أصداء الوجود وشظايا الروح: رحلة برقية في أعماق التجربة الإنسانية قراءة الأديب مجدي شلبي في ثمان قصص قصيرة جدا للكاتب السوداني أ/ عصام كباشي

 أصداء الوجود وشظايا الروح:

رحلة برقية في أعماق التجربة الإنسانية

قراءة في ثمان قصص قصيرة جدا للكاتب السوداني أ/ عصام كباشي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم/ مجدي شلبي (*)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة:

في لمحات خاطفة وعبارات مكثفة وكلمات مؤثرة، تدعونا هذه القصص القصيرة جداً إلى رحلة عميقة في أغوار النفس البشرية؛ فهي تمثل ثمان برقيات تحمل في طياتها شحنة عاطفية وفكرية بالغة القوة والتأثير، وتكشف لنا عن جوانب خفية من التجربة الإنسانية، وتطرح أسئلة وجودية عميقة.

ومن خلال هذه الرحلة البارقة الفارقة، نستكشف معاً عالمًا من المشاعر المتضاربة: الأحلام المتلاشية، والآمال التي لا تموت، ونوقن أن أعماق النفس البشرية أكثر تعقيدًا وغنى مما نتصور، وهو ما أحاول الإشارة إليه والتدليل عليه من خلال قراءتي في القصص المعروضة، التي تُعد أنموذجا بارعاً للقصة القصيرة جداً، بسطورها المعدودة، التي تُثير مجموعة من المعاني والدلالات المتشابكة ذات الأبعاد الفلسفية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قراءة سريعة في قصص المجموعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ــ في قصة "الرسالة": الفكرة الرئيسية للقصة أن الحياة تولد من رحم الصراع والتناقض؛ ففي الوقت الذي تسود فيه الفوضى ويعم الاضطراب، تولد حياة جديدة تحمل معها الأمل والتفاؤل، والقصة تحمل دلالات متعددة، منها: الدلالة الدينية: لاسم "محمد"، الذي يرمز إلى النور والهداية في وسط الظلام، ودلالة فلسفية بأن الحياة مستمرة، وأن الخير والشر يتواجدان معاً، وهو ما يعكس واقع الحياة، حيث تتداخل فيها الأحداث السعيدة والأحداث الحزينة، ودلالة إنسانية تعبر عن قوة الحياة وقدرتها على التغلب على الصعاب، مما يدعو القارئ إلى التفاؤل والإيمان بتلك القوة، حتى في أصعب الظروف، والتعمق في معنى الوجود، والبحث عن الجمال في وسط القبح، وعن الأمل الذي يولد من رحم اليأس وتلك هي "الرسالة" التي يعنيها الكاتب.

2ــ في قصة "عروبة": تدور أحداث هذه القصة حول صراع بين توأمين على قطعة لحم، ينتهي صراعهما بانتصار قط!، وهذه الحبكة البسيطة تحمل في طياتها دلالات عميقة حول الطبيعة البشرية والصراع على الموارد، وأن الغريزة والعنف هما من يحكمان العالم، وأن الإنسان لا يختلف كثيراً عن الحيوان في غريزة السيطرة والاستحواذ، وينتهي الصراع بين الأخوين بفقدانهما ما كانا يتصارعان عليه!، والقصة تدعو إلى التفكير في أسباب تلك الصراعات التي يؤججها ــ كل قط ــ مستفيد من نتائجها، والقصة تشير بسخرية وتهكم إلى تلك الصراعات العبثية، وتدعونا لبناء مجتمع الـ"عروبة" الأكثر سلاماً وتسامحاً.

3ــ وفي قصة "تأله": تتحدث هذه القصة عن رجل صعد إلى أعلى جبل، واعتقد أنه فوق الجميع؛ فعاقبه الله بما يستحق، وهذه الحبكة القصيرة تحمل في طياتها دلالة قوية على الغرور والعقاب، والعلاقة بين الإنسان والكون، وحول حدود القوة البشرية، وأن الإنسان مهما بلغت قوته وعلوه، يبقى جزءا صغيرا من الكون، وهكذا جاءت هذه القصة برمزية صورها وأحداثها معبرة عن أفكار عميقة؛ مفادها أن الغرور والتكبر والـ"تأله" يؤدي حتما إلى الهلاك.

4ــ وفي قصة "ائتلاف": هذه القصة ذات دلالات عميقة حول العلاقة بين الإنسان والحيوان، وتشير إلى مفهوم القوة والسلطة، حاملة في طياتها نوعاً من السخرية من الإنسان، حيث يظهر عاجزاً أمام الفئران التي تحتل المنزل، وهي صورة تعبر عن التغيير المفاجئ في موازين القوى، وتمثل برموزها التي تترك أمام القارئ مساحة واسعة للتأويل والتفسير، دعوه إلى التفكير في العلاقات بين الكائنات الحية، وفي كيفية التعامل مع التغيرات التي تحدث في حياتنا، وتذكرنا بأن القوة لا تكمن دائماً في الأعداد، ولكن في التنظيم والتعاون والـ "ائتلاف".

5ــ وفي قصة "إلهام": تعتبر هذه القصة القصيرة أنموذجا جيدا للقصة التي تستخدم اللغة بشكل مجازي ورمزي لبناء معانٍ عميقة، وذلك من خلال التناص القرآني؛ فالشاعر هنا هو الذي يتعرض للإغواء والإغراء من قبل القصيدة، تمامًا كما تعرض يوسف للإغراء من قبل امرأة العزيز: "راودته عن نفسه"، "هامت به"، "قدت عقله من جنب"،  ومن الرموز والدلالات التي عبرت عنها القصة؛ تلك العلاقة المعقدة بين الشاعر وإبداعه، حيث يشعر الشاعر بأنه أداة في يد القصيدة، التي تبدو وكأنها كيانا حيا، له القدرة على التأثير فيه والتلاعب به، وأنها هي التي في النهاية تحكمت فيه، و"اغتصبته"، وهي إشارة ليست للاغتصاب بالمعنى الحرفي، بل إلى سيطرة القصيدة على الشاعر وإجباره على التعبير عما بداخله من أفكار ومشاعر، وتلك هي العلاقة بين الشاعر والـ "إلهام".

6ــ وفي قصة "حطام": نجد هذه القصة قد حملت في طياتها دلالات عميقة حول الدمار المادي والمعنوي، والتغير الذي يصيب الأشياء والأشخاص، والتحول من شيء جميل أو إنسانة جميلة إلى أطلال مهجورة، وهكذا تبدو الرموز في هذه القصة قابلة للتأويل: "القنبلة" هي في الحالتين (طلقة) إما أن تدمر الأشياء، وإما تدمر النساء؛ فتغدو هذه أو تلك "أطلالا"، "هجرها الجميع، ألقوا عليها النفايا؛ منحوها اسم "المطلقة"."، ومن ثم فهذه القصة تعكس واقع الحياة، حيث تشهد الحروب ــ العسكرية أو الزوجية ــ دماراً واسعاً، وتخلف في الحالتين دمارا و"حطاما".

7ــ وفي قصة "عمر": الفكرة الرئيسية في هذه القصة هي أن الحياة عبارة عن دورة، وأن الاختصارات قد تؤدي بنا إلى نفس النقطة التي بدأنا منها، وهي إما أن تكون رمزا لدورة الحياة التي تتكرر و(التاريخ يعيد نفسه) ويدور في دوائر مغلقة، وإما أن تكون رمزا للإنسان الذي يبحث عن الاختصارات ويريد الوصول إلى هدفه بأسرع وقت ممكن؛ فلا يكون له طوال الـ "عمر" إلا الدوار؛ نتيجة دورانه ــ الأناني ــ حول نفسه.

وهي ــ في جميع الأحوال ــ قصة فلسفية عميقة، تدعونا إلى التفكير في مسار حياتنا واختياراتنا، وتذكرنا بأن الحياة عبارة عن دورة، وأن علينا أن نستفيد من كل تجربة نمر بها، وتطرح تساؤلات حول معنى الحياة والموت، وحول دور الإنسان في الكون.

8ــ وفي قصة "رحى حرب": تحمل هذه القصة في طياتها دلالات عميقة حول الصراعات والحروب، التي تدمر كل شيء جميل، والمدهش أنها تتحدث عن شيء ثمين (الوطن) وعن الذين يتصارعون حول انتمائه لهم!، ويدعون تمسكهم به، وحرصهم عليه، ويستمرون في صراعهم حوله، حتى تنازعوه؛ فخسروه في "رحى حرب" الخاسر الوحيد فيها هو (الوطن) ذاته.

والقصة تذكرنا بضرورة الحفاظ على السلام والأمان، وتدعونا إلى التفكير في عواقب الحروب والصراعات، وفي أهمية الحوار والتفاهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأبعاد الفلسفية

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهكذا اكتشفنا من خلال رحلتنا البرقية حقيقة أن هذه القصص القصيرة جداً قادرة على حمل أفكار فلسفية عميقة ومعقدة تدعونا إلى التفكير في معنى الوجود، ودورنا في هذا الكون، وتفتح لنا نافذة واسعة نطل من خلالها على أعماق النفس البشرية والتساؤلات الوجودية التي تشغل الإنسان منذ القدم؛ مثل: كيف تستمر الحياة بوجود الخير والشر معا؟ (الرسالة)، ما هو مفهوم القوة والسلطة؟ (عروبة)، هل الغرور والكبر مصدر للسعادة؟ (تأله)، هل التضامن هو الحل لمشاكلنا؟ (ائتلاف)، هل الإلهام هو المحرك الأساسي للإبداع؟ (إلهام)، ما مدى تأثير الطلقة على حياة البشر؟ (حطام)، هل الحياة بلا هدف؟ (عمر)، وهل العنف هو الحل الوحيد للصراعات؟ (رحى حرب).

وهكذا أدى البعد الفلسفي في الثماني قصص القصيرة جدا إلى توسيع الأفق المعرفي، لفهم أنفسنا والعالم من حولنا بشكل أعمق، والمساهمة في إثراء الحوار المجتمعي حول القضايا الوجودية والإنسانية،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رؤيتي العامة في القصص المعروضة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أرى أن الكاتب قد عمد في قصصه المعروضة إلى التركيز على الجوهر من خلال حشد الكثير من المعاني في مساحة ضيقة، وحرصه على تنوع المواضيع وتشابكها، بدءا من الصراعات الداخلية والشخصية، وصولًا إلى الصراعات الاجتماعية والسياسية والفلسفية، كما استخدم الكاتب الرمزية بحرفية وإتقان، حيث تحولت الأشياء والأحداث إلى رموز تعبر عن أفكار ومعان أعمق، وهذه الإحالات الرمزية جعلت القصص مفتوحة للتأويل والتفسير، مما يثير فضول القارئ ويشجعه على التفكير والتأمل.

وأعتقد أن العلاقة التي تربط بين هذه القصص هي "التجربة الإنسانية" بكل تعقيداتها وتناقضاتها؛ فكل قصة تمثل لحظة من هذه التجربة، سواء كانت لحظة فردية أو جماعية، لحظة سعادة أو حزن، لحظة انتصار أو هزيمة، مما يترك أثراً عميقاً في نفس القارئ.

ـــــــــــــــــــــ

في الختام

ـــــــــــــــــــ

في ختام رحلتنا البرقية عبر أعماق التجربة الإنسانية، استمعنا إلى أصداء الوجود وشاهدنا شظايا الروح تتناثر في كل قصة، كأن الكاتب قد أمسك بمشاعل صغيرة وأضاء بها زوايا مظلمة من النفس البشرية؛ فكشفت لنا كل قصة عن أعماق لا ندركها، وأسئلة لا تجد إجابات قاطعة لها، فكل قصة أبدعها الكاتب أ/ عصام كباشي تكشف جانبا من المرآة التي تعكس صورتنا الحقيقية، وتشير بجلاء إلى قدرته على نسج قصص بخيوط متشابكة من الأحلام والآمال، والأوجاع والآلام، التي تجعلنا نغوص في أعماق أنفسنا بحثًا عن تلك الشظايا، التي تغافلنا عنها ونبهنا الكاتب إليها، وتلك لعمري هي مهمة الأديب النابه، الذي يزرع في العقول والقلوب بذور إبداعه القصصي؛ فتنبت وتزهر بأفكار جديدة وآفاق رحبة، ومن ثم أدعوك كاتبنا الكبير إلى الاستمرار في مسيرة عطائك؛ ليكون حصادك الغزير بصمة خالدة في تاريخ الأدب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر