قراءة الأديب مجدي شلبي في كتاب (معزوفات إنسانية) للكاتب المصري أ/ محمد خليل

قراءة الأديب مجدي شلبي في كتاب (معزوفات إنسانية)

للكاتب المصري أ/ محمد خليل

بقلم/ مجدي شلبي (*)

مقدمة

       إن أول ما استوقفني في هذا الكتاب هو عنوانه، الذي جمع بين كلمتين: (معزوفات) وهو تعبير مجازي يوحي بأن الكتاب يقدم سيرة جمالية فنية وبعمق إنساني، مما يجعل القارئ يتوقع مطالعته لتجارب مثيرة للتأمل والتأثر.

وتأتي كلمة (إنسانية) والمراد بها التركيز على فهم مشاعر الآخرين وتجاربهم، والسعي لخلق تواصل عاطفي وفكري بين القارئ والعمل الأدبي، الذي يعكس تجارب مشتركة بين البشر، مما يخلق ارتباطًا عاطفيًا بين القارئ والكاتب، ويعزز الفهم والتقدير لجوانب القوة والضعف في الشخصية البشرية، التي تؤمن بالقيم والمثل والمبادئ، وتتعرض للظلم وعدم التقدير أحيانا.

والجمع بين (معزوفات) و(إنسانية) يشير إلى أن الكتاب يتناول سيرة ذاتية ذات أبعاد اجتماعية، تعني بالعلاقة بين الفرد والمجتمع، من خلال تأثير التجربة الشخصية على المجتمع بأسره؛ بامتلاكها بعدا إنسانيًا عميقًا ومؤثرا على القلب والعقل، على نحو مايُحدثه العزف الموسيقي من أثر طيب، فهي (معزوفات إنسانية) تتهادى على السطور، وتدفعنا بشغف للاستماع لها والاستمتاع بها، في رحلة استكشافية معرفية مشوقة؛ يصدق فيها قول الشاعر/ ناصيف اليازجي (بتصرف):   

يا حسنَها مِن رِحلةٍ تُغنيكَ عن *** تَعَبِ الرَّحيلِ وغُربةِ المتغرِّبِ

فيكونُ فِكرُكَ في (الكتاب) مُسافِراً *** ويكونُ جسمُكَ ثابتاً لم يَذهبِ.

قراءة في عناوين فصول الكتاب

       يحتوي الكتاب على خمسة عشر فصلا وعناوينها: بناء في الهواء، الأمنية، المعركة، يوم الحسم، التحدي، معركة الأساس، شرارات تحقيق الحلم، مؤامرات الطامعين، زيارة حاسمة، الصحيفة، تصاعد الأزمة، قرار الإغلاق، عندما تُغتال العدالة، مفاوضة فاشلة، وتسليم الراية. وهكذا تنوعت العناوين المعبرة إجمالا عن موضوعات: الأمل، الصراع، النضال، والتحديات الإنسانية، وقد اتبع الكاتب هيكلا قصصيا سرد فيه صادق تجاربه وتحدياته، وأجاد في بناء الشخصيات والحبكة الروائية، واتسم أسلوبه بالسرد الواقعي والوصف الدقيق، مما منح السيرة الذاتية واقعية وشفافية تجاه المشاعر والمواقف التي يمر بها بطل السيرة، وهو ما يظهر جليا في إشاراتي التالية.

قراءة في الفصل الأول (بناء في الهواء)

       الفصل الأول يعرض بداية رحلة (صادق/ بطل السيرة) في العمل الخيري، متطوعا بلا مقابل مادي ولكن بدافع الرغبة في خدمة المجتمع، وفي هذا الفصل تم التعريف بالشخصيات الرئيسية، وتقديم صورة واضحة عن شخصية صادق والدوافع الخلفية لتطوعه، وأهمية العمل التطوعي ودوره في المجتمع، وعرض التحديات الأولية التي يواجهها صادق في مسعاه.

قراءة في اسم بطل السيرة الذاتية

       هنا لابد لنا من وقفة مع اسم الكاتب بطل السيرة الذاتية، الذي استخدم اسما مستعارا (صادق)، وهذا حقه تماما؛ ففي أدب السير الذاتية، يمكن للكتاب استخدام أسماء مستعارة أو استبدال الأسماء الحقيقية بأسماء وهمية لأسباب مختلفة؛ منها الأسباب الرمزية التي يرمز بها الكاتب إلى القيم والمبادئ التي يؤمن بها، مثل الصدق والنزاهة والصراحة، على نحو ما جاء في هذه السيرة الذاتية؛ فـ (صادق) اسم له دلالات الصدق والشفافية في سرد الأحداث والتجارب الشخصية التي يقدمها الكاتب في سيرته.

ومن ناحية أخرى وفق الكاتب في اختياره لهذا الاسم المستعار الذي يعكس فكرة أن الـ(صادق) قد يكون مكروهًا أو معاقبًا بسبب صدقه ونزاهته؛ اتساقا مع المثل العربي الشهير: (الصدق جراحة)، وهذا يعني أن الصدق قد يكون مؤلمًا أو يسبب مشاكل. ويتم استخدام هذا المثل للإشارة إلى أن الصدق قد يجلب للشخص الصادق الكثير من المتاعب والأذى.

وهناك مايؤيد هذا المثل العربي في الأدب العالمي؛ فها هي رواية (الرجل الصادق) للكاتب الفرنسي هنريك إبسن، تتناول قصة رجل صادق يعاقب على صدقه، حيث يتعرض للظلم والمعاناة بسبب صراحته ونزاهته.

و(صادق) هنا يتعرض هو الآخر لما لم يكن يتوقعه من أذى ومتاعب بسبب صدقه وإخلاصه وتفانيه في العطاء!.

وتتوالى فصول الكتاب بسرد روائي مشوق، يحكي فيه الكاتب التحديات العملية والإدارية والمشاكل البيروقراطية التي تواجه صادق في مسعاه، وقد أجاد الكاتب في بنائه السردي، واستطاع إحداث حالة من التوتر والإثارة في الحبكة الروائية، مما عزز من الفهم الشخصي لصادق والقضايا التي يؤمن بها.

تلك الحبكة الروائية لم تأت من فراغ؛ فكاتبنا له تاريخ حافل بالإصدارات الأدبية في مجالات السرد العربي روائيا وقصصيا ومسرحيا، ويكفي أن نشير إلى روايته الشهيرة (عندما يأتي الليل) التي صدرت قبل أكثر من نصف قرن (عام 1972م).

قراءة في الفصل الأخير (تسليم الراية

       صادق يجد نفسه في مأزق، حيث تهتز قناعاته بأهمية العمل التطوعي بسبب الظروف الصعبة التي عاني منها، لكنه يستمر في إيمانه بالله وبالقيم التي يؤمن بها، وينتهي صراع صادق بين الاستمرار في العمل التطوعي وبين التصدي للاتهامات والظروف القاسية التي يواجهها؛ فتظهر قوته الشخصية وإيمانه العميق بالقيم الإنسانية والدينية، ورغبته في تقديم المساعدة والفرص للآخرين؛ فيُعلن عن قراره بالاستقالة من موقعه في مجلس الإدارة ــ بعد ثلاثين عامًا من العطاء ــ ويعتزم عدم الترشح مجددًا، ويأمل في أن يجد شخصًا آخر يكمل رسالته ويقود المجلس بالشكل الصحيح؛ فهو يرغب في تقديم الفرصة لأشخاص جدد للعمل من أجل الخير العام.

ومابين الفصل الأول والفصل الأخير أحداث ومواقف ليس هدفي سرد تفاصيلها أو اختصارها، ولكني أسعى فقط لطرح رؤيتي من منظور شخصي، تاركا للقارئ فرصة استكشاف العمل الأدبي والاستمتاع بتفاصيله المثيرة بنفسه.

خلاصة رؤيتي في هذا الكتاب القيم

       هذا الكتاب يقدم رحلة مثيرة ومشوقة لـ(صادق) وتحدياته في العمل التطوعي، ويبرز أهمية النزاهة والإخلاص في العمل ويعكس الصراعات والتوترات السياسية والاجتماعية والشخصية التي يواجهها، وتعتبر قراءة هذا الكتاب مفيدة جدا؛ فهي توفر فهمًا أعمق للعمل التطوعي والقضايا الاجتماعية، من خلال تصوير واقعي وشفاف للصراعات والتحديات البيروقراطية والمعوقات التي تواجه أصحاب الأفكار الطموحة والمبادرات الإيجابية في العمل الخيري، وتسليط الضوء على قضايا اجتماعية هامة ومستعصية مثل الفساد والإدارة السيئة، وقد استطاع الكاتب من خلال سرده الواقعي والمؤثر، والتصوير الدقيق للشخصيات والأحداث؛ أن يوصل رسالته بأهمية الالتزام والإخلاص في أداء الواجبات المجتمعية، ويبرز حقيقة أن النزاهة والصدق في العمل ينتصران في النهاية رغم كل التحديات والمعوقات، وينتهي برسالة قوية مفادها الاعتزاز بتاريخ مشرف في العمل الخيري، وأهمية تسليم الراية وإعطاء الفرصة لقيادات جديدة.

أخيرا وليس آخرا

       أود الإشارة بإعجاب إلى غلاف هذا الكتاب، الذي عبر بذكاء عن جوهر العنوان، وأوحى بأن المتن يحتوي على قصص إنسانية، وتجارب حياتية، بداية من صورة المبنى متعدد الطوابق (كتعدد وتنوع الخبرات الحياتية، والتجارب "الإنسانية"، والسنوات العمرية لكاتبه)، وترمز النوافذ المشرعة إلى (رغبته في البوح بقلب مفتوح، متفاعل مع القارئ)، وكأن كل شرفة تمثل قصة أو معزوفة فردية في سيمفونية حياته، والطيور التي تحلق في السماء تتوافق مع فكرة "المعزوفات" التي تشير إلى تحرير المشاعر، والتعبير عن الذات، بعد الانعتاق من ربق ظلم ومعاناة وصعوبات وتحديات واجهها خلال رحلة امتدت لما يزيد عن ربع قرن من الزمان في العمل الخيري وخدمة المجتمع الأهلي، أما صورة بعض الناس على درج المبنى متعدد الطوابق؛ فهي تعبر عن الإنسانية المشتركة والتفاعل بينهم وبين الكاتب، وتعمل صورتهم على تشجيع القراء للانضمام إليهم، ودخول المبني (متن الكتاب)؛ لاكتشاف ما يحتويه من قصص وأسرار وعلاقات متشابكة، تشكل معاً لوحة إنسانية متكاملة؛ عبرت عنها اللوحة الرائعة التي أبدعها الفنان/ أحمد محمد خليل (مصمم صورة الغلاف)؛ فصدق في وصف الكتاب وغلافه؛ قول الشاعر/ لسان الدين بن الخطيب:

دُرّةِ نَوْرٍ في غِلافِ زَبَرْجَدٍ *** كما لاحَ في الخَضْراءِ لألاءُ فَرقَدِ.

خالص التهنئة لكاتبنا الكبير على إصداره الرائع، وإلى مزيد من الإبداع والتميز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

ــ نُشرت هذه الدراسة في جريدة الزمان المصرية بتاريخ 21 يونية 2024

وفي جريدة النهار العراقية بتاريخ 27 يونية 2024