قراءة مختصرة في قصة "نافذة القطار"
للقاصة
المصرية أ/ فاطمة مندي
بقلم/ مجدي شلبي (*)
في بداية قراءتي؛
يحضرني قول الشاعر/ سليم عنحوري:
حيث التفتَّ
تجد عجيباً شائقاً *** يستوقف الأنظار والأفكارا.
فقد استوقفتني أول كلمة
في هذه القصة (تَمتَمَ) التي تعني في اللغة: ردد كلاما خفيا ــ غير واضح ــ يعبّر
به عن عدم رضاه، وتكمن عبقرية استخدام تلك الكلمة في كونها جاءت تعبيرا مجازيا عن
(تمتمة القطار) لعجلاته، بتململ المهيمن على حركتها؛ رغبة في سيرها، اتساقا مع
حركة الدنيا وانطلاقها؛ يقول الإمام علي بن أبي طالب:
أَرى
الدُنيا سَتُؤذِنُ بِانطِلاقِ *** مُشَمِّرَةً عَلى قَدَمٍ وَساقِ
فَلا
الدُنيا بِباقيَةٍ لِحَيٍّ *** وَلا حَيّ عَلى الدُنيا بِباقِ.
وهي دنيا تشبه قطار
ركبناه، يمضي بنا إلى مبتغاه، فإما السقوط وإما النجاة، وخلال رحلتنا في الحياة
يمر بنا (شريط) الذكريات مرور الناظر من (نافذة القطار)، وهو ما اتخذته القاصة
المبدعة الأستاذة فاطمة مندي عنوانا لقصتها. تقول الشاعرة/ نازك الملائكة:
أتذكر أيامي معك
كمن يرى الأشياء عبر
نافذة قطار مسرع.
هكذا توقعنا أن تدور
أحداث قصتها حول مشاهد استعادة ذكريات حب مضى، وحبيب لم يعد؛ يقول الشاعر/ أبو
الهدى الصيادي:
قلب تألم من
فراق أحبةٍ *** وكوته أيدي الحادثات بنارها.
غير أن ما كان مدهشا
ومباغتا ــ في هذه القصة ــ أن بطلها الشاب لم يكن متألما ولا متوجعا، بل كان
سعيدا منشرحا في أنس ما كان يراه؛ "تظهر البهجة والفضول على محياه".
والأكثر إدهاشا نظرته
(الطفولية) تلك، التي لا تتناسب مع عمره؛ مما حدا برفقاء الرحلة (الرجل الأربعيني
وزوجته) أن "أيقنا منذ اللحظة الأولى أن هذا الشاب يعيش بعقل طفل".
ولسان حالهم يكاد ينطق بقول الشاعر/ بهاء الدين زهير:
ما العَقلُ
إِلّا زينَةٌ *** سُبحانَ مَن أَخلاكَ مِنهُ.
وهنا يتوجهان لوالد الشاب
بسؤال: "لماذا لا تقوم بزيارة طبيب؟! للحصول على علاج لابنك؟!"؛
فيجيبهما "وقد امتلأت حدقتاه بالدموع:
ــ للمحنة صرير أبواب
مغمضة، خلفت وراءها تراثاً معلولاً، أقام المرض خيمة ظلل أوتادها اليأس من الشفاء،
وكلما لاح لى بصيص من أمل تنطق الخيبة بشفاه ذابلة، هذا اليأس من الشفاء صار وجها
ملفوفا بالدهشة، صرخات المرض جعلت شيبتى تنجب صبرًا وقوة داخل نفسى".
وبهذه الصور المشهدية
البليغة التي أجادت القاصة التعبير بها؛ فتحت شهية القارئ للوقوف حيالها، واستعادة
كل عبارة منها لتأمل بديع جمالها:
"للمحنة صرير أبواب
مغمضة" ــ "أقام المرض خيمة ظلل أوتادها اليأس من الشفاء" ــ
"وكلما لاح لى بصيص من أمل تنطق الخيبة بشفاه ذابلة" ــ "صرخات
المرض جعلت شيبتى تنجب صبرًا وقوة داخل نفسي".
وهنا نستعير قول
الشاعر/ أحمد علي سليمان عبد الرحيم؛ لوصف حال ذلك الشيخ:
خان التصبرُ
قلباً كاد ينفطرُ *** والدمع فوق جوى المأساة ينهمرُ
والحزنُ
يسرقُ من نفسي تجلدها *** كي يستبد بها في المحنة الخوَر
والهمّ
ينسجُ ثوباً، بعضُه ألمي *** كأنني بلباس الهم مؤتزر.
إن القاصة المبدعة
فاطمة مندي قد فتحت الباب أمام عدد من الاحتمالات التأويلية لحالة هذا الشاب؛ فتوقعنا
أن ما بدا عليه من ابتهاج مبالغ فيه؛ هو ناتج عن حماقة وطيش ونزق، أو هو نتيجة
تخلف عقلي ومرض؛ غير أنها استطاعت ــ بمهارة وذكاء ــ أن تفاجئنا بخاتمة مدهشة،
تؤكد حقيقة تمكنها من السرد القصصي المشوق؛ فتختتم قصتها بقول الشيخ:
"إن ابني ــ بعد خمسة عشر
عاما من المرض ــ أبهجه الآن استعادة بصره".
يقول الشاعر/ محمود
درويش:
مازال في عيني بصر
مازال في السما قمر.
هنا ترق الدموع لحال كل
مبتل ومصاب، وتلهج الأفئدة بالحمد والشكر لله ــ جل في علاه ــ على نعمة البصر،
التي كانت سببا في ابتهاج مزدوج: ابتهاج الشاب؛ باسترداد بصره الذي غاب، وابتهاجنا
بهذا النص البديع الخلاب؛ فتحية تقدير واحترام للكاتبة المبدعة الأستاذة/ فاطمة
مندي، وإلى مزيد من التقدم والارتقاء على طريق الإبداع والتميز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد
كتاب مصر
ــ نُشرت هذه القراءة في
جريدة النهار العراقية بتاريخ 24 مارس 2024