(8) من (أدب الحوار) إلى (حوار الأدب) إعداد/ مجدي شلبي

(8) من (أدب الحوار) إلى (حوار الأدب)

إعداد/ مجدي شلبي (*)

ــ مقدمة:

كنا قد استعرضنا في الحلقة السابقة نماذجا من الأدب التراثي النثري، المتمثل في (أدب الخطابة)، ووعدناكم أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن (أدب الحوار) باعتباره أحد فنون السرد التراثي، بغية الكشف عن ماهية هذا الفن الأدبي، وعناصره وأنواعه، ومجالاته، وعرض بعض النماذج الإسلامية فيه.

ــ ماهية أدب الحوار:

الأصل في (أدب الحوار) هو: التناقش بين شخصين أو مجموعة من الأشخاص بطريقة هادئة و منظمة حول موضوع أو فكرة معينة، ومن مرادفات كلمة (حوار): تحادُث، مناظرة، مناقشة بالحسنى.

ــ أبشع أنواع الحوار:

إن أفشل وأبشع أنواع الحوار: الحوار بين (العلم والجهل)، (التعظيم والتحقير)، (الحب والكراهية)، (السمو والسفه)، (الترفع والخسة)، (الوقار والحمق) و(الأدب وقِلته)... وما أبشع الحوار إذا سادته الغيرة المرضية والكراهية الوضيعة؛ يقول الشاعر/ أبو الهدى الصيادي (بتصرف):

عجبت لذي طيش ولؤم وخسة *** وسيء خلق يجحد البر والندا

يرى الحب بغضا والوفاء نقيصة *** واصدق خلق الله من اقبح العدا

لاغراضه يرضى ويغضب جاهلا *** بحاليه مفتون الخيال مدى المدا

فدعه وهذا مستحيل صلاحه *** وكل (حوار) عند أمثاله سدى.

ــ (الجدال) نقيض (الحوار):

(الجدال) هو: المفاوضة من باب المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله؛ فكأن المْتَجَادِلَين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه، لذلك فهو يحمل داخله معنى الصراع والتحدي والمخاصمة، وهو منهي عنه؛ (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) الآية 3 من سورة الحج.

ويصف الشاعر/ السراج الوراق المجادل؛ فيقول:

وَمُتَّصِلُ الجِدالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ *** جَهُولٌ بِالسُّؤَالِ وَبِالجَوابِ

يَكُونُ مَعِي الصَّوابُ وَلَمْ يُسَلِّمْ *** وَلَوْ أَنّي يَكونُ مَعِي الصَّوابي.

ــ السفسطائية ومصير أرسطو:

لا شك أن أبشع صور الجدل العقيم تكمن في (السفسطائية): "وهو مصطلح يستخدم في العصر الحديث لوصف المغالطة والنقاش الذي يسعى فيه أحد الطرفين للمرواغة وكسب النقاش باستخدام حجج وقرائن لا علاقة لها بصلب الموضوع انما تلتف حوله، وتستخدم المغالطة حجة كاذبة بقصد التضليل" (ويكيبيديا)، وقد سبق أن عرّف محمد جديدي السفسطائي (السفسطائية) في كتابه (الفلسفة الإغريقية) بقوله: "ونحن طلاب على مقاعد الدراسة، تمّ تلقيننا أن السفسطائي هو إنسان انتهازي، يحمل بين طيات تصرفاته كافة مظاهر النفعية الذاتية، التي تجعله يبلغ ذروة الأنانية والتجرّد من مشاعر الإنسانية، وبسبب هذه الطائفة من المثقفين الإغريق، قُتل سقراط إثر مؤامرة حيكت له بدقة من طرفهم، بعدما أثار هذا الشيخ الوقور المحتكم إلى العقل مواضيع جعلت السفسطائيين يتهمونه بإفساد عقول الشباب، ونشر الخرافات بين مواطني أثينا؛ مما جعل سقراط يشرب السم تنفيذا لحكم الإعدام الصادر في حقه، واحتراما للقوانين بحضور جمع من تلاميذه ومحبيه، على رأسهم أفلاطون الذي بكى يومها وذرف دموعا حارة جدا....".

ــ عناصر الحوار المتسم بالأدب بمعنييه: السلوكي والإبداعي:

(أولا) التخلي عن الأفكار المسبقة وترديد آراء معلبة.

(ثانيا) إعمال الفكر للفهم والاستيعاب لموضوع الحوار.

(ثالثا) الاستماع الجيد وعدم مقاطعة المتحدث.

(رابعا) احترام آراء الآخرين وعدم التعالي عليهم.

(خامسا) ترتيب الأفكار وتمحيصها، واختيار الكلمات الدقيقة والأسلوب المهذب.

(سادسا) الالتزام بالهدوء والثقة عند عرض الرأي أو الرد عليه.

(سابعا) تأكيد كل طرف على حقيقة أن (رأيه صحيح يحتمل الخطأ ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب).

(ثامنا) الإيمان بأن (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية).

"الغناءِ معاً *** رُغَمْ اختلاف القوافي" (الشاعرة/ سعدية مفرح).

ــ أنواع الحوار:

1ـ الحوار الإقناعي:

ويهدف للوصول إلى الرأي الأصوب بطريق الإقناع المنطقي؛ يقول الشاعر/ علي الغراب الصفاقسي:

ومن رام في التّهذيب يحكيك منطقا *** بلا سُلّم رام البلوغ إلى القطب.

ويقول الشاعر/ احمد علي سليمان عبد الرحيم:

عمَدتُ إلى إقناع مَن لا يعيرني *** بُعيض انتباهٍ، ثم آلمني العمد

وأعطوْا وعوداً أن يصونوا كرامتي *** ويرعَوْا شرافاتي، فما حُقق الوعد.

2ـ الحوار الاستقصائي:

يعتمد على أدلة ووثائق تثبت وتدعم الرأي الصائب؛ يقول الشاعر/ البرعي:

كل شيء منكم عليكم دَليل *** وَضح الحق واِستَبان السَبيل.

ويقول الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه):

دَليلُكَ أَنَّ الفَقرَ خَيرٌ مِنَ الغِنى *** وَأَنَّ القَليلَ المالِ خَيرٌ مِنَ المُثري

لِقاؤُكَ مَخلوقاً عَصى اللَهَ لِلغِنى *** وَلَم تَرَ مَخلوقاً عَصى اللَهَ لِلفَقرِ.

3ـ الحوار التفاوضي:

ويهدف إلى حصول كل طرف على جزء مما يريد الحصول عليه، ويتنازل عن جزء للطرف الآخر؛ يقول الشاعر/ حافظ إبراهيم:

فاوِض وَلا تَخفِض جَناحَكَ ذِلَّةً *** إِنَّ العَدُوَّ سِلاحَهُ مَفلولُ

فاوِض وَأَنتَ عَلى المَجَرَّةِ جالِسٌ *** لِمَقامِكَ الإِعظامُ وَالتَبجيل.

4ـ الحوار البحثي:

وهو الحوار الذي ينبني على تبادل المعلومات من خلال نتائج الأبحاث، ويهدف للتقدم والارتقاء العلمي؛ يقول الشاعر/ علي الغراب الصفاقسي (بتصرف):

عند الغير لبادي العقول تبيانُ *** فللعلوم مجالٌ فيه فُرسانُ

فمن يكن طالبا للعلم مُجتهدا *** والقلبُ منه إلى التّحقيق ظمآنُ

(يحاور) زكيٌّ جليلٌ فاضلٌ علمٌ *** لفكره في مجال البحث جولانُ.

5ـ الحوار التأملي:

وهو ما يمكن وصفه بـ (الحوار الذاتي مع النفس)، ويعتمد على إعمال الفكر في شعوره تجاه نفسه ومدى تفاعله مع الأشخاص والأحداث المحيطة به، وهدفه الوصول ـ بعد التأمل والتفكير ـ لأفضل الخيارات المتاحة؛ يقول الشاعر/ محمد الشرفي:

(قد يقلق النفس بعضُ الحوار). ويقول الشاعر/ عبدالله زمزم:

الآنَ أجلسُ وحدي عندَ مَقعدِنا *** أحدّثُ النَّفسَ عمّا كانَ في القِدَمِ

باسمِ النصيبِ: أسلتَ الدَّمعَ مُنهمرًا *** وما من الشَّوقِ أبكي، بل من النَّدَمِ

ارفق بنفسكَ، لا تعتَد على السَّأَمِ *** لعلَّ في العُمرِ تعويضًا عن الألَمِ.

ــ الحوار بديلا عن الصراع:

مامن شك أن الحوار هو الطريق الإنساني الأرقى والأفضل، من استمرار الصراعات والحروب والنزاعات التي تخلف الموت والدمار؛ ومامن حرب إلا وانتهت بالحوار التفاوضي والسلام الحقيقي؛ يقول الشاعر/ محمود غنيم:

نزل السلاحُ عن المنابر وانبرى *** صوتُ الضمائر والعقول خطيبا

والله ما كسَبَ الحروب معاشرٌ *** ليس السلامُ لديهمو مكسوبا

إنا نريد من السلام لُبابه *** لا لفظه أو صكَّه المكتوبا.

ــ مجالات الحوار:

الحوار السياسي ــ الحوار الحضاري ــ الحوار الاقتصادي ــ الحوار الاجتماعي ــ حوار الأديان.

1ـ الحوار السياسي:

هو الحوار الذي يتناول كيفية توزيع القوة والنفوذ ضمن مجتمع ما، والنقاش حول العلاقة بين الحكام والمحكومين أو الدولة وكل ما يتعلق بشؤونها؛ يقول الشاعر/ سليمان الباروني (بتصرف):

حاز الكياسة والسياسة واعتلى *** متن (الحوار) كيف لا وهو الحسيب

ما خاب (مجتمع) طاب أصلا واكتسى *** ثوب العلا هيهات هيها أن يخيب.

2ـ الحوار الحضاري:

الحوار الحضاري بديلا عما أشار إليه الكاتب/ صامويل هنتنجتون (1927/ 2008م) في كتابه: (صراع الحضارات)، وذلك لأهمية التكامل والحوار الحضاري بين حضارات الأمم؛ يقول الشاعر/ محمود غنيم (بتصرف):

أمَمٌ بنت ركن الحضارة عاليًا *** مثلُ الكواكب مشرقا وغروبا

حتام نَنْعَتُ (بالصراع حضارة) *** (مثل) الوحوش ضراوة ووثوبا.

3ـ الحوار الاقتصادي:

يهدف الحوار الاقتصادي لإحداث التوازن في العلاقات الاقتصادية، وإنشاء قنوات اتصال بين الكيانات الاقتصادية العالمية؛ سعيا وراء تحقيق المصالح الاقتصادية المتبادلة بين الدول؛ يقول الشاعر/ ابن سودون:

مصالح الجسر عادت بعد ما فسدت *** وبات عيش أهاليه به رغدا

وكلهم عاذ بالمولى يعوّذه *** من شر ذي حسد يوماً إذا حسدا.

4ـ الحوار الاجتماعي:

وفق تعريف منظمة العمل الدولية: "يتضمن الحوار الاجتماعي كافة أنواع التفاوض أو المشاورات أو ببساطة تبادل المعلومات بين ممثلي الحكومات، وأصحاب العمل، والعمال بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك المتصلة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية".

ومن الأهداف التي يسعى لتحقيقها الحوار الاجتماعي: تحقيق المساواة بين الجنسين، القضاء على البطالة والحد من الفقر؛ يقول الشاعر/ ابن قلاقس (بتصرف):

أُخيَّ دعِ البطالة والْهُ عنها *** وجانِبْها فعُقباها الشّقاءُ

جمالُ المرءِ في الدنيا صلاحٌ *** وخيرُ بضاعةِ الحرِّ الحياءُ

عجبتُ لمن يميل الى (التكاسل) *** وتعجِبُه الملاهي والغِناءُ.

5ـ حوار الأديان:

"حوار الأديان: هو مصطلح يشير إلى التفاعل التعاوني البناء والإيجابي بين الأفراد من مختلف المعتقدات والتقاليد الدينية وغيرها من التوجهات الروحية والأفكار الإنسانية على مستوى الفرد وكذلك المؤسسات والهيئات الدينية" (ويكيبيديا).

وقد ولدت الدعوة لحوار الأديان عام 1932، وتم انعقاد عدد من المؤتمرات بلغت 15 مؤتمرا، خرجت كل منها بنتائج واحدة: الدعوة إلى التعايش السلمى والتآخى بين أصحاب الديانات المختلفة؛ يقول الشاعر د/ عبدالرحمن العشماوي:

لم تكونوا كما يُحبُّ التآخي *** كان جسمُ الخلافِ جسماً بَدينَا

يا قِلاعَ الأمجادِ، بٌشْراكِ، إنَّ *** قد مَدَدْنا إلى الصَّباحِ اليَمينا

إِنَّها رَجْعَةٌ إِلى اللّه تمحو *** عارَ قومي، وتْرْشِدُ التَّائهينا.

ــ نماذج إسلامية لأدب الحوار:

1ـ نموذج من أدب الحوار الدعوي: ماورد في (الآيات 42: 44 من سورة طه) عن رسالة موسى وأخيه هارون عليهما السلام إلى فرعون: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى).

2ـ نموذج من أدب الحوار بين الآباء والأبناء: ماورد في (الآيتين 101: 102 من سورة الصافات) عن حوار إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام: (فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصابِرِينَ).

3ـ نموذج من أدب حوار الزجر والنصح والمعاتبة بين الفقير المؤمن، وصاحبه الجاحد المغرور: ماورد في (الآية 37 من سورة الكهف): (... قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا...).

4ـ نموذج من أدب حوار إبراهيم عليه السلام مع النمرود: ماورد في (الآية 258 من سورة البقرة): (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين).

5ـ نموذج من أدب حوار عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ جاء علي لسان ابن الخطاب قائلا: "كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا بعض أصحابه، وأخذ رسول الله بيدي ومشى، يقول عمر: فوجدت نفسي أقول: والله يا رسول الله إني أحبك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ولدك يا عمر؟)؛ قلت: نعم، قال: (أكثر من أهلك يا عمر؟)؛ قلت نعم، قال: (أكثر من مالك يا عمر؟)... فاروق الأمة تابع قائلا، قال: (أكثر من نفسك يا عمر؟)؛ قلت: لا؛ هنا تدخل رسول الله قائلا: (لا يا عمر، لا يكمل إيمانك حتى أكون أحب إليك من نفسك)؛ يقول عمر: فخرجت ففكرت ثم عدت أهتف بها: والله يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر الآن)".

فقال عبد الله بن عمر: ماذا فعلت يا أبي لتعود بها؟؛ فرد الفاروق علي ابنه قائلا: "يا بني خرجت أسأل نفسي من أحتاج يوم القيامة أكثر، نفسي أم رسول الله؟؛ فوجدت حاجتي إليه أكثر من حاجتي إلى نفسي، وتذكرت كيف كنت في الضلال وأنقذني الله به".

أخيرا وليس آخرا:

هكذا عرضنا هنا ما وعدنا به حول (أدب الحوار): ماهيته وخصائصه وأنواعه ونماذج إسلامية مختارة منه،  وأعدكم في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ أن نتناول فنا أدبيا آخر من فنون الأدب التراثي ــ بإذن الله ــ وبالله التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر