الحالي، وإما أن تكون (امرأة من لحم
ودم): ربما حبيبة أو زوجة، قد تكون تخلت عنه أو أساءت معاملته بشكل جعله يشعر
بالعجز والخذلان، وإما أن تكون (الذات الداخلية) التي تمثل شخصيته البطل ذاته وقراراته
التي يشعر بالندم عليها، ومن ثم يصف الجزء من ذاته الذي قاده إلى هذا الوضع بالعجز
والخذلان... وتعدد التأويلات في النص هو ما يجعله غنيًا، ويعطي القارئ حرية في
تفسيره بناءً على فهمه وتجربته، وكل تفسير يعزز من عمق القصة ويضيف إليها بُعدًا
جديدًا.
الموضوع الرئيسي:
الصراع الداخلي والهزيمة النفسية، ويُعد الحنين للماضي عنصرًا محوريًا في القصة؛ فشخصية
البطل تجد في الذكريات مهربًا من واقعه المؤلم، لكنها في الوقت نفسه تعي أنها مجرد
سراب لا يمكن العودة إليه، ويعكس الحنين أيضًا شعورًا بالندم والخسارة، حيث يتذكر
الشخصيات التي كانت جزءًا من حياته مثل صديقه سمير، وكذلك أم راشد التي ترمز
للحنان والأمان، لكنها أيضًا تذكير بموتها وفقدانها.
والقصة تجري في فترة
زمنية غير محددة بدقة، ولكنها تشير إلى زمن طويل من الصراع النفسي الذي يعانيه
البطل، وتدور أحداثها داخل غرفة البطل الذي يسيطر عليه شعور بالعزلة والضيق: "حاول
زاحفا، اقترب من باب غرفته... عاد أدراجه مرة أخرى... عاود قراءة الصورة مرة أخرى
مستعينا بالنور الذي يخترق المكان"(ص 11).
والعبارة التالية:
"أطل ثانية من النافذة، الطريق لم يعد الطريق الذي كانا يمران من خلاله"
(ص 13)، تدلنا على التغيرات التي تعكس شعور الشخصية بالاغتراب والانفصال عن الواقع
الحالي، والنافذة في القصة رابطًا بين الماضي والحاضر. من خلالها، يتأمل البطل
الطريق الذي كان يمر به يوميًا في شبابه، وكيف تغير كل شيء من حوله، إلا هو الذي
بقي عالقًا في مكانه!.
ومن ثم جاء الأسلوب
سردي قائما على التوتر الداخلي للبطل، حيث يعكس الكاتب صراعه الداخلي، مع توظيف
الرموز بشكل مكثف، والحوار الداخلي للشخصية يعكس حالتها النفسية المتدهورة، كما أن
الوصف الدقيق للأحداث والأماكن يعزز من أجواء الكآبة والعزلة.
ومن الصور البلاغية: "استند إلى الجدار مسترخيا وهو ينظر لبقعة النور التي تنتشر في أرجاء
المكان" (ص 12)، هنا يستخدم بقعة النور كناية عن الأمل الذي يبحث عنه في
حياته.
والباب المغلق في القصة
يرمز إلى الحاجز النفسي الذي يواجهه البطل: "حاول طرق الباب لكن دون جدوى"
(ص 12)، إنه يمثل العقبات التي وضعها الزمن والأحداث في حياته، والتي لا يستطيع
تجاوزها بسهولة.
أما الصورة المعلقة،
فهي تعكس الذكريات التي تلاحق الشخصية، وهي جزء من ماضيه الذي يبدو أنه لم يعد
يتذكر تفاصيله بوضوح، وسقوط الصورة وتناثر زجاجها يرمز إلى تحطيم القناع الزائف
الذي كانت تغلفه الذكريات: "وإذا بالصورة المعلقة قد سقطت على الأرض وتناثر
زجاجها ليزيل تلك العتمة من عليها" (ص 14)، ليواجه البطل الحقيقة المرة بوضوح.
وخاتمة القصة تأتي
لتعزز من حالة العزلة واليأس التي يعيشها البطل، ورغم نجاحه في فتح الباب، يجد
المكان خاليًا ولا أحد فيه، مما يعكس شعوره بالوحدة المطلقة، هذا الشعور يتجسد في
النهاية عندما يجد نفسه محاصرًا في "سجن بيته الكئيب" (ص 14)، حيث يصبح
الظل هو الرفيق الوحيد له، مما يوحي بأن البطل أصبح أسيرًا لذاته، محبوسًا في
عوالمه الداخلية بدون أي أمل في الخروج، والقصة تقدم صورة مؤثرة عن العزلة واليأس،
وتجسد بشكل بديع مأساة الإنسان المعاصر الذي يجد نفسه غريبًا عن العالم من حوله،
محبوسًا في "هواجسه الضائعة"، التي بدون جدوى أو حل، وتدور في حلقة
مفرغة من الألم والمعاناة؛ يقول الشاعر/ أبوالعلاء المعري:
نَرجو
الحَياةَ فَإِن هَمَّت هَواجِسُنا *** بِالخَيرِ قالَ رَجاءُ النَفسِ إِرجاءَ
وَما نُفيقُ
مِنَ السُكرِ المُحيطِ بِنا *** إِلّا إِذا قيلَ هَذا المَوتُ قَد جاءَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"وعاد من حيث جاء"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة "وعاد من حيث
جاء" تحمل في طياتها عمقًا شعريًا وتأمليًا يعبر عن رحلة الحياة وانعكاسات
الزمن على الإنسان، وذلك من خلال استحضار الذكريات وتجسيد المشاعر الإنسانية
العميقة، وتعكس القصة تجربة مؤلمة لفقدان الصديق والأثر الذي يتركه الزمن على
الإنسان.
الشخصية الرئيسية: رجل
مسنّ يعود إلى مكان قديم كان يتردد عليه في شبابه، ويستذكر صديقه الذي فقده: "عاد
بفكره ينظر إلى البحر وإذا به يرى نفسه في ذات المكان"(ص 17).
وفي تجسيد لذروة الصراع
الداخلي والخارجي، حيث يصبح الفراق حتميًا ويبرز ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة؛ تم
تصوير لحظة العناق الأخيرة بين الصديقين وسط البحر على النحو التالي: "لم
ينسَ لحظة عناقهما الأخيرة وهما في وسط البحر بين الحياة والموت، حين انقلب بهما
القارب." (ص 16)،
والقصة بدأت بوصف
تفصيلي للشخصية الرئيسية وتغيراتها الجسدية، مما يعكس مرور الزمن وثقل العمر على
الإنسان، وتشير القصة إلى مرحلة متقدمة من عمر البطل، حيث يتذكر أيام شبابه عندما
كان يجلس عند البحر مع أصدقائه.
والمكان هو الساحل (شاطئ
البحر)، حيث يعود البطل إلى صخرة اعتاد الجلوس عندها عندما كان شاباً، ومن ثم كان المكان
محورًا للذكريات، واستُخدم كمرآة للتغيرات التي طرأت على الشخصية: "جلس عند
تلك الصخرة التي اعتاد الجلوس عندها مع رفاق دربه وهو يتأمل البحر"(ص 15).
الأسلوب: أسلوب تأملي،
يرتكز على الذكريات واستحضار الماضي، والقصة تستخدم تقنية الفلاش باك (الاسترجاع)
بمهارة، حيث ينتقل السرد من الحاضر إلى الماضي ثم العودة بسلاسة، مما يعزز شعور
القارئ بتأثير الزمن على الشخصيات، واللغة الشعرية والتعبيرات العاطفية تعزز من
عمق القصة وتجعلها أشبه بمناجاة داخلية، تتجاوز الأحداث لتصل إلى جوهر التجربة
الإنسانية.
ومن الصور البلاغية: "عانقها بروحه متنهدا يسترجع الذكريات" (ص 15)، استخدام الاستعارة
لتصوير العلاقة الروحية بين البطل والمكان، والرمزية في البحر والقارب؛ فالبحر في القصة ليس مجرد مكان للأحداث، بل هو رمز للحياة بكل ما تحمله من
تقلبات وغموض، فهو الذي أخذ الصديق وترك البطل وحيدًا، وهو الذي يعبر عن طبيعة
الحياة غير المتوقعة والتي قد تأخذ منا أعز ما نملك دون سابق إنذار، والقارب الذي
كان رمزًا للبساطة والقوة والمغامرة والذكريات الجميلة في الشباب، أصبح الآن مجرد
ذكرى متآكلة تعكس ضعف الإنسان أمام مرور الزمن.
والنهاية تعكس استسلام
البطل للواقع، حيث يدير ظهره للبحر: "أدار ظهره إليه وعاد من حيث جاء"
(ص 17)، مما يشير إلى قبول مصير الإنسان الذي لا يمكنه الهروب منه، وتبرز القصة
كيف أن الإنسان، رغم محاولاته المستمرة للتشبث بالماضي، يجد نفسه في نهاية المطاف
مضطرًا للعودة إلى الواقع ومواجهة حقائق الحياة المؤلمة، ومن هنا تبدو بلاغة
العنوان "وعاد من حيث أتى"؛ مصداقا لقول الشاعر/ ابن حزم الأندلسي:
أتى طيف نعم
مضجعي بعد هدأة *** ولليل سلطان وظلٌ ممدد
فعدنا كما
كنا وعاد زماننا *** كما قد عهدنا قبل والعود أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"بقايا سجود"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجسد هذه القصة معاناة
البطل الذي يعيش حالة من الحزن العميق بسبب فقدانه لوالدته، والتي تمثل ركيزة
حياته بعد وفاة والده وأخته في حادث أليم، وتتناول بمهارة فائقة ثيمات متعددة مثل
الحب الأسري، الحنين للماضي، وصعوبة الفراق، وهو ما يُمكن اعتباره تأملًا في
المعاناة الإنسانية بأسلوب سردي يجمع بين العاطفة الجياشة والتأمل الهادئ.
الشخصية الرئيسية: ابن
يروي معاناته مع والدته التي أصابها المرض بعد وفاة والده: "تأملتها جيدا وهي
تتعكز بثقل شديد من قسوة الألم الذي انتابها طيلة تلك السنين بعد وفاة والدي"
(ص 19).
الموضوع الرئيسي:
الفقدان والوفاة أثناء الصلاة وهي ساجدة: "تحقق لها ما أرادته كي
ترتاح"(ص 22).
والزمن في هذه القصة
يلعب دورًا جوهريًا، حيث يُستخدم كأداة لاسترجاع الذكريات المؤلمة والجميلة على حد
سواء، حيث يستعرض البطل مشاهد من طفولته وأوقاته السعيدة مع والدته قبل أن يتسلل
المرض إلى جسدها ويحولها إلى ظل باهت لما كانت عليه: "تذكّرَت المكان والزمان
الذي جمعهما معا، قالت لي: انظر يا بني إلى هذا المكان، كنا نجلس هنا عند جذع هذه
النخلة لنستظل بظلها، كنا في ريعان الشباب، كانت أياماً جميلة وبسيطة وغير معقدة"
(ص 20)، ثم وفي ذات المكان ــ بعد مرور الزمن
وتدهور حالة والدته الصحية ــ: "باتت محدودبة الظهر، وجهها شاحب ومصفر
من التعب، شرايينها بارزة وكأنها في الثمانين من العمر" (ص 19)، يجيء بها
البطل إلى الحديقة التي كانت تجلس فيها مع والده: "جئت بها إلى حديقة البيت
علها تنسى ما فات من هموم ومصائب مرت بها" (ص 19).
اللغة المستخدمة في
القصة تميل إلى البساطة لكنها مُحملة بعواطف مكثفة ومشاعر عميقة، حيث تنجح القصة
في خلق تواصل عاطفي بين القارئ والشخصيات، واستحضار الماضي من خلال الذكريات يمنح
النص عمقًا إضافيًا، حيث يصبح الماضي والحاضر متداخلين، وكأن الزمن لا يمكن فصله
في حياة البطل.
وتصوير الأم وهي تعاني
من المرض الشديد يعد من أكثر العناصر تأثيرًا في القصة، وقد استخدم الكاتب لغة
وصورًا بصرية دقيقة لرسم صورة الأم وهي في حالة من الهزال والشحوب، مما يعزز من
تأثير الموت الوشيك على القارئ، ثم مشهد السجود الطويل الذي يُبرز قوة الإيمان
والاتصال الروحي، ليُختتم السرد برحيلها بشكل مفاجئ، مما يعكس ألم الفقدان والشعور
بالفراغ الذي يخلفه، وقد جاء الأسلوب على نحو مشحون بالعاطفة، باعتماده على الحوار
الداخلي والمونولوج، الذي يتناول مواضيع الحب الأسري، الفقدان، والإيمان بالله،
وقد نجح الكاتب في نقل مشاعر البطل للقارئ، ليجعله يعيش حالة من التأمل في قيمة
الحياة والذكريات، التي تظل معنا حتى بعد رحيل الأحبة.
ومن الصور البلاغية:
"كفنها الذي أحضرته معها من كربلاء" (ص 22)، كناية عن قوة الإيمان، والقصة
غنية بالرمزية والدلالات التي تنعكس في جوانب متعددة من السرد: "وجدتها ساجدة
تصلي" (ص 22)، وهي الحالة التي تُعتبر من أقوى اللحظات قربا من الله، والتي تحولت
إلى لحظة وفاة.
تنتهي القصة بهذا المشهد
الدرامي المؤثر حيث يكتشف الابن وفاة والدته وهي في حالة سجود: "جئت إليها،
حركتها وإذا بها كالخشبة اليابسة، فقد فارقت الحياة وتحقق لها ما أرادته كي ترتاح"
(ص 22)، وهذه الخاتمة تجمع بين الحزن العميق والراحة الروحية، وكأن الكاتب يريد أن
يترك القارئ مع شعور مزدوج من الفقدان والتسليم لإرادة الله؛ يقول الشاعر/ البرعي:
واسجد لربك
واخلص في السجود وَسل *** تعطى فمن جد في اخلاصه وَجَدا
وَصل من بعد
اكمال الصَلاة عَلى *** النَبي سَبعين واسجد مثل من سجدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"وتناثر الحُلم"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة "وتناثر
الحُلم" تنسج حكاية منصور، الرجل الذي يواجه تحديات قاسية تهدد إرثه العائلي
وحلمه الشخصي، والقصة تتناول قضايا الذاكرة، والحلم، والتوريث، والخيبة من خلال
رحلة بطلها عبر حياة مليئة بالأمل والألم.
الشخصية الرئيسية: "منصور"
رجل في الأربعين من عمره، يشعر بالحنين والأسى تجاه مزرعته التي ورثها عن والده،
والتي لم تعد كما كانت: "أشجار اللوز وأعواد قصب السكر التي بدت يابسة،
وأشجار الليمون المجردة من أوراقها، لم تعد مثمرة كما كانت" (ص 23).
فمنصور هو الشخصية
المحورية التي تعكس التناقض بين طموحات الطفولة والواقع المؤلم للكبار، وقد تطورت
شخصيته من طفل بريء يحمل أحلاماً كبيرة، إلى رجل يواجه بجدية تحديات ومسؤوليات
كبيرة؛ فيظهر منصور كرمز للثبات والصمود ــ من خلال اسمه وفعله ــ لكنه في النهاية
يتعرض للخيبة، مما يجعل منه تجسيدًا للصراع حول الإرث والتحديات المادية، وتحول
الأحلام إلى شيء مختلف عما كان يتوقعه، ويسعى إليه.
والصراع الداخلي لمنصور
يظهر في رفضه لبيع المزرعة، ولكن مع ظهور الحقائق القانونية، يبرز الإحباط والصراع
بين المبادئ الشخصية والواقع المرير، وهو ما يعكس شعور منصور بالخيانة من قبل عمه،
الذي كان بعيدًا عنه في أوقات الحاجة.
وتشير القصة إلى فترة
زمنية تمتد منذ طفولة البطل وحتى الأربعين من عمره، حيث طالبه عمه ذات يوم ببيع
المزرعة، واصفا ذلك اليوم وصفا بليغا يضيف عمقًا عاطفيا للشخصية: "وذات يوم،
حيث كانت ريح الصحراء مصفرة بغبارها الخانق" (ص 25).
والقصة بهذا تسير عبر
زمنين متوازيين: الحاضر والماضي. تُظهر البنية الزمنية تباينًا واضحًا بين حياة
منصور كطفل وحياته الحالية ككهل، حيث يبرز تأثير الذاكرة بشكل كبير في بناء القصة،
و(الفلاشباك) الذي يستعرض ذكريات منصور مع والده وجده؛ يعزز الارتباط العاطفي
بالقصة ويعطي عمقًا للشخصية، والقصة تبدأ بالتركيز على الحاضر، حيث منصور يواجه
ضغط عمه لبيع المزرعة، ثم تنغمس في تفاصيل ماضية، تعود إلى أيام الطفولة والشباب،
مما يخلق تباينًا بين الأمس واليوم.
والمكان هو مزرعة البطل
التي تقع بجانب مزرعة أخرى: "تلك المزرعة التي ورثها عن والده الحاج ناصر"
(ص 23).
ومن الصور البلاغية: "ها أنا اليوم كبرت وعليّ تحمل المسئولية تجاه عائلتي" (ص 25)،
هنا يشير إلى مدى ارتباط تقدم العمر بتحمل المسؤوليات الجديدة، والمزرعة هنا ترمز
إلى الإرث العائلي والقيم التي يحاول البطل الحفاظ عليها رغم التحديات: "تحمل
المسئولية تجاه عائلتي وتجاه هذه المرأة الطيبة التي عطرت حياتي ببخور أحلام
شبابي، وهذه المزرعة التي أوصاني بها والدي قبل رحيله." (ص 25).
أما نهاية القصة فقد
جاءت مؤثرة، وتجسد الإحساس بالخذلان واليأس، الذي يشعر به منصور، والصدمة التي مر
بها عند تلقيه خبر أن المزرعة ستنتقل إلى زوجة عمه، وهو ما يعكس بشدة انكسار
أحلامه وتطلعاته، وقد أجاد الكاتب في وصف المشهد الأخير، حيث يجلس البطل على
الحصيرة ويسترجع ذكرياته: "جلس على تلك الحصيرة التي كان يجلس عليها مع جده،
أخذ يقلب بكفيه تراب المزرعة وهو يبكي طالباً المغفرة من والده، فهو الآن بات قليل
الحيلة وأمامه طريق مُعتِمَة" (ص 27) بعد أن "تناثر الحلم"؛ مصداقا
لقول الشاعر/ إبراهيم ناجي:
نقلت حياتي
والحياة بنا تجري *** من الحُلم المعسول للواقع المرّ
فإن عدتُ
وحدي بعد رحلتنا معاً *** شريداً على الدنيا ذليلاً على الدهر
رجعت بجرحى
فاغرَ الفم دامياً *** أداريه في صمتٍ وما أحدٌ يدري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"ظلمة الطريق"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القصة "ظلمة
الطريق" تتناول بشكل عميق تجربة الحزن والفقد من خلال شخصية مريم، التي تواجه
مصاعب كبيرة بعد وفاة والدتها وعجز والدها المريض، والقصة تركز على التفاعل
الداخلي لمريم مع الألم والعزلة التي تعاني منها، وقد تميزت الفصة بتسلسل سردي
يسلط الضوء على الصراع الداخلي لمريم، ويأخذ القارئ في رحلة عاطفية، وتلك النغمة
العاطفية تعزز من تجربة القراءة وتجعل القارئ يشعر بالارتباط العميق مع شخصية
مريم.
ومن الرموز التي
استخدمها الكاتب: الجدران الصماء والحجرة الخاوية وهما يرمزان إلى الوحدة والعزلة
التي تعاني منها مريم: "الآن هي وحيدة بين تلك الجدران الصماء"(ص 29)،
"فاصطدم بصرها بالحجرة الخاوية" (ص 30)، بينما الصورة المعلقة على
الجدار تمثل الذاكرة الحية لوالدتها، والتي تتزايد بوضوح كعنصر رمزي في القصة:
"لم يتبق سوى تلك الصورة المعلقة على الجدار تبتسم لها، فقد ودعت هذه الدنيا."
(ص 29).
أما الصوت الغامض الذي تسمعه
مريم: "عاودها الصوت، تلفتت مريم فلم تجد غير الصمت" (ص 30)، فهو يعكس
الصراع الداخلي والألم الذي تعاني منه، مما يضفي بعداً نفسياً على القصة ويعزز
الشعور بالخوف والضياع، وتسير رحلة مريم من الحزن المكبوت إلى مواجهة الصرخات
الغامضة، ثم تتحول إلى البحث عن الأمل بعد أن تجد والدها لا يزال على قيد الحياة:
"وغالبت دموعها لتكتشف أن هناك من وراء النافذة أملاً آخر يغرد عن قرب فيسلي
روحها." غير أنها ماكادت تشعر بالأمل حتى باغتها ألم جديد: "أعادت وجهها
مرة أخرى تنظر إليه، لتجد والدها على ذات الابتسامة متجمدا" (ص 30)
ومن الصور البلاغية: "وجهها يتصبب عرقا، ما بال هذه الأصوات الغامضة تتردد في رأسها"
(ص 30)، يُستخدم العرق هنا كناية عن القلق والخوف الذي يسيطر على مريم، و"احتضنها
وابتسم قليلا، بادلته الابتسامة وغالبت دموعها" (ص 30)، المجاز هنا يعبر عن
الصراع الداخلي بين الأمل والحزن؛ فهي تجد والدها "على ذات الابتسامة متجمدا"،
مما يشير إلى أنه قد توفي، وبتلك النهاية المؤلمة تدرك مريم فقدان والدها إلى جانب
فقدان والدتها، مما يعكس المعنى المقصود من العنوان "ظلمة الطريق"
ووحشته، وشعورها بالتيه والضياع فيه، وهو ما يخلق حالة من التعاطف الإنساني معها،
رغم أن الموت على رؤوس العباد؛ مصداقا لقول الإمام/ علي بن أبي طالب (كرم الله
وجهه):
المَوتُ لا
وَالِداً يُبقي وَلا وَلَداً *** هَذا السَبيلُ إِلى أَن لا تَرى أَحَدا
لِلمَوتِ
فينا سِهامٌ غَيرُ خاطِئَةٍ *** مَن فاتَهُ اليَومَ سَهمٌ لَم يَفُتهُ غَدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"القماش الأسود"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القصة "القماش
الأسود" تعكس صورة عميقة ومؤثرة عن الفقدان، الحزن، والبحث عن الذات من خلال
رمزيات متعددة، تبدأ القصة بواقعية مأساوية حيث يظهر سلمان وسعيد كشخصين بسيطين
يعملان بجد في مهنة شاقة ليؤمنا لقمة العيش، إلا أن الحادث المروع الذي يؤدي إلى
وفاة سعيد وإصابة سلمان؛ يفتح الباب أمام سرد يتجاوز الواقعية ليغوص في أعماق النفس
البشرية، معبراً عن مشاعر الضياع والحنين لصديق الطفولة.
الشخصية الرئيسية:
سلمان، وهو رجل يبلغ الأربعين من عمره، يعمل في السوق المركزي ويتذكر صديقه سعيد
الذي فقده: "اعتاد سلمان ذو الأربعين عاماً جر عربته كل صباح متوجها بها إلى
السوق المركزي بحثا عن متسوق ينقل له بضاعته نظير مبلغ زهيد من المال " (ص
31).
وشخصية سلمان متأرجحة
بين الواقع والخيال، حيث يعيش حالة من الإنكار لفقدان صديقه ويحاول التمسك
بذكرياته معه، ورحلته بعد الحادث تأخذ طابعًا رمزيًا حيث يمضي في البحث عن سعيد
وكأنه يبحث عن جزء مفقود من ذاته، ولا شك أن توهمه بعودة سعيد وملاحقته للأشباح
يدل على صعوبة تقبله للحقيقة، وهو ما عمق الصدمة النفسية التي تعرض لها، وعلى
الرغم من أن سعيد يظهر كجزء من الماضي، إلا أن حضوره الطاغي في ذاكرة سلمان يجعله
حياً بشكل رمزي.
الموضوع الرئيسي:
الصداقة والذكريات، فالقصة تناقش ذكريات الصداقة وتأثيرها العميق في حياة الفرد:
حيث كان سلمان "يلتقي صديقه سعيد
الذي يشاركه نفس المهنة منذ أن كانا في العشرين من عمرهما " (ص 31)، وهنا
يبرز امتداد عنصر الزمن من بداية الصداقة حتى لحظة استعادة الذكريات مرورا بواقعة
وفاة سعيد.
والمكان هو السوق
المركزي، الذي يتوجه إليه سلمان كل صباح، وكان يلتقي فيه بصديقه سعيد؛ قبل أن تقع
الحادثة التي أودت بحياته: "بعد أن جاء أحد السواق المتهورين بسيارته مسرعاً،
لتصعد سيارته سطح ذلك الرصيف الذي كانا يتواجدان لحظتها عليه، لتلقي بهما تلك
السيارة على الأرض، فيفارق سعيد الحياة في مكانه،" (ص 31).
والكاتب استخدم ــ
كالمعتاد ــ أسلوبًا سرديًا يمتزج بين الواقعية والرمزية، مما يمنح القصة بعدًا
فلسفيًا، واستخدام الحوار الداخلي مع الذات والأصوات التي يتخيلها سلمان تعزز من
إحساس القارئ بعمق المعاناة النفسية التي يعيشها البطل.
ومن الصور البلاغية: "قبض
على خشبها بيده بقوة وأبعدها عنه" (ص 32)، هنا يُستخدم العربة كرمز للذكريات
التي يحاول إبعادها والتحلص منها؛ فالعربة بعد أن كانت وسيلة للرزق أصبحت في نظر
سلمان تجسيدًا للفقدان والمعاناة، حيث يدقعها بعيدًا في لحظة رفضٍ لأسباب الحادثة
وما أسفرت عنه، والخرابة تمثل الفراغ الداخلي والوهم: "توقف عند تلك الخرابة
الخاوية، فجأة صوتٌ يناديه يشبه صوت سعيد" (ص 32)، بينما تساقط وريقات الشجرة:
"تساقط بعض من وريقاتها اليابسة. حاول الإمساك بها فتفتت في يده،" (ص
33)، تعكس الموت الروحي والانهيار الذي يعانيه سلمان، وتفتت أوراق الشجرة في يده
يمثل تحطم الأمل وفناء كل ما كان يعينه على الصمود.
أعقب هذا ورود اسم
"عبدالله" بديلاً عن "سعيد" في العبارة: "فتمثلت له صورة
صديقه عبدالله بلباس أبيض مثل إطلالة الملائكة" (ص 34)، ربما يكون نتيجة سهو
أو خطأ غير مقصود، وإن كنت أرى أن الكاتب قد يكون قاصدا هذا الاسم "عبدالله"
وهو اسم يعكس التواضع والخضوع لله. في هذا السياق، قد يكون ظهور
"عبدالله" في صورة بيضاء مثل الملائكة رمزًا لانتقال سعيد إلى مرحلة
روحية، أو تذكيرًا بسعادته الأبدية في العالم الآخر، مما يضفي على المشهد طابعًا
روحانيًا يختلف عن باقي القصة الواقعية.
أما القماش الذي يُرمى
على وجه سلمان في نهاية القصة "ثم رمى على وجهه قطعة قماشٍ أسودَ" (ص
34)؛ فإما أنه يمثل الموت أو الظلام الذي يغلف حياته، أو أنه وسيلة لإفاقته وإخفاء
وإنهاء صراعه النفسي، أو غير ذلك مما يجعل النهاية مفتوحة أمام القارئ ومانحة له
حرية تصور مصير سلمان، مما يعزز من تأثير القصة، واستمرار التفكير فيها حتى بعد
الانتهاء من قراءتها؛ فهل سيتوب سلمان عن عذابه لنفسه، أم سيواصل السير على ذات
الطريق للسراب والوهم؛ يقول الشاعر/ د. وائل جحا:
قضيتُ
العمرَ خلفَ الوهمِ أجري *** أضعتُ بذلِكُم حظِّي وأَجري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"طموحٌ تائه"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتمحور هذه القصة "طموح
تائه" حول الصراع الداخلي والخارجي الذي يعيشه بطل القصة في مواجهة تعقيدات
الحياة المهنية والعائلية، القصة تتناول موضوعات الطموح، الخيانة، والعدالة، حيث
تتشابك هذه العوامل لتبني حبكة معقدة تنتهي بكارثة تحطم آمال البطل وأحلامه.
الشخصيات الرئيسية في
القصة: تتمثل في البطل وأخيه، اللذين يشتركان في ملكية شركة ناجحة، والبطل يعاني
من معاملة أخيه القاسية، التي تتجلى في الإهانات والتهكم المستمر عليه: "أنت
فاشل.. ولا تستطيع فعل شيء... أنت أصلا لا تفهم شيئاً." (ص 35)، يظهر البطل
في القصة كإنسان مخلص وطموح: "لم أقصر في عملي تجاه الشركة وأفنيت نصف عمري
في خدمتها وتطويرها." (ص 35)، وهو ما يدفعه إلى التفكير في أسباب تلك
المعاملة من أخيه الذي يبدو أنه مدفوع بالطمع والأنانية.
الموضوع الرئيسي:
الطموح المحبط، وكيف يمكن للطموحات أن تتحطم في مواجهة الواقع القاسي، والصراع
الرئيسي في القصة هو صراع بين الطموح الأخلاقي للبطل وطموح أخيه القائم على الغش
والخداع، هذا الصراع يتطور ليصل إلى ذروته عندما يتم الكشف عن تلاعب الأخ بالأمور
المالية للشركة: "ما يحدث في الشركة من تلاعب في الظلام" (ص 36)، مما
يؤدي في النهاية إلى سقوط الشركة واعتقال الأخ: "وهنا انصدم بعد أن عرف بأنه
تم القبض على أخيه وحجز كل أملاك الشركة وتشميعها من قبل المحكمة" (ص 37).
الزمن يبدأ من لحظة
المواجهة اللفظية بين البطل وأخيه، وينتهي بالكارثة التي تحل بالشركة، وتتنوع
المشاهد بين التأمل الداخلي للبطل والحوارات التي تكشف عن توتر العلاقة بين
الأخوين، والمكان هو مكتب في شركة، حيث يعمل البطل ويتعرض للضغوط والإهانات،
وينتهي الأمر بمعاقبة المسيء له وللشركة.
واللغة في القصة بسيطة
ومباشرة، مما يعزز من الواقعية ويجعل القارئ يشعر بالاقتراب من الأحداث والشخصيات،
والتعبيرات المستخدمة تعكس بصدق حالة البطل النفسية، خاصة عندما يتأمل في كلمات
أخيه ويعيد التفكير في تصرفاته.
من الصور البلاغية: (الشركة) ترمز إلى الإنجازات والطموحات التي تصادف الفشل والانهيار، بينما (ذكريات
الطفولة) ترمز إلى البراءة والطموحات التي لم تتحقق، والقصة مليئة بالرمزية التي
تعكس عمق الصراع الداخلي والخارجي؛ فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار صورة الحاج ثامر
بمثابة رمز للبراءة والصدق، الذي أهمله الأخ الطامع، ما أدى في النهاية إلى وقوع
الكارثة، البيت المتهالك للحاج ثامر يرمز إلى الخراب الداخلي الذي يسببه الطمع
والظلم، وتجاهل وصية الوالد بالتعاون والتراحم: " ينظر إلى بيت الحاج ثامر،
ذلك البيت المتهالك الذي أصبح آيلاً للسقوط" (ص 36).
أما المرسيدس البيضاء
التي يقودها البطل: "ينتهي وقت الدوام فيستقل سيارته المرسيدس البيضاء"
(ص 36)؛ يمكن أن تُفهم على أنها رمز للنجاح المادي، لكنها تتناقض مع حالة التوتر
والاضطراب الداخلي الذي يعاني منه البطل، واللون الأبيض هنا قد يعكس نقاء نوايا
البطل، لكنه يظل محاطاً بالعواصف التي تجلبها أخطاء الماضي وسوء تصرفات الآخرين.
نهاية القصة مأساوية،
حيث يتحقق الانتقام الإلهي في صورة سقوط الأخ الطامع واعتقاله، وتأتي النهاية
كتحذير ضد الغرور والطمع، وتأكيداً على أهمية الأمانة والعدل، والمغزى العام للقصة
يمكن أن يُقرأ كدعوة إلى التمسك بالقيم الأخلاقية، حتى في وجه التحديات الكبيرة،
حيث أن تجاهلها قد يؤدي إلى كارثة تدمّر كل ما تم بناؤه.
إنها قصة تعكس صراعاً
أزلياً بين الطموح المشروع والطموح المدفوع بالجشع، وتذكرنا بأن الطموح الذي
يتجاهل العدالة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى السقوط المدوي، وأخال لسان حال بطل
القصة يردد بأسى قول الشاعر/ مصطفى التل:
وما من
طموحي وأَحلام روحي *** بكفي إلا رماد الرماد
وأنت عليم
بما قد لقيت *** وما سألاقي وما بي يراد
فحسبي
هموماً تثير سموماً *** بحانة يأس بكأس اضطهاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"وعادت سمر"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصية الرئيسية في
هذه القصة "وعادت سمر": أب يشعر بالحنين تجاه ذكرياته مع زوجته الراحلة
وابنته سمر، التي تمثل له الأمل في المستقبل، وتتجلى الشخصيات في القصة من خلال
البطل وزوجته الراحلة "سمر"، التي هي رغم غيابها الجسدي، إلا أن وجودها
الروحي لا يزال قوياً وحاضراً في حياة البطل، والصراع الرئيسي هنا هو صراع داخلي
في نفس البطل، الذي يحاول التعايش مع فقدان حبيبته، والبحث عن طريقة لمواصلة
الحياة برفقة ابنته الصغيرة التي تحمل اسم والدتها.
ةيتجلى الصراع الخارجي
في العقبات الاجتماعية التي كانت قد واجهت زواجهما، حيث كان رفض العائلة لهذا
الزواج بسبب الفروق الطبقية والاجتماعية: "ليثنيه عن قبول زواج ابنه من تلك
البنت الفقيرة البسيطة، والتي هي ليست بنت الحسب والنسب... ولا تتناسب مع طبقته
الاجتماعية." (ص 40)، ورغم ذلك؛ نجح الحب في تجاوز هذه العقبات، مما يعكس قوة
العاطفة والتفاني الذي يجمع بين الشخصيتين.
والقصة تعبر عن الحب
العائلي والذكريات المؤثرة، التي تجمع الأب بابنته وذكريات زوجته الراحلة: "سمر
التي أسماها على اسم أمها، ولأنها الوحيدة، إذ رأى فيها ذلك الحب وذلك
الحنان"(ص 40)
هذه القصة "وعادت
سمر" هي قصة عاطفية عميقة تستعرض موضوعات الحب، الفقدان، والاستمرارية في
الحياة، وذلك من خلال السرد الحميمي واللغة الوجدانية، تنجح القصة في نقل مشاعر
البطل وجعل القارئ يعيش معه تجربة الحب والفقد، وفي النهاية، تقدم بصيص أمل من
خلال الطفلة "سمر"، رمز الاستمرارية والحب الذي لا يموت.
البنية السردية واللغة:
تتميز القصة بتركيب سردي يجمع بين التأمل العاطفي والحنين إلى الماضي، مما يعزز من
عاطفة القارئ ويجعله يتفاعل مع حالة البطل، والأحداث تجري خلال فترة صباحية حيث
يتذكر البطل زوجته الراحلة، والمكان: "بين جدران البيت الذي بناه يستذكر كل
شيء" (ص 39)، وهو البيت والغرفة التي احتضنت الحب بين البطل وزوجته يمثلان
ذكريات الحب والسعادة، التي لا تزال تملأ قلبه، وهذه الأماكن تمثل الملاذ الآمن
الذي يلجأ إليه البطل، ليجد السكينة والعزاء في ذكرياتهما المشتركة.
والأسلوب الذي استخدمه
الكاتب في هذه القصة؛ هو أسلوب وصفي رومانسي، يعتمد على استعادة الذكريات والحنين
إلى الماضي، واللغة تعكس ببراعة حالة البطل النفسية، فهي مشبعة بالشجن والحنين،
حيث تُستخدم التعابير الوصفية لإحياء الذكريات الجميلة ولإبراز الحزن العميق
لفقدان الحبيبة.
ومن الصور البلاغية: "كل شيء، المكان الذي احتواهما" (ص 39)، (المكان الذي احتواهما)؛
كناية عن الأمان والعلاقة الحميمة بين الزوجين.
ومن الرموز: الحديقة
التي تطل عليها الشرفة ترمز إلى الذكريات: "تلك الشرفة الصغيرة التي تطل على
الحديقة المليئة بأشجار الزهور وبعض الأشجار المثمرة، يتخيلها أمامه وهي جالسة على
كرسيها الهزاز بقربه حين ترتشف قهوتها التي اعتادت عليها في أولى ساعات الصباح،
تنظر إليه بابتسامتها التي لا تفارق محياها، وهما يتبادلان الابتسامة بشغف وحب لا
يوصف" (ص 39)، بينما الاسم "سمر" الذي أطلقه على ابنته يعبر عن
الاستمرارية وتخليد ذكرى زوجته: "هي "سمر" الأميرة الصغيرة التي
أهدته إياها وهي ترحل في النفس الأخير. سمر التي أسماها على اسم أمها، ولأنها
الوحيدة، إذ رأى فيها ذلك الحب وذلك الحنان في زوجته وحبيبته " (ص 40).
الدلالات والرمزية:
القصة تحتوي على دلالات ورموز تعبر عن الأمل والاستمرارية في الحياة رغم الفقد، فابنتهما
"سمر" الصغيرة تمثل الأمل والاستمرارية، فهي رمز للحب الذي استمر حتى
بعد وفاة والدتها: "ابنته سمر المستقبل الآتي والفرح الذي تنتظرهُ الأيّام."
(ص 41).
وتنتهي القصة بهذه
العبارة التي تحمل نبرة من الأمل، حيث يستجيب البطل لنداء ابنته الصغيرة
"سمر" لتأخذ مكانتها كفرحة المستقبل بعد أن كانت رمزًا للماضي، والنهاية
تشير إلى أن الحياة تستمر وأن الحب الذي عاشه البطل مع زوجته يتجسد الآن في ابنته،
مما يعطيه دافعًا للمضي قدمًا.
والمغزى العام للقصة
يتمثل في قوة الحب التي تتجاوز الموت والفقدان، وتستمر في الحياة من خلال الذكريات
ومن خلال الأبناء الذين يحملون أسماء وأرواح الأحبة الذين رحلوا، والقصة تقدم
رسالة مؤثرة عن أن الحب الحقيقي لا يموت، بل يتحول إلى قوة دافعة تساعد الأحياء
على مواجهة الحياة بعد الفقدان، وأن دواء الحب؛ حب جديد يحل محله؛ تقول الشاعرة/ أم
الضحاك المحاربية:
فَقالوا
شفاء الحبّ حبٌّ يُزيلهُ *** مِن آخر أو نأيٌ طويلٌ على هجرِ
أَو اليأس
حتّى تذهل النفسُ بَعدما *** رَجت طَمعاً واليأس عونٌ على الصبرِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"مجرد حُلم"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه القصة
"مجرد حُلم"، يتجلى الكاتب في رسم مشهد درامي يتناول تجربة إنسانية
معقدة تجمع بين الواقع والخيال، حيث يبدأ النص بوصف استيقاظ "فاضل" من
غيبوبة، ليجد نفسه محاطًا بالأجهزة الطبية، في مواجهة مع حقيقة مرعبة قد تغير
حياته للأبد: "نظر حوله فلم يجد سوى تلك الأجهزة الطبية التي تحيط به وهو يتأمل
الموقف باستغراب... وقتئذ جاء له الدكتور المناوب، وقف أمامه وهو يهزّ رأسه بأسف
وقال: يا فاضل أنت مؤمن بقضاء الله وقدره، سامحنا فليس بوسعنا أن نفعل لك شيئاً."
(ص 43)، والسرد ينقل القارئ إلى الحالة التي أصابت البطل: "كان الخبر
كالصاعقة، تجمد على سريره غارقا في سكون
القلق والفزع" (ص 43).
والقصة في البداية تناقش
قضية القلق من الموت والهروب من مواجهة (الحقيقة)، وتأثير ذلك على العقل الباطن،
بما انعكس على رؤيا البطل أثناء نومه.
الزمن: هو فترة نوم
البطل، وهو على سريره الذي تحول في الحلم إلى سرير بمستشفي يرقد فيه بعد غيبوبته: "رأى نفسه على ذلك السرير الأبيض بعد أن أفاق
من غيبوبته، نظر حوله فلم يجد سوى تلك الأجهزة الطبية التي تحيط به" (ص 43) .
والأسلوب في هذه القصة يمزج
بين الواقع والحلم، مما يخلق حالة من الارتباك والشك في ما هو حقيقي، والرمزية
تعكس المخاوف الإنسانية العميقة، حيث يتجسد الكرسي المتحرك كمجرد أداة، لكنه يرمز
إلى القيود التي قد تفرضها الحياة على الإنسان، ولذلك عبر (بطل القصة) عن كراهيته
له: "نظر إليه نظرة احتقار... أخذ يحدق فيه، أصبح يكرهه بمجرد النظر إليه،"
(ص 43)، كذلك فإن الحلم هنا يعكس هشاشة الحالة الإنسانية، وكيف يمكن للأحلام أن تفتح
مجالاً لتلك المخاوف للتسلل إلى اللاوعي.
والعناصر السردية في
القصة تسهم في تعميق الحالة النفسية لفاضل، ونظرته إلى الكرسي المتحرك تكشف عن
رفضه للتسليم بمصيره الجديد، وتبني كراهيته لهذا الجهاز كرمز للضعف والعجز الذي يرفض
تقبله.
ويتطور السرد من خلال
إدخال شخصية الممرضة، التي تظهر كنوع من "الملاك": "عندما دخلت مثل
ملاكٍ نزل من بين السحاب وهي تبتسم له بأن يكون قويا تجاه ما حدث، اقتربت منه ثم
أوقدت شمعة" (ص 44)، مما يعزز التباين بين حالته النفسية القاتمة، واللمحة
الوحيدة من الأمل والدعم، إلا أن نهاية المشهد يسوده الغموض مع اختفاء الشخصيات
والعودة إلى الظلام، مما يعكس عمق حالة البطل النفسية.
ثم تحدث المفاجأة وبلوغ
ذروة التوازن بين الواقع والخيال عندما
يوقظ "فاضل" من حلمه ليجد نفسه في مواجهة واقعه الروتيني: "انهض.
نهض فاضل من على سريره وهو ينظر حوله، لا شيء سوى أمه الواقفة أمامه، والتي جاءت
توقظه من النوم... تنفس مرتاحاً بعمق ورفع كفيه وحمد الله تعالى فقد كان مجردَ
حلمٍ." (ص 44)، هذه النهاية تعيد ترتيب الأوراق بين الحقيقة والوهم، وتخلق
نوعًا من التنفيس النفسي لدى القارئ، حيث يتم تخفيف حدة التوتر مع اكتشاف أن كل ما
حدث كان مجرد حلم.
القصة تقدم انعكاساً
لفلسفة تقبل الأقدار والإيمان بقضاء الله، مع إبراز أثر هذه الفلسفة على الفرد في
مواقف الحياة الصعبة، وقد نجح الكاتب في استخدام الخيال كوسيلة لاستكشاف العمق
النفسي للبطل، مما يجعل من النص دراسة دقيقة لمشاعر الإنسان في مواجهة المجهول
والمحتوم، وبهذا تكون القصة قد نجحت في تقديم تجربة إنسانية مركبة، تلقي الضوء على
التحديات النفسية التي تواجه الفرد في أوقات الأزمات، وتُظهر كيفية التفاعل بين
العقل الباطن والواقع في مواجهة المصير.
مع ملاحظة أن العنوان
"مجرد حُلم" يكشف بشكل مباشر عن العنصر المركزي في القصة، وهو أن
الأحداث التي عاشها البطل كانت في الواقع مجرد حلم، وهذا الكشف المبكر من خلال
العنوان؛ يخفف من عنصر المفاجأة والتوتر، الذي يمكن أن يشعر به القارئ عند اكتشاف
الحقيقة في نهاية القصة "مجرد حلم"؛ يقول الشاعر/ أحمد زكي أبو شادي:
حلمت ولم
أعلم أحلمىَ يقظةٌ *** لروحيَ أم مالاح أضغاثُ أحلامِ
وفي وحشتي
فوجئت غير مؤمَّلٍ *** بمسحة نور بدّدت كل إِظلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"هذيانٌ زائف"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصية الرئيسية
والمحورية في هذه القصة "هذيان زائف" يرفض التكيف مع الواقع بعد الفقد، وزوجته
المتوفاة، تظهر كأشباح أو أطياف، مما يعزز فكرة أن وجودها في القصة هو جزء من
هذيان البطل، والمرأة الغامضة التي تظهر في النهاية تمثل رمزية أخرى للموت أو
الواقع القاسي الذي يلاحق البطل، ويشير إلى أنه لا مفر من مواجهة الحقيقة مهما
حاول الهروب منها.
والقصة تتمحور حول تيمة
الفقد والاشتياق، حيث يحاول البطل التمسك بذكرى زوجته الراحلة إلى حد الهوس، مما
يدفعه إلى الخلط بين الواقع والخيال: "ناداها حين تمثلت أمامه بطلتها المؤنسة
لقلبه وابتسامة عينيها المكحلتين" (ص 46)، تعكس القصة أيضًا تيمة الإنكار،
حيث يرفض البطل قبول رحيل زوجته بشكل كامل، ويبحث عن طيفها في كل مكان يذكره بها،
ليعيش في عالم وهمي يُبعده عن الحقيقة المؤلمة: "فتح باب غرفته فوجدها أمامه
بنفس الهيئة التي كانت عليها وهي عند البحر" (ص 47)، "إلا أنه لم يعد
يرى لها أثرا، فقد تلاشت كالسراب" (ص 47).
تدور قصة "هذيانٌ
زائف" حول حالة من الهذيان والارتباك النفسي، الذي يعيشه البطل بعد فقدان
زوجته، حيث تجسدت مشاعر الحزن والفقد في تداخل بين الواقع والخيال، مما يعكس حالة
من الصراع الداخلي والبحث عن المواساة من خلال استحضار ذكريات الماضي.
والعنوان "هذيانٌ
زائف" يقدم تلميحًا لما سيجده القارئ في القصة؛ الهذيان يشير إلى حالة
الاضطراب العقلي أو العاطفي الذي يعيشه البطل، بينما "زائف" يوحي بأن
هذا الهذيان ليس حقيقيًا، بل هو نتاج عقل مضطرب، وهكذا يلقي العنوان بظلاله على
مضمون القصة، حيث نكتشف تدريجيًا أن البطل يغرق في أوهام وأحلام زائفة عن لقاء
زوجته المتوفاة.
والقصة تتبع أسلوبًا
سرديًا يتسم بالتكرار والتداخل بين الماضي والحاضر، حيث تتشابك الذكريات مع
الهلاوس في ذهن البطل، وهذا التداخل يعكس حالة الاضطراب النفسي التي يمر بها، حيث
لا يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيال، واستخدام الحوار الداخلي للبطل
يعزز من توتر القارئ، حيث يبدو البطل يتحدث إلى نفسه أكثر من تفاعله مع الآخرين، مما
يعمق شعور العزلة والوحدة.
وقد استخدم الكاتب لغة
شاعرية في وصف المشاهد والذكريات: "رغم ذلك اعشوشب الحب بينهما... كبر حبهما
فأمطرت غيماته صفاء الآمال ليبقيا معاً حتى يوم رحيلها الذي كسر القلب" (ص
46)، مما أضفى جمالية خاصة على القصة رغم الطابع المأساوي للأحداث، والأسلوب
التعبيري كان مليئًا بالتفاصيل الحسية التي تخلق شعورًا قويًا لدى القارئ بالحزن
والأسى، مع استخدام الجمل القصيرة في لحظات التوتر؛ لزيادة الشعور بالضيق
والارتباك: "ولماذا جئت إلى هنا؟ هذا المكان ليس مكانك ولا حق لك فيه وأرجوك
أن ترحلي من هنا بسرعة" (ص 47).
أما الأسلوب فقد اعتمد
الكاتب ــ في هذه القصة ــ أسلوب المونولوج الداخلي والهذيان، حيث يكشف السرد عن
حالة نفسية مضطربة، والخاتمة تعزز من الشعور باللاجدوى والضياع الذي يسيطر على
البطل، حيث يجد نفسه عالقًا في دائرة من الهلاوس والذكريات، التي تقوده إلى
الانهيار، وهذا الختام المفتوح يترك القارئ في حالة من التساؤل حول مصير البطل،
وهل سيظل عالقًا في هذيانه أم سيواجه الواقع في نهاية المطاف: "حاول الخروج
من الغرفة ليتفاجأ بنفس المرأة أمامه فيسقطَ على الأَرضِ." (ص 48).
وهكذا تقدم هذه القصة
رؤية عميقة ومؤثرة لحالة الإنسان عندما يواجه الفقد الكبير، وكيف يمكن أن يغرق في
بحر من الهذيان والوهم كوسيلة للهروب من الحقيقة المؤلمة.
ومن خلال استخدام لغة
شعرية وأسلوب سردي متداخل، تمكن الكاتب من نقل مشاعر الفقد واليأس بشكل مؤثر، مما
يجعل القصة قطعة أدبية تستحق التأمل والتفكير العميق، وهي تحمل رسالة ضمنية تحذر
من الهذيان (هذيان المهموم أو هذيان المحموم)؛ يقول الشاعر/ عمارة اليمني:
إذا أكثر
المحموم من هذيانه *** فقدم له عون الخبير بشانه
ولا تتأخر
حين تدعى لحاجة *** فما الغيث بالمحمود بعد أوانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة "سرّ
الاختفاء"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصيات في هذه القصة "سر
الاختفاء" تتميز بوضوحها وعمقها العاطفي؛ فنجلاء هي الشخصية المحورية التي
تعكس القصة من خلالها مشاعر الفقد والبحث عن الإجابات، بينما نسرين تمثل الجانب
الغامض الذي يتطلب تفسيرًا، لتظهر في النهاية كعنصر مفاجئ يربط بين الماضي
والحاضر.
ونجلاء تجسد الصديقة
الوفية التي لم تتوقف عن التفكير في صديقتها، رغم مرور الزمن والتغيرات التي طرأت
على حياتها: "ورغم مضي السنين كانت على أمل عودتها أو اللقاء بها" (ص
50)، هذه الشخصية تُظهر مدى تأثير الصداقة الحقيقية وعمق الروابط الإنسانية التي
لا تزول بمرور الوقت.
أما نسرين، فتأتي
كشخصية تحمل أسرارًا وتجسد مفهوم الهجرة والتضحية من أجل تحقيق حلم الأب: "فلتعلمي
يا صديقتي أن أبي حصل يومها على فرصة عمره بعقد عمل يحقق حلمه المؤجل، كان لا بد
لنا من دعمه وإن دفعنا هذا الثمن بالهجرة والتضحية لأجله" (ص 52)، مما يضيف
بعدًا اجتماعيًا للقصة ويعكس واقعًا يعيشه الكثيرون في مجتمعاتنا.
وهكذا تبدو الشخصية
الرئيسية: هي نجلاء، الطالبة الجامعية التي تشعر بالقلق والخوف من اختفاء صديقتها
نسرين بشكل مفاجئ: "القلق والخوف بدآ يدبان في نفس نجلاء فيعلو عندها مؤشر
التوتر شيئا فشيئا"(ص 49).
والقصة تتناول موضوع
الفقد والصداقة والانفصال والتضحية، وتبني حبكتها على التشويق والإثارة من خلال
عرض مفاجآت غير متوقعة وأحداث درامية مؤثرة، والاعتماد على سرد متماسك ولغة واضحة،
وتقدم نظرة عميقة في العلاقات الإنسانية وتداعيات الظروف المفاجئة على حياة
الأفراد.
وتبرز رمزية الفقد من
خلال اختفاء نسرين المفاجئ، والذي يمثل الفراغ الذي تشعر به نجلاء في حياتها، أما
الهجرة، فتظهر كعامل محوري أدى إلى الانفصال بين الصديقتين، لكنها في النهاية
تساهم في تحقيق لقاء غير متوقع بعد سنوات من الفراق، حيث تكتشف نجلاء أن نسرين
التي ظنت أنها مفقودة هي نفسها الدكتورة التي تشرف على علاجها: "أمتأكدة أنك
نجلاء؟ نجلاء صديقتي بالجامعة؟ حبيبتي نجلاء أجابتها أنا نسرين، هنا تعانقتا طويلا
بحرارة فكانت صدفة لم تتوقعها نجلاء" (ص 51).
الأسلوب السردي في
القصة يتسم بالبساطة والتشويق، مما يجعل القارئ مشدودًا إلى مجريات الأحداث
ومتطلعًا لمعرفة مصير الشخصيات، فضلا عن استخدام السرد المتتابع بشكل منطقي ومتسق،
حيث تترابط الأحداث بشكل سلس وتدريجي، مما يساعد على بناء التوتر والقلق اللذين
يسيطران على نجلاء بسبب غياب صديقتها نسرين.
وتوظف القصة اللغة بشكل
يعكس الحالة النفسية للشخصيات، خصوصًا مشاعر الحيرة والقلق التي تمر بها نجلاء،
كما أن استخدام الحوار كان موفقًا في إيصال العواطف والمشاعر المكبوتة بين الشخصيات،
وكان له دور كبير في كشف المفاجأة النهائية المتعلقة بشخصية الدكتورة نسرين.
ومن الرموز: "صديقتها
نسرين" (ص 49)، اسم "نسرين" ذاته يرمز إلى الأمل والصداقة التي لم
تنقطع رغم البعد، بينما الهجرة ترمز إلى الابتعاد عن الجذور والتحول إلى حياة
جديدة، ورمزية الأمومة والحياة الجديدة تأتي في نهاية القصة كرمز للتجدد والأمل،
حيث تتحقق أمنية نجلاء بالأمومة على يد صديقتها (المفقودة) نسرين: "الآن
مهمتي أن أحقق لكِ حلم الأمومة، اتّفقْنا؟" (ص 52)، مما يعطي القصة نهاية
إيجابية، وطابعًا دراميًا مشوقًا، حيث يتحقق اللقاء بين الصديقتين في موقف غير
متوقع، مما يعيد الأمل ويبرز قيمة الصداقة التي تتجاوز الزمن والمسافات، وهكذا
تحمل القصة رسالة عن قوة الروابط الإنسانية وكيف يمكن للقدر أن يجمع الأحبة رغم
الظرو، وأخاللطلة القصة نجلاء تخاطب صديقتها نسرين بقول الشاعر/ العباس بن الأحنف:
إِنّي
لَأَحسَبُ وَالأَقدارُ غالِبَةٌ *** أَنّي وَإِيّاكِ مِثلُ الروحِ في الجَسَدِ
إِنَّ
المُحِبّينَ قَومٌ بَينَ أَعيُنِهِم *** وَسمٌ مِنَ الحُبِّ لا يَخفى عَلى أَحَدِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"مفاجأة غائبة"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشخصيات في هذه القصة "مفاجأة
غائبة" مرسومة بعناية لتعكس تعقيد العلاقات الإنسانية؛ فالبطل يظهر في
البداية كمجرد رجل فضولي، إلا أن القصة تكشف عن أبعاد أعمق لشخصيته حين يبدأ شعوره
بالقلق على مصير الفتاة، مما يبرز إحساسه بالمسؤولية الأخلاقية، والفتاة نفسها
تمثل لغزًا يتحول تدريجيًا إلى ضحية، مما يثير التعاطف لدى القارئ.
الموضوع الرئيسي:
الصدمات المفاجئة. تتناول القصة المفاجآت غير المتوقعة التي تغير حياة الشخص بشكل
جذري، أما الموضوعات المحورية؛ فتدور حول الفضول الإنساني: "سألتها كم تبلغين
من العمر؟ لم تجبني، كررت سؤالي مرة أخرى فلم أسمع منها جوابا... ابتسمت وهي تنظر
إليَّ بغرابة لتستفز مشاعري، مزيدا من الفضول" (ص 53)، والفتاة تمثل الطبقة
المظلومة التي وقعت ضحية للظروف الاقتصادية، والزواج القسري، والسلطة المجتمعية، والعلاقة
بين البطل وأمه تعكس قيم العائلة والترابط، بينما تبرز النهاية قوة التضامن
الإنساني عندما تقدم العائلة المساعدة للفتاة.
وهكذا تأخذنا هذه القصة
في رحلة معقدة تنسج فيها الأحداث ببطء، بدءًا من لقاء غامض بين البطل وامرأة غريبة
تثير فضوله وتنتهي بتكشف حقيقة ماضيها المؤلم: "وهنا استمعت لصوتها المبحوح
بعلامات الحزن والألم وقسوة الزمن وما نال منها وهي في ريعان شبابها لتشتكي لي من
معاناة وجبروت ذلك الرجل المتسلط الذي استغلها بثروته وإقناع والدها المسكين
العامل بشركته في الزواج منها نظير اقتراضه مبلغاً من المال" (ص 55)، وهكذا تتأرجح
القصة بين التوتر والغموض وبين الدراما الإنسانية، لتكشف في النهاية عن مصادفة
درامية تربط الماضي بالحاضر.
والحبكة تتقدم ببطء لكن
بإيقاع متوازن، مما يعزز من التشويق، كما أن الأسئلة المطروحة دون إجابات تساهم في
خلق جو من الغموض الذي يبقي القارئ متأهبا للتطورات: "لم تجبني، كررت سؤالي
مرة أخرى فلم أسمع منها جوابا سوى صمت خجول" (53)، والانتقال من الحدث الأول
إلى النهاية يتم بانسيابية، حيث تكشف القصة تدريجيًا عن ماضي الشخصيات، وبالأخص
علاقة الفتاة بأم البطل، مما يجعل النهاية مفاجأة حقيقية.
واللغة المستخدمة
تتراوح بين الوصف الدقيق والعاطفة الجياشة، مما يعكس عمق المشاعر التي يمر بها
البطل، والحوار مختصر ولكنه مليء بالدلالات، والسرد يعتمد على الارتباط بين
الأفكار المتناثرة، مما يعكس التشوش الذي يعيشه البطل، والأسلوب تشويقي يعتمد على التسلسل
السردي للكشف عن الحقائق تدريجيًا.
وتستخدم القصة الرمزية
ببراعة، حيث يمثل "الشيطان" في وعي البطل صراع الضمير الداخلي بين
الرغبة والشعور بالندم: "شعرت بالندم لتصرفي الأرعن تجاه تلك المسكينة لماذا
أحرجتها وسببت لها تلك الصدمة لماذا؟! أستغفر الله، الشيطان، نعم الشيطان صورها لي
فريسة سهلة المنال. أعوذ بالله" (ص 53)، كما أن ظهور الفتاة في النهاية عند
باب البطل يمثل نوعًا من المواجهة مع الماضي والقدر، والحاجة إلى المساعدة: "نعم
شعرت بأنها مظلومة وبحاجة لمن يساعدها، وإنقاذها من سطوة هذا الرجل الطاغية المتسلط"
(ص 56).
والقصة تنتهي بتصاعد
التوتر إلى حده الأقصى، حيث يدرك البطل أنه أمام مسؤولية كبيرة لمساعدة الفتاة،
ليس فقط بدافع الفضول ولكن بدافع إنساني وأخلاقي: " نسأل الله لك الفرج من
كل هم يا ابنتي. ــ هل سأحظى بمساعدتكم؟
ــ نعم، فأعز أصدقاء محمد هو أحد أكفأ المحامين في البلد، أبشري بالخيرِ يا
ابْنَتي." (ص 57)، وهذه النهاية تفتح الباب أمام احتمالات متعددة، ما يترك
القارئ متسائلاً حول مصير الشخصيات ومستقبلها.
والعنوان "مفاجأةٌ
غائبة" يعكس طبيعة القصة حيث تتداخل عناصر المفاجأة والغموض في سير الأحداث، والغياب
هنا لا يشير فقط إلى الفتاة التي تختفي عن الأنظار، ولكن أيضًا إلى غياب المعلومات
التي تقود البطل إلى التساؤلات والقلق حول حقيقة ما جرى لتلك الفتاة، ولسان حاله
ينطق بقول الشاعر/ أحمد علي سليمان عبد الرحيم:
فاجأتنا
بالكرب ستُ النساءِ *** فانطلقنا نزجي دموعَ الرثاءِ
وتفكّرنا في
أمور البرايا *** بين عِز مُطغ وبين شقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في قصة
"عزفٌ آخر"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه القصة "عزفٌ
آخر" تأخذ القارئ في رحلة نفسية عميقة تجسد الصراع الداخلي للبطل، حيث يواجه
مشاعر الفقد، الندم، والحنين، والنص يحاكي أجواء الكآبة والعزلة التي تهيمن على
حياة البطل بعد فقدان ابنه الوحيد وعزلته النفسية والجسدية عن العالم الخارجي، مما
جعل الغرفة التي يعيش فيها تتجسد في صورة مزيج من السجن والملاذ: "غرفتي التي
باتت وكأنها خرابة ضيقة، لكنني أرى ذاتي فيها (صارت قصرا)" (ص 59)، تعبيرًا
عن حالته النفسية المتأرجحة بين الاستسلام والرغبة في الخلاص.
شخصية البطل تجسد حالة
من الضياع والانفصال عن الواقع، وهو ما يتضح من خلال سرده للأحداث بطريقة تشوبها
الفوضى والاضطراب؛ فهو يعاني من إحساس عميق بالذنب تجاه زوجته وابنه، مما يجعله
محاطًا بأشباح الذكريات التي تطارده، وكأنها تجسد مشاعر الذنب التي لم يستطع
التخلص منها، ومشاعر الندم ــ تلك ــ تظهر بوضوح عندما يواجه تلك اللحظة المؤلمة
التي تقرأ فيها زوجته رسالة تكشف عن معاناتها الصامتة، مما يجبره على الاعتراف
بخطئه والتصالح مع نفسه، وإن كان ذلك يتم بطريقة ضمنية في نهاية القصة: "احترت
في أمري كيف أواسيها وأنا من تسبب ّ في هذا الهم، سبحان الله كيف تجرأت على
إيذائها ومن أجل ماذا؟ ّ هل جننت؟ نعم جننت.. جننت وعلي الاعتذار منها. " (ص
61).
وتتميز هذه القصة
بتقنيات السرد المتنوعة، مثل الاسترجاع (الفلاش باك) والاستباق (الفلاش فورورد)،
لربط ماضي البطل بحاضره، ويسهم استخدام الاستعارات والتشبيهات البلاغية بشكل فعال
في تعميق التصوير النفسي للشخصية، كما في وصف الغرفة بأنها "خرابة ضيقة"
تتحول في مخيلة البطل إلى "قصر"، مما يعكس التناقض بين الواقع والخيال
والهروب النفسي الذي يلجأ إليه للتغلب على آلامه.
ومن الصور البلاغية: "الجدران الأربعة التي تعصرني بين أنيابها الخرسانية" (ص 59)،
حيث شبه الجدران هنا بوحش مفترس
مما يضفي عليها صفات مخيفة؛ تؤدي للضغط النفسي والشعور بالاحتباس، فالغرفة الضيقة
ترمز إلى السجن النفسي والمعاناة الداخلية، بينما النافذة الصغيرة التي يتسلل منها
الضوء تعكس بارقة الأمل الوحيدة المتبقية في حياته، رغم قتامة الظروف المحيطة به:
"النافذة الصغيرة التي يتسلل منها ضوء يعكس لي الأمل الذي يراودني بين لحظة
وأخرى" (59)، كما ترمز "الغرفة" إلى العقل الباطن للبطل، حيث تنعكس
فيها كل مشاعره المكبوتة وأحزانه، وهي تتحول من مكان معتم إلى مساحة مليئة بالنور
في النهاية، مما يعكس التغير الداخلي الذي يحدث للبطل مع تصاعد الأحداث.
كما تستخدم القصة
رموزًا متعددة أخرى لتعبر عن معانيها العميقة؛ فالشجرة التي كانت تجمع بين البطل
وزوجته ترمز إلى الحب والأمل الذي كان يجمعهما: "لفتت بصري هذه الشجرة التي
كنا نلتقي عندها أنا وزوجتي عفاف حين كنا خطيبين أثناء عودتنا من البحر القريب حيث
نستريح" (ص 60).
وتتسم نهاية القصة بنوع
من التصالح النفسي، حيث يتحول الألم إلى فرحة جديدة رغم عبثية الحياة ومأساتها، والنص
يشير إلى بداية جديدة، ربما ليست خالية من الحزن، لكنها محملة بالأمل والحب
المتجدد: "وعدنا معا إلى تلك الغرفة التي تحولت إلى نور ترسله الشموع وصورة
ابني أحمد في وسط دائرة النور. احتضنا الصورة معا في ذكرى ميلاده من جديد، مع عزف
آخـر في فرحة الحياة التي لا تموت وتتجدد مثل أُغنية." (ص 62)، هذا العزف
يمثل دورة الحياة المستمرة، التي تعيد تشكيل نفسها رغم كل الصعاب، مما يعكس فلسفة
القصة في أن الحياة تستمر، وأن الفرحة يمكن أن تولد حتى من رحم الأحزان؛ يقول
الشاعر/ ابن حزم الأندلسي:
قد عاند الحزن حتى عاد يرحمه *** وساور
الدمع حتى جف مدمعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في
رمزية صورة الغلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة الغلاف هي أكثر من
مجرد صورة جمالية، فهي وسيلة فعالة لنقل الأفكار والمعاني وتعطي القارئ لمحة عما
ينتظره داخل صفحات المجموعة؛ فالشجرة ــ ككائن حي ــ ترمز لدورة الحياة والزمن، والأوراق
المتساقطة تشير إلى مرور الوقت، وتغير الفصول، وحتمية الفراق، وترتبط بمشاعر الحزن
والفقد، وهي مشاعر تتكرر في قصص المجموعة، والملفت أن الشجرة تبقى واقفة، مما يشير
إلى أمل في تجدد الحياة ونمو أوراق جديدة.
أما الشخص الجالس
وحيدًا تحت الشجرة؛ فيعكس شعورًا بالوحدة والعزلة، وهو شعور شائع في العديد من
الشخصيات التي تتناولها القصص، ووضعية الجلوس تدل على حالة من التأمل والتدبر، مما
يعكس محاولة الشخصية فهم معاني الحياة، والبحث عن معنى لوجوده، وتعابير الوجه تكشف
عن حزن عميق يعيشه الشخص، ويعزز من هذا اللون القاتم للصورة، والخلفية الطبيعية تخلق
جوًا من الهدوء والتأمل.
ومن ثم نستنتج أن
الصورة تحمل رموزًا بصرية بسيطة، للتعبير عن مجموعة واسعة من المشاعر والمعاني، التي
تعكس بشكل جيد جوهر القصص الواردة في المجموعة، وعنوانها ذاته "ابتسامات
هاربة"، وهو عنوان يثير فضول القارئ ويدفعه بشغف للاطلاع على التفاصيل
واستكشاف هذا التناقض البليغ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة أخيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعتبر هذه المجموعة
القصصية "ابتسامات هاربة" إنجازًا أدبيًا مهمًا، حيث تعكس موهبة الكاتب
وقدرته على التعبير بعمق عن تجارب إنسانية متنوعة ومؤثرة، يمكن مقارنتها ببعض
الأعمال الأدبية العالمية؛ منها على سبيل المثال:
قصة "وعادت
سمر": يمكن مقارنتها برواية
"الغريب" لألبير كامو، حيث يعاني البطل من الوحدة والشعور بالاغتراب عن
العالم من حوله، مثلما يشعر بطل "وعادت سمر" بالوحدة بعد فقدان زوجته،
ولكن بينما تدور "وعادت سمر" حول الحنين والحب الضائع، تركز
"الغريب" على الوجودية وعبثية الحياة.
قصة "القماش
الأسود": يمكن مقارنتها برواية
"صديق قديم" للكاتب البريطاني غراهام غرين، حيث يتناول البطل ذكريات
الصداقة والعلاقة التي كانت تجمعه بصديقه القديم، فكلا العملين يتناولان موضوعات
الصداقة والوفاء.
وقصة "وعاد من حيث
جاء"، يمكن مقارنتها برواية "العجوز والبحر" لإرنست همنغواي؛ ففي
كلا العملين، نجد رجلاً مسناً يواجه ذكرياته الماضية ويصارع ضد الزمن، وكلاهما
يتعاملان مع مواضيع الذكريات والوحدة.
وقصة "طموحٌ
تائه": يمكن مقارنتها برواية "الأبله"
لدوستويفسكي، حيث يعاني البطل من صراع داخلي مستمر وعجز عن التكيف مع المجتمع،
والاختلاف يكمن في أن رواية "الأبله" تركز على الصراع الفلسفي والديني،
بينما "طموح تائه" تركز على الصراع في مجال العمل والطموحات المهنية.
وهذا يؤكد حقيقة أن الكاتب
المبدع أ/ محمد أبو حسن قد عالج في مجموعته القصصية "ابتسامات هاربة" موضوعات
إنسانية مشابهة لما تناوله الأدب الروائي العالمي، مع تنوع الأساليب والمضامين
الثقافية، وذلك لامتلاكه الحس الروائي الذي يعزز قدرته على تحويل الفكرة إلى عمل
أدبي متكامل ومؤثر ونابض بالحياة، وقد وضح جليا أن كاتبنا لديه القدرة على إدارة وتوظيف
الزمن والمكان (الزمكانية) بطريقة تخدم السرد الروائي، سواء كان ذلك من خلال
التقدم الزمني، أو من خلال استرجاع أحداث من الماضي (الفلاش باك).
وقد وضح أيضا أنه لديه
القدرة على خلق شخصيات متعددة الأبعاد، تكون قادرة على النمو والتطور خلال الأحداث،
وبناء التوتر والاحتفاظ به، وصولاً إلى ذروة العمل الأدبي لإثارة المشاعر المختلفة
لدى القارئ، سواء كان ذلك من خلال التشويق، الحزن، الفرح، أو غيرها من المشاعر
الإنسانية، وهو ما يعكس شعورًا بالتعاطف، ورغبة قوية في متابعة الأحداث التي تترك
تأثيرًا قويًا في نفس القارئ.
لقد تأثرت بعمق المشاعر
التي عبر عنها الكاتب بمهارة، من خلال الأسلوب الأدبي الذي يناسب طبيعة كل شخصية،
مما منح قصص المجموعة عمقًا وجمالا، حتى أضحت كل قصة منها تحفة أدبية تستحق القراءة والتأمل؛ وهي تقدم لمحة عميقة عن النفس البشرية
ومعاناتها وآمالها، وهو ما يدفعنا لمناشدة كاتبنا المبدع أ/ محمد أبو حسن للسعي
نحو الكتابة الروائية، التي هو مؤهل لها، وقادر عليها، وسيكون مبدعا فيها بكل
تأكيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
تعليق الكاتب/ محمد أبو حسن: شكري لحضرتك استاذي
الكريم وممنون لكم هذا الجهد وهذا الكرم في نوعه الأدبي الرائع وهذا ما يعكس طيبكم
ومكانتكم الراقية في قلوب الآخرين