مقدمة تعريفية بـ(التراث الشعبي) ودور علم التراث في الحفاظ على الهوية
مفهوم (الأدب الشعبي) وخصائصه وأنواعه، وأهمية
دراسته وكيفية توظيفه والاستفادة منه
إعداد/ مجدي شلبي (*)
تعريف (التراث
الشعبي):
للتراث الشعبي
تعريفات عديدة؛ لخصها موثق التراث الشعبي الكاتب صالح زيادنة (مواليد 16 أكتوبر
1955م)؛ بقوله: "إن (التراث الشعبي) يشمل كل الفنون والمأثورات الشعبية من
شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من
الناس، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق أداء موروثة".
وإذا كان لفظ
(شعبي) يرتبط في مفهوم العامة بالافتقار والحاجة، إلا أننا نفخر ونعتز بهذا التراث
الراقي، الموصوف بالشعبية؛ لكونه تراثا يأتي تعبيرا عن وجدان الشعب، وتنتقل
المعارف المتعلقة به من جيل إلى جيل آخر، فيقوم كل جيل بإضافة أشياء جديدة إليه أو
حذف أشياء منه؛ لتتوافق مع واقع حياتهم، ومن ثم فالتراث الشعبي هو نتاج الجماعة الإنسانية
ككل في مجتمع ما، ومن ثم يُعني علم التراث بتعظيم الفوائد الاجتماعية والثقافية
منه، بطريقة تمكننا من نقل تلك الفوائد التي ورثناها إلى الأجيال القادمة، ويُعتبر
(الأدب الشعبي) أحد فنون التراث الشعبي، ورافد من روافد الهوية الوطنية، ووسيلة
بالغة التأثير في تشكيل الوعي الجمعي.
ماهية (الأدب
الشعبي):
للوقوف على
ماهية (الأدب/ الشعبي)؛ علينا أولا أن نلقي الضوء على معنى كلمة (أدب)، باعتباره
أحد أشكال التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره وهواجسه بأحد أساليب الكتابة ـ أو
المشافهة ـ النثرية أو الشعرية، مستعينين بما أورده الناقد الأدبي أوستين رين (1899/
1986م) من تعريف موجز للأدب: "الأدب محاكاة بالكلام مثلما التصوير محاكاة
بالصورة، لكنه ليس بالضرورة محاكاة لواقع، بل نحاكي كذلك كائنات وأفعال ليس لها
وجود؛ ذلك لأن الأدب تخيّل".
ويقودنا هذا
للحديث عن:
خصائص (الأدب
الشعبي):
إن (الأدب
الشعبي) كما يعرفه المستشرق الإيطالي جوفاني كانوفا: "هو الأدب الشائع في
الطبقات التي تسمى عادة بشعبية أو عامة، وله ميزات خاصة به في بعض الأحيان
ومشابهات مع الأدب (الكلاسيكي) في أحيان أخرى، ويستعمل اللهجة المحلية أو لغة شبه فصيحة"،
ويؤكد الدكتور فاروق خورشيد (1928/ 2005م) على أهمية اللغة في تحديد هوية الأدب
الشعبي، مؤكدا على أنه: "لا يهم هنا نوع اللغة المستعملة، هل هي اللغة الفصحى
الراقية من حيث التقاليد والألفاظ والأساليب، أم هي اللغة العامية الأقرب إلى
محاكاة الواقع في صدقه الفعلي، وصدقه الفني على السواء؛ فاللغة هنا ليست مقياساً؛
لأننا نتحدّث عن أدب شعبي. ومعنى هذا أنه يُكتب ـ أو ينتقل مشافهة ـ بلغة الشعب
المتداولة".
فإذا كانت
"لغة الشعب المتداولة" هي أولى خصائص هذا (الأدب الشعبي)؛ فإن أخص
خصوصياته هو أنه أدب عام (مجهول المؤلف)، ويوضح هذا الأمر الدكتور عبد الحميد يونس
(أول أستاذ عربي للأدب الشعبي والفولكلور) (1910/1988م)؛ بقوله: "إن الآداب
الشعبية ثمرة مؤلفين مبدعين ذابت شخصياتهم الفردية في شخصية الشعب أو الجماعة، إما
تثبيتاً لقيمة إنسانية أعلى، وإما تعبيراً عن موقف شعبي عام. وقد يتردد اسم هذا
المؤلف أو ذاك لأثر شعبي، ولكن الجماعة تعنى بالنص، وتتشبث به أكثر من عنايتها
بالمؤلف وحرصها على تذكره". وتضيف الدكتورة نبيلة إبراهيم (1929/ 2017م):
"إذا كانت نواة النص تُنتج من قبل فرد ضمن جماعة ما، فإن هذه الجماعة تتلاقف
هذه النواة وتؤسس عليها ما نسميه فيما بعد نصّاً شعبياً، غير أن هذه النواة ليست
أكثر من فكرة مطروحة في البيئة الثقافية نفسها التي أُلف فيها النص الشعبي، ومن
ثمَ يبقى عمل الرواة في إعادة إنتاج هذا النص والإضافة له، والحذف منه، حتى تبدأ
الجماعة الشعبية نفسها في تلقّيه وإعادة إنتاجه".
ومن ثم تصبح
(الجماعية أو الشعبية مقابل الفردية أو الذاتية) هي إحدى خصائص (الأدب الشعبي)،
فضلا عما حدده الدكتور فاروق خورشيد من خصائص
مركزية في الأدب الشعبي؛ بقوله: " إن أي أدب لكي يدخل تحت مصطلح الأدب الشعبي
يجب – أولاً - أن يحقق وجوده لأكثر من جيل، ولأكثر من مكان، ويجب – ثانياً - أن
يعكس موقفاً جمعياً لا موقفاً فردياً، وينبغي – ثالثاً - أن يكون تداوله طليقاً،
بمعنى أن كل متداول له يعيد تكوينه عند إعادة تقديمه بحيث يضيف إليه هموم عصره،
وطموحات أبناء هذا العصر، وهذا لا يتحقق للنص الشعبي إلا إذا كان قابلاً لاحتواء
هذا التراكم الفولكلوري".
وهكذا تنبني مقوّمات
الأدب الشعبي على عناصر: الجماعية ـ العراقة ـ التراكم الفولكلوري، ويتم إنشاء وتداول
ورواية وحفظ (الأدب الشعبي) شفهيا، دون اعتماد على التدوين والكتابة في معظم الحالات،
وهو تداول يعتمد على التلقائية، البعيدة كل البعد عن التكلف والتصنع.
أنواع (الأدب
الشعبي):
(الأدب
الشعبي) شأنه شأن جميع الآداب؛ إما أن يكون شعرا، وإما أن يكون نثرا؛ ومن الأنواع
الشعرية: القصيدة ـ الموال ـ المربعات وفن الواو ـ المدائح ـ أغاني للعمل ـ أغاني
للأطفال ـ أغاني للأفراح ـ أغاني للسمر، و(الموشحات "الأندلسية والحلبية
والمصرية أيضا")...
ومن الأنواع
النثرية: المقامات ـ التوقيعات الأدبية ـ الأمثال الشعبية ـ النوادر ـ الألغاز ـ
الحواديت والقصص الخيالية ـ الملاحم ـ السير الشعبية... وما يميز معظم أنواع
(الأدب الشعبي) أنه لا يؤدى على انفراد، ولكنه يؤدى في تجمعات؛ فضلا عن حالة
الامتزاج بين نوعي الأدب الشعبي، بدخول الشعر في بعض أشكال السرد القصصي، وتداخل
مقاطع شعرية بين غناء العمل والرثاء والغزل!.
وفي هذا يقول
الدكتور عبد الحميد يونس: "إن اقتصار الإبداع على الكلمة لا محل له في الأدب
الشعبي، فالجماعة بتقاليدها وأعرافها واختلاف وظائفها جعلت الكلمة تقترن بمختلف
أسباب الاتصال بين الناس، وتعتمد على الحركة والإيقاع والموسيقى".
موقف حقوق
الملكية الفكرية من (الأدب الشعبي):
إذا كان (المؤلف):
هو الشخص الذي يبدع عملا أدبيا؛ فيكسبه حقوقا ويحمله مسؤولية عن هذا العمل؛ فماذا
عن (الأدب الشعبي) الذي هو في الأصل (مجهول المؤلف) ومن ثم لا حقوق لأحد فيه، ولا
مسؤولية على أحد عنه، ذلك لكونه ملكا مشاعا بين الجماعة الشعبية، تتناقله الأجيال
جيلا بعد جيل، وتلك قضية يجب الالتفات لها، والعمل على حلها للحفاظ على (الأدب
الشعبي) من السطو والتشويه، أو الضياع والإتلاف، وذلك تأكيدا على
الهوية والأصالة والخصوصية في مواجهة العولمة، وهنا تجب الإشارة والإشادة بالجهود
الكبيرة التي بذلها عدد كبير من الباحثين في مجال حفظ المأثورات الشعبية المصرية،
وتوثيقها وتصنيفها وأرشفتها خوفا عليها من الضياع والاندثار؛ منهم على سبيل
المثال، لا الحصر: الدكتور شوقي عبد الحكيم (1934/ 2003) الذي ألف (موسوعة
الفلكلور والأساطير العربية)، و(السير والملاحم الشعبية العربية)، وكذلك الدكتور أحمد
مرسى (1944 /2022م)، وأشهر مؤلفاته: (الأغنية الشعبية) وهي دراسة ميدانية في منطقة
البرلس، و(المأثورات الشعبية الأدبية) وهي دراسة ميدانية في منطقة الفيوم، و(دراسات
في الفولكلور) مع آخرين.
أهمية دراسة
(الأدب الشعبي):
ترجع أهمية
دراسة (الآداب الشعبية) لكونها تمثل الذاكرة التي تحفظ خصوصيات الشعوب وتخلد
تواريخها، وهي الجذور الأصيلة التي تمد حاضرنا بذخيرة إبداعية، يجب المحافظة عليها
وتدوينها، وتسجيلها سمعيا وبصريا، والاهتمام بتدريس ذلك (الأدب التراثي الشعبي) في
المدارس والجامعات؛ إيمانا بحقيقة أن التراث الشعبي في حضارات الأمم والشعوب هو "بمثابة
الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور؛ كلما كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر
على مواجهة تقلبات الزمان"، مع ملاحظة أنه ليس بالجمع والتوثيق والتدريس فقط
تكون المحافظة على التراث الشعبي؛ بل يجب أن يتبع ذلك دراسات تحليلية ونقدية خاصة
بالأدب الشعبي العربي، وهو ما يحتاج لحل إشكالية اعتماد الدراسات النقدية عموما
على مدارس النقد الأدبي الغربي!.
ونعود فنؤكد
حقيقة أن المحافظة على ذلك التراث الأدبي، والاطلاع عليه والاستفادة منه؛ يوسع
مداركنا، وينمي عقولنا بأفكار جديدة، تعمق نظرتنا للحياة بوجه عام وبالأدب على وجه
الخصوص، مع ملاحظة أن تلك المحافظة وذلك الاهتمام بمأثورات (آدابنا الشعبية) لا
يعني الانكفاء عليها، والانعزال عن الآداب الشعبية عند غيرنا من البلدان
والمجتمعات الأجنبية، بل يجب الاطلاع عليها، والاستفادة منها، دون إهمال لخصوصية
الشخصية العربية العريقة.
كيفية
الاستفادة من (الأدب الشعبي) في أدبنا الحديث:
لقد أدى
التفاعل الفكري بين الآداب العالمية والأدب العربي أن نشأت أجناسا أدبية عربية
مستوحاة من الأدب الغربي، ومن ثم وجب علينا توظيف تراثنا الأدبي في نصوصنا
المستوحاة تلك، والعمل على الاستفادة من الرؤى الفكرية المستنبطة من (أدبنا الشعبي)،
ولعل ماقمت به من مزاوجة بين (المقامة/ أدب شعبي تراثي) و(المقال/ أدب حداثي)،
والمزاوجة بين (التوقيعات الأدبية/ أدب شعبي تراثي) وبين (القصة/ أدب حداثي)؛
يعتبر أنموذجا لتلك الاستفادة، التي أمكنني من خلالها توليد جنسين أدبيين (المقال
المقامي)، و(القصة الومضة)؛ وكليهما يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويثبتان أن الأدب
الشعبي العربي قادر على التفاعل مع روح العصر، وارتداء ثوب الحداثة مع المحافظة
على سماته الأصيلة ورونقه الوضاء الذي لا يخبو وميضه.
كذلك يمكننا الاستفادة
من تراثنا الأدبي الشعبي الزاخر بالأمثال والحكم والأهازيج والأغاني الشعبية والأساطير
والملاحم والسير الشعبية وأساليب وطرق التعبير؛ بتوظيفها في الأعمال الأدبية
الحديثة، حفاظا على ذلك التراث الأدبي من الضياع، والمحافظة على الهوية وتأكيد
الأصالة وبث روح الانتماء لدى الأجيال المتعاقبة من الأبناء والأحفاد.
توظيف الأدب
الشعبي الفرعوني في الآداب الحديثة:
يشير الكاتب د/
عماد عبد الراضي في مقال نشرته صحيفة الأهرام بتاريخ 29 نوفمبر 2014 بعنوان (الحكايات
الشعبية الفرعونية فن مصري نهل منه العالم): إلى أن حكاية "أنوبو
وبيتيو" التي دونت بين عامي 1250 و1300 قبل الميلاد، قد عُرفت في أوروبا عام
1850م... ووصل تأثيرها إلى الأدب الشعبي المغربي؛ فيتضح تأثيرها جلياً في حكاية
"الأخَوان" المشهورة في المغرب، وأيضا يمتد تأثيرها إلى الأدب العبري
القديم. ولا تزال مؤثرة بشدة في العقلية الإبداعية المصرية، ومن الأعمال الإبداعية
المصرية الحديثة التي تأثرت بالحكاية، ولكن بشكل غير مباشر مسرحية (الفرعون
الموعود) التي كتبها على أحمد باكثير عام 1945، وأشهر من تأثر بهذه الحكاية
الفرعونية الكاتب نجيب محفوظ (1911/ 2006) في الحكاية الثالثة من روايته الشهيرة (ملحمة
الحرافيش) التي سماها محفوظ (الحب والقضبان)، و(أنوبو وبيتيو) عنده هما الشقيقان (بكر
وخضر)...",
فإذا ما
انتقلنا من توظيف الأدب الشعبي الفرعوني إلى آداب تراثية أخرى؛ لاحظنا أن السينما
المصرية قد وظفت بعض الحكايات الشعبية الأحدث، في أفلام سينمائية شهيرة، ونضرب
مثالين على تلك الاستفادة بفيلمين؛ هما: فيلم (شفيقة ومتولي) تأليف الدكتور شوقي
عبدالحكيم، وحوار صلاح جاهين، وفيلم (حسن ونعيمة) تأليف عبد الرحمن الخميسي
وسيناريو وحوار هنري بركات، وكل من المؤلفين قد استقى فكرته من حكاية شعبية: الأولى
متداولة في الوجه القبلي، والأخرى متداولة في الوجه البحري.
ونستطيع تلخيص
ماسبق في النقاط التالية:
(1) (الأدب
الشعبي): هو أحد الفنون التراثية (الفولكلورية)، التي تدخل المحافظة عليه من باب
التأكيد على أصالتنا وإثبات هويتنا في مواجهة العولمة، ومن هذا المنطلق تكمن أهمية
دراسة الفنون التراثية بشكل عام، والأدب الشعبي على وجه الخصوص، والاستفادة منه في
أدبنا المعاصر.
(2) أشرت إلى بعض
النماذج الابتكارية التي قمت بها من باب إحياء وتجديد التراث الأدبي؛ تمثلت في
مزاوجتي بين آداب شعبية تراثية وآداب حداثية؛ منتجا أجناسا أدبية جديدة، تجمع بين
الأصالة والمعاصرة (المقال المقامي)، و(القصة الومضة).
(3) أشرت إلى
بعض الكُتَاب الذين استفادوا من بعض قصص (الأدب الشعبي) الفرعوني على سبيل المثال؛
ووظفوها في بعض أعمالهم الأدبية المعاصرة، وتوظيف بعض حكايات (الأدب الشعبي)
الأحدث؛ في أفلام سينمائية شهيرة.
(4) ذكرت أنه لا
ينبغي الاكتفاء بتدوين وحفظ (الأدب الشعبي) ذاته، ولا ما يتولد عنه من مزاوجات، بل
يجب ـ أن يواكب هذا ـ العمل على تحليله ونقده بأدوات نقد عربية؛ بعيدا عن مدارس
النقد الأدبي الغربي.
وأخيرا إذا
كان (الأدب الشعبي) شأنه شأن جميع الآداب؛ إما أن يكون شعرا، وإما أن يكون نثرا؛ ففي
حلقتنا التالية؛ سوف نستكمل حديثنا حول (الأدب الشعبي النثري) الذي بدأنا به، وهو
حديث ذو شجون، يعيدنا إلى الزمن الجميل الذي عاشه الأقدمون، وهذا وعدي لكم، وثقتي
أن ينال إعجابكم بإذن الله، وكما يقول المثل الشعبي: (قال: يا خبر النهار ده
بفلوس؛ بكره يبقى ببلاش)، ويقول الشاعر قراد بن أجدع الكلبي:
(فإن يك صدر
هذا اليوم ولى *** فإنَّ غداً لناظرهِ قريبٌ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو
النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر