(7) (أدب الخَطابة): بين فصاحة المصارحة وبلاغة المناصحة ــ إعداد مجدي شلبي

 (7) (أدب الخَطابة): بين فصاحة المصارحة وبلاغة المناصحة

إعداد/ مجدي شلبي (*)

مقدمة:

كنا قد استعرضنا في الحلقة السابقة نماذجا من الأدب الشعبي النثري، المتمثل في (أدب الرسائل)، ووعدناكم أن نخصص هذه الحلقة للحديث عن (أدب الخطابة) باعتباره أحد فنون السرد التراثي، بغية الكشف عن ماهية هذا الفن الأدبي، وأنواعه، وعرض بعض النماذج منه، ودور البلاغة فيه.

تعريف الخطابة:

كلام منثور يُلقى على جمع من الناس ويتسم بالفصاحة والبلاغة ومراعاة قواعد اللغة من أجل إقناعهم، وحثهم على الالتزام بما ورد فيه، مع ملاحظة أن كلمة (خطابة) يجب أن تُنطق بفتح الخاء وليس بكسرها.

أهمية أدب الخطابة وشموليته:

لقد ذكر ابن رشد (1126/ 1198م) نقلا عن أرسطو (384/ 322 ق. م): "أن الخَطابة ليس لها موضوع خاص تبحث عنه بمعزل عن غيره، فإنها تتناول كل العلوم والفنون، ولا شيء - حقيرًا كان أو جليلًا، معقولاً أو محسوساً - لا يدخل تحت حكمها، ويخضع لسلطانها، ومن ثم قال الباحثون في شأنها: يلزم أن يكون الخطيب ملما بكل العلوم والفنون ما استطاع، وأن يسعى دائبًا إلي أن يزداد كل يوم علمًا".

أنواع الخطابة:

رغم أن نشأة الخطابة من حيث التأسيس والتنظير كانت تقتصر على أنواع ثلاثة فقط (طبقا لما حدده الفيلسوف أرسطو)، إلا أنه مع تطور الزمن أصبحت (الخطابة) خمسة أنواع: سياسية، قضائية، عسكرية، دينية، وعلمية.

1ـ هدف (الخطابة السياسية): المناشدة والاستنفار.

2ـ هدف (الخطابة القضائية): الدفع بالحجة وطلب الحكم، وهو ما يطاق عليه (المرافعة) إما للهجوم وإثبات الاتهام وإما للدفاع وإبعاد التهمة؛ يقول الشاعر/ جبران خليل جبران:

شَدَّ مَا سَامَنَا الْهَوَى كُلَّ يَوْمٍ *** مِنْ دِفَاعٍ وَسَامَنَا مِنْ هُجُومِ.

3ـ هدف (الخطابة العسكرية): التحريض على قتال العدوِّ، والحث على التضحية والفداء.

4ـ هدف (الخطابة الدينية): الوعظ والإرشاد، والحث على فعل الخير، واتقاء الشرور والآثام.

5ـ هدف (الخطابة العلمية): عرض الأبحاث والمستجدات في المؤتمرات والملتقيات العلمية.

عناصر الخطابة: 1- الخَطيب (القائل). 2– الخُطبة (القول)، المُخَاطَب (المتلقي/ المستمع)

(أولا) شروط ومواصفات الخطيب:

من المواصفات الأساسية للخطيب: أن يكون موثوقا بعلمه وخبرته فيما يتناوله في خطبته، ولديه قدر كبير من القبول لدى الناس، وقادر على التأثير فيهم بطلاقة لسانه، وجلاء صوته، وسرعة بديهته، وحسن سيرته.

(ثانيا) شروط ومواصفات الخطبة:

اعتماد الخطبة على عناصر التأثير والإقناع، من خلال فصاحة اللغة وسلاسة التناول وبلاغة الأسلوب، والاستشهاد بالقيم التربوية والاجتماعية والخلقية النبيلة التي تتوافق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وتتلخص عناصرها في: المقدمة، العرض، البراهين الموضوعية، البراهين الذاتية والختام.

(ثالثا) شروط ومواصفات المُخاطب (المتلقي):

حيث أن تعريف أرسطو للمتلقي: "هو الشخص الذي يوجه إليه الخطاب، أو هو الذي إليه تحيل الغاية أو الهدف من الخطبة". وجب أن يكون الخطيب عالما بهذا الجمهور، من حيث مستوى ثقافته وعلمه؛ لتكون الخطبة موافقة لمقتضى حال المتلقي.

الخطابة عند العرب:

عرف العرب الخطابة منذ الجاهلية، ثم جاء الإسلام فحافظ على بعض خصائصها المقبولة، وتخلى عما لا يتناسب مع قيمه الأخلاقية السامية، وبفضل أسلوب القرآن الكريم وفصاحة لغته؛ أمدها بألفاظ جديدة ومعانٍ عديدة ودلالات أثيرة، فجعلها ترتقي برسالتها التبليغية الحريصة على مافيه صالح الناس؛ يقول الشاعر/ ابن الهبارية:

خطابة المنابر *** لإِزالة المناكر

الرفق بِالرعايا *** إِزالة الشكايا

إِغاثة المَلهوف *** وَالأَمر بِالمَعروف

حِماية المَسالك *** مِن شَرِّ كل فاتك.

نماذج من أدب الخطابة:

1ـ من (الخطابة السياسية): خطبة لعتبة بن أبي سفيان‌:

"يا حاملي الأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسّي إياكم، وسألتكم صلاحكم؛ إذ كان فسادكم راجعا عليكم، فأما إذ أبيتم إلا الطعن على الولاة، والتنقّص للسلف، فواللّه لأقطعن على ظهوركم بطون السّياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم؛ ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم لنا بالمعصية، ولا أؤيسكم من مراجعة الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبرّ وأتقى".

2ـ من (الخطابة القضائية): المخاصمة بين أبي الأسود الدؤلي وامرأته التي طلقها وأراد أن ينتزع ابناً له منها فأبت واحتكما إلى زياد (والي البصرة):

ــ فقالت المرأة مدافعة عن حقها في حضانة الولد: أصلح الله الأمير، هذا بني كان بطني وعاءه، وحجري فناءه وثديي سقاءه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتى إذا استوفى فصاله وكملت خصاله وأملت نفعه ورجوت دفعه، أراد أن يأخذه مني كرهاً فآدني أيها الأمير، فقد رام قهري وأراد قسري”.

ــ فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه وأنظر في أوده، وأمنحه علمي، وألهمه حلمي، حتى يكمل عقله ويستحكم فتله.

ــ فقالت المرأة: صدق، أصلحك الله، حمله خفاً وحملته ثقلاً، ووضعه شهوةً ووضعته كرهاً”.

ــ فقال زياد: أردد على المرأة ولدها فهي أحق به منك ودعني من سجعك.

3ـ من (الخطابة الدينية): خطبة قس بن ساعدة الإيادي بسوق عكاظ:

"أيها الناس: اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراه، إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟".

ثم يقسم قس بالله قسمًا لا إثم فيه فيقول: "إن لله دينًا هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا، يَا مَعْشَرَ إيَاد: أيْنَ الآبَاءُ والأجْدَادُ؟ وأيْنَ الفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟ أَلَمْ يَكُوْنُوا أكْثَرَ مِنْكُم مَالاً وأطولَ آجالاً؟ طَحَنَهُم الدهْرُ بِكَلْكَلهِ، ومزَّقَهم بتطاوُلِه"، ثم أنشأ بعد ذلك يقول:

في الذاهِبينَ الأَوَّليـ *** ــنَ مِنَ القُرونِ لَنا بَصائِر

لَمّا رَأَيتُ مَوارِداً *** لِلمَوتِ لَيسَ لَها مَصادِر

وَرَأَيتُ قَومي نَحوَها *** تَمضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِر

لا يَرجِعُ الماضي وَلا *** يَبقى مِنَ الباقينَ غابِر

أَيقَنتُ أَنّي لا مَحا *** لَةَ حَيثُ صارَ القَومُ صائِر.

(وقد روي عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه رآه قبيل البعثة يخطب الناس بسوق عكاظ وروى خطبته وعجب من حسنها وأظهر تصويبها ثم قال: "يرحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده").

4ـ من (الخطابة العسكرية): خطبة طارق بن زياد في حثّ المسلمين على الجهاد:

"... أيها الناس، أين المَفَرُّ؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدقُ والصَبْرُ. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام، وقد اسْتَقْبَلَكم عدوّكم بِجَيْشِهِ وأَسْلِحَتِهِ، وأَقْواتُه موفورةٌ ، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفُكم ولا أقواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصُونَه من أيدِي عدوِّكم، وإِن امْتَدِّتْ بكم الأيامُ على افتقارِكم ولم تُنْجِزوا لكم أمراً ذهبتْ رِيحُكم، وتَعَوّضَتِ القلوبُ من رُعْبِها منكم الجَرَاءَةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خُذْلانَ هذه العاقبة من أمركم بِمُنَاجَزَةِ هذا الطاغية".

5ـ من (الخطابة العلمية): بعض أقوال جابر بن حيان (أبو الكيمياء) (721/ 816م):

ــ "إن الله هو الذي وهب الإنسان العقل والعقل علة كل شيء، العقل نور والعلم نتيجة وهكذا كل علم نور".

ــ "الفتن لا تبقى على أحد سالما ومن الفتن يلوذ العلماء بالفرار فعلم العلماء هو ما يبقي الأمم".

ــ "على الإنسان الطالب لهذا الأمر أن يكون ذكيا لأن هذه الصناعة تحتاج إلى حجج وبراهين على إثباتها وكونها على غايتها وآنيتها وكميتها ليكون الداخل فيها داخلا على بصيرة من حاله ويقين من أمرِهِ ليعلم الفصول والآثار الظاهرة فيكون سلوكه على يقين وعلم قاطع، ولا يكون كَمن يسلك من ظلماء ويخبط من عشواء، فإن هذه الصناعة ليست كائنة بالبحث ولا كيف جاء وأتقن لكنما يكون لذي الرأي الصحيح والقياس الواجب والدرس الدائم للعلم الحق الواضح".

ــ "عقول الناس، مثل المشكاوات، بينها ما هو قوي وما هو ضعيف، وما هو بيْن، وعلم الكيمياء لا يقدر على حمله سوى القوي المتين، ومن يملك حباً للعلم، يصبح العلم عنده حرماً مقدساً".

ــ "من كان دؤوبا كان عالما حقا، ومن لم يكن دؤوبا لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنايع. إن الصناعي الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل".

أدب الخطابة في العصر الحديث:

لقد تنوعت أغراض الخطابة في العصر الحديث؛ فأضيف إلى الخطابة السياسية، والقضائية والعسكرية والدينية والعلمية؛ خطابة اجتماعية في المحافل: (تهنئة ومدح) أو (تعزية ورثاء).

نموذج من (الخطابة الاجتماعية) في الرثاء:

ــ (رزية موت العلماء): خطبة في رثاء الشيخ الفاضل/ عوض بن محمد بانجار (1947/ 2013م) رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته للدكتور/ مراد باخريصة:

"فقدت حضرموت علماً من أعلامها ورجلاً من خيرة رجالها وعالماً من أجل علمائها نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً كان له الفضل بعد الله مات الشيخ رحمه الله لأن الموت لا يستثني أحداً ولا يعرف عالماً أو جاهلاً فليس لأحد منه مفر أو مهرب فهو يدخل على الجميع بلا استئذان ويأتي بغتة إلى كل إنسان فلنعد له ولنستعد للقائه بالتوبة النصوح وفعل الخيرات وترك المنكرات (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) الأعراف 34، النحل 61.

إن موت العلماء رزية على الأمة بأسرها وموتهم حث لنا على طلب العلم ومواصلة الدرب في طلب العلم حتى نسد الثغرة التي كانوا يسدونها وحتى يوجد في الأمة من يقوم مقامهم ويغطي الفراغ الذي تركوه وإذا كان لكل واحد منا عدداً من الأبناء فهل فكر أن يجعل أحدهم عالماً يخدم الدين ويتفرغ لطلب العلم الشرعي فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ".

 يقول الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه):

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمُ *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ

وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه *** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

ففُزْ بعلمٍ تحيا به أبداً *** الناس موتى وأهل العلم أحياءُ.

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

أخيرا وليس آخرا:

هكذا عرضنا هنا ما وعدنا به حول (الخطابة): ماهيتها وأنواعها ونماذج مختارة منها،  وأعدكم في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ أن نتناول فنا أدبيا آخر من فنون النثر التراثي وهو فن (الحوار)، وبالله التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر