سوسيولوجيا القص والبعد البلاغي في النص ــ قراءة الأديب مجدي شلبي في المجموعة القصصية (آخر ما تبقى) للكاتبة الجزائرية أ/ حكيمة جمانة جريبيع

 سوسيولوجيا القص والبعد البلاغي في النص

قراءة في المجموعة القصصية (آخر ما تبقى) للكاتبة الجزائرية أ/ حكيمة جمانة جريبيع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم/ مجدي شلبي (*)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة

تشير كلمة (سوسيولوجيا) بوجه عام إلى علم الاجتماع الذي يركز على المجتمع، والسلوك الاجتماعي، وأنماط العلاقات الاجتماعية، والتفاعل الاجتماعي، وثقافة الحياة اليومية، فإذا ما أسقطنا هذا التعريف على الأدب (سوسيولوجيا الأدب)؛ أضحينا أمام إشارة علمية لفحوى الأثر الأدبي ومدی علاقته بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، التي يعكسها ويعبر عنها النص الأدبي.

ومن ثم يحيلنا العنوان (سوسيولوجيا القص والبعد البلاغي في النص) إلى مزاوجة بين البعد (السوسيولوجي) المعبر عن قضايا المجتمع، والجانب الفني في تناول هذه القضايا من خلال البعد البلاغي الذي يركز على جماليات اللغة وأدواتها لتوصيل الرسائل الإنسانية والاجتماعية إلى القارئ بشكل مؤثر، يضفي أبعادا شعورية ونفسية؛ تُحفزه على التفكير والتفاعل مع القضايا المطروحة.

وهو ما تحقق بالفعل في هذه المجموعة التي تجمع نصوصها القصصية بين العمق الاجتماعي والجمال اللغوي، وهو ما يستحق الإشارة إليه بشيء من التفصيل بداية من العنوان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدلالة الاجتماعية والبعد الإنساني في "آخر ما تبقى"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا شك أن العنوان: "آخر ما تبقى"؛ يحمل طابعا وجدانيا وإنسانيا عميقا، يُحيل إلى ما يظل حاضرا في حياة الإنسان رغم الخسائر أو الانكسارات، ويعبر عن ظواهر اجتماعية مثل الفقد، الاغتراب، أو التشبث بالأمل وسط واقع قاس، مما ينسجم مع البعد السوسيولوجي، وتأتي النصوص المعتمدة على الصور البلاغية هادفة لاستحضار مشاعر الفقد والتشبث بالماضي أو الذكرى، بعد فقدان الشيء وبقاء أثره في الوجدان أو المكان، وهو ما يحمل دلالات فلسفية مُعبرة عن الحنين، والتأمل فيما يُخلفه الزمن من بصمات، ويشير إلى ما تبقى من الماضي بعد زوال عناصره المادية، سواء كانت أشياء، أماكن، أشخاص، أو ذكريات، واستحضار الحنين إلى ما كان حاضرا ثم توارى، وكيف أنه يبقى بالفعل حاضرا في الأذهان رغم غيابه الفعلي.

ورغم أن عبارة: "آخر ما تبقى"؛ ترتبط ارتباطا وثيقا بعبارة: "أثر بعد عين"؛ باعتبار أن كلا العبارتين تتناولان ما يُخلفه الزمن أو الأحداث من آثار، إلا أن "أثر بعد عين" تعبر عن حالة زوال الشيء تماما مع بقاء أثره كدليل على وجوده السابق، بينما "آخر ما تبقى" تحمل أملا أو تمسكا بما تبقى، وهو ما يشير إلى الجوانب الاجتماعية والإنسانية لقصص المجموعة، التي جسدتها الكاتبة بحرفية وإتقان مستخدمة أدواتها البلاغية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البعد البلاغي وأثره في إثراء النص

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد عمدت الكاتبة في قصص مجموعتها إلى استخدام الأدوات البلاغية على نحو يبدو مبالغا فيه، ولكنه كان مبررا؛ فالصور البلاغية ــ مهما بلغت ــ تُضفي على النص عمقا وجمالا، وتجعل القارئ يتفاعل مع المشاهد والرموز على مستوى وجداني وفكري، وتمنح النص سمة فنية تُظهر إبداع الكاتب وقدرته على ابتكار صور مميزة، من خلال التشبيهات والاستعارات التي تفتح أمام القارئ أفقا أوسع لفهم النص، وتدعوه لتخيل المشاهد وتفسير الرموز، وتُبرز مشاعر الإنسان وصراعاته بطريقة أكثر تأثيرا، وأكتفي هنا بعرض غيض من فيض تلك العبارات البليغة:

ـــ "يورق الجرح من سبخة الفقد" (من الإهداء)

ـــ "قلعة الورق الجريحة تتأوه في صمت مخز كفحيح أفعى"، "هي ذي قلعة الروح ترتعش كمن ينتظر حكم إعدامه"، "الحسان من الكتب، عرائس الورق وملوك الحبر تُغتصب"، "جرافة البلدية لا تزال تعبر عن جوعها المستميت"، "وتطويني قصاصة ملقاة على قارعة الطريق؛ ربما هي آخر ما تبقى من المملكة المنهارة" (من قصة "انهيار مملكة الورق")

ـــ "كنا ثلاثة كالعقد الفريد على جيد الزمن الأجرب"، "للأمكنة قلبا حتى وإن لم يضخ الدم فهو يضخ محبة ودفئا يحتوينا"، "الأمكنة كالقلوب بعضها يشبه قلب الأم وحضنها الرؤوم، وبعضها يشبه ساحرة الأساطير الشريرة التي تجعلك تركض وتركض لتنفذ بجلدك"، "لحظة قاسية عارية من الرحمة تجلدنا بسوطها لتقتلنا ثم تتفرج على جرحنا في تجدد"، "الحزن بداخلنا يعلي مملكته" (من قصة "الكراسي الفارغة").

هذه بعض العبارات البليغة التي وردت في القصة الأولى والقصة الأخيرة من المجموعة، وبين هذه وتلك؛ هناك رحلة في عالم السرد القصصي الممتع والمشوق، لا يتسع المقال لتفاصيلها؛ لذاك أكتفي بإشارات سريعة إلى جوهر القضايا الأدبية والاجتماعية والإنسانية والسياسية، التي تناولتها قصص المجموعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رؤى مكثفة في قضايا المجموعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ــ في قصة (انهيار مملكة الورق):

في هذه القصة شرعت الكاتبة نافذة الروح على قضية أزمة الثقافة المجتمعية التي لا تدرك قيمة التراث المعرفي، وأشارت إلى الحرب الضروس بين الماضي العريق، الذي يمثله هذا التراث المعرفي، والحاضر الحداثي السطحي الذي يعتبر الكتب الورقية عبئا تقليديا يجب التخلص منه، وهو ما يعكس أزمة في إدراك قيمة هذا التراث المعرفي؛ مما دفع الكاتبة لاستدعاء ذكريات شخصية مع الكتب الورقية، بوصفها شواهد صامتة على مجد ثقافي يتلاشى أمام أعيننا، وقد عبرت عن مرارة فقدان الصلة بهذا الإرث الثقافي، بتوظيف لغة وجدانية تقطر حزنا وشجنا.

2ــ في قصة (طعنة الباب.. غُرزة الحبّ):

تحكي هذه القصة إحدى الحكايات التي تختبئ خلف أسوار بيوت المسنين، وهي حكاية تمزق القلب وتتناول قضية العقوق والجحود، الذي تجلى في صورة ابن أدار ظهره لحنان أمه ورضخ لضغوط زوجته، فألقى بأمه في دار المسنين؛ فغدا قلب الأم مسكنا للألم والصبر معا، ثم مالبث أن عانى الابن ــ لاحقا ــ من مرض شديد يتطلب تبرعا عاجلا بالكلى لإنقاذ حياته، حينها؛ ظهرت أمه ــ رغم ما لاقته من عقوق ــ لتضحي بجزء من جسدها في محاولة لإنقاذه، وهو ما يؤكد حقيقة أن قلب الأم دائما هو المُعبر عن أسمى معاني الرحمة والعطاء، ومن ثم تدعونا هذه القصة للتأمل في جوهر العلاقة الإنسانية بين الأم وأبنائها، وتحمل رسالة عميقة عن قيمة البر والوفاء.

3ــ في قصة (لاجئة تنتعل الرمل):

تتناول هذه القصة قضية اللجوء، وتجسد مأساة اللاجئين الذين أُجبروا على ترك أوطانهم ــ في ظل الحروب وويلات القهر والعنف ــ حاملين في قلوبهم جراحا لا تندمل، وأحلاما سرقتها أيدي تجار الدماء، الذين لا يعرفون الإنسانية ولا الرحمة، فجعلوا من المعاناة تجارة، ومن الألم وسيلة لملء جيوبهم دون اكتراث لصرخات الأطفال أو دموع النساء أو انكسار الشيوخ، ورغم أن رحلة النزوح، تبدأ بالهروب من أهوال الوطن، إلا أنها لا تنتهي عند الوصول إلى وطن بديل، بل تستمر المعاناة، حيث يواجه اللاجئون تحديات الغربة، وصعوبة الاندماج، ونظرات الرفض والاشتباه.

4ــ في قصة (مرافئ الحنين):

تشير هذه القصة إلى قضية الإبداع الذي يصبح في تحد كبير في المجتمعات التي تنحاز للماديات وتعادي المشاعر العميقة، مما يؤدي إلى تهميش الفنون التي تعتمد على استبطان الإنسان لعالمه الداخلي، فالشعر ــ على سبيل المثال ــ الذي يمثل قمة التعبير عن المشاعر الإنسانية؛ يعاني من عزلة متزايدة في مثل هذه البيئات.

5ــ في قصة (تواقيع غيمة ربيع):

هذه القصة تتناول قضية الإرهاب اللعين، الذي يطال أرواح الأطفال البريئة؛ فيغتال المستقبل والأمل والبراءة التي تشكل النواة الحقيقية لأي وطن، وكأن الإرهاب الوحشي يخطط لتدمير الغد قبل أن يولد، ويغتال الأحلام قبل أن تشرق.

هذه الجرائم الوحشية التي يرتكبها الإرهابيون تكشف مدى تجردهم من أي حس إنساني أو وازع أخلاقي أو ديني.

6ــ في قصة (انكسارات الوداع الأخير):

هذه القصة تتناول قضية الاستعمار، وتشير تحديدا إلى الاستعمار الفرنسي للجزائر، أو كما أُطلقت الكاتبة عليه "الاستدمار"، فهو لم يكن مجرد احتلال للأرض، بل كان محاولة لطمس الهوية وسلب الحرية وتجريد الشعب الجزائري من أبسط حقوقه الإنسانية، على الرغم من الشعارات التي رفعها المستعمر الفرنسي حول الحرية والمساواة في بلده، إلا أنه تعامل مع الشعب الجزائري بقهر واحتقار، كاشفا بذلك عن وجهه الحقيقي المزدوج، وفضح زيف دعاويه "التحضرية" التي حاول بها تبرير استعماره، وهو ما دفع المرأة الجزائرية ــ كرمز للصمود والمقاومة ــ إلى أن تعرض نفسها للخطر وتساند المجاهدين في معركة التحرير، لإيمانها بأن الحرية تستحق كل تضحية.

وقد أعادت هذه القصة لذاكرتنا اسم (جميلة بوحريد) التي كانت إحدى أبرز الشخصيات التي جسدت مقاومة المرأة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وقد تم في مصر إنتاج فيلم سينمائي عام 1958 كان يحمل اسم هذه البطلة ويحكي عنها وعن نضال شعب الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وقد شاهدت هذا الفيلم الذي عرض في سينما أبو عجيزة بمنية النصر أوائل الستينات، وعمري وقتها كان ثمانية أعوام.

7ــ في قصة (تراتيل امرأة طعنها البحر):

تتناول هذه القصة قضية الهجرة غير الشرعية، التي هي ليست مجرد محاولة للبحث عن حياة أفضل، بل هي هروب من واقع مرير، في رحلة محفوفة بالمخاطر والمآسي، حيث تتجسد آلام الفقد على مستويات متعددة: فقد الأحلام، وفقد الأحبة.

8ــ في قصة (ميلاد يد):

هذه القصة تتناول قضية الهوية الفلسطينية تحت وطأة الاحتلال، وما يرافقها من نضال مستمر للحفاظ على الكرامة والتشبث بالأمل، وذلك في ظل المعاناة والصراعات بين الحلم والواقع، وبين الفقدان والتحدي، وقد صيغت هذه القصة بلغة رمزية وسرد تجريدي وبأسلوب مدهش.

9ــ في قصة (لعنة الرقم خمسة عشر):

تتناول هذه القصة قضية العادات والتقاليد في بعض المجتمعات، وقيودها على حرية الأنثى  بداية من حرمانها من استكمال التعليم، مرورا بفرض الزواج القسري عليها، ووصولا إلى قمعها في مواجهة الانتهاكات التي تتعرض لها، وهذا الواقع الذي يُكرس هيمنة الثقافة الذكورية جعل الأنثى ضحية مزدوجة: ضحية الاضطهاد وضحية الصمت المطبق الذي يُفرض عليها.

والمدهش أنها عندما تعرضت للاغتصاب؛ تحولت الضحية إلى جانية تستحق العقاب، بينما فلت الجاني من المحاسبة؛ فهربت من هذا المصير البائس لتجد نفسها بين مطرقة العشائر وسندان المجتمع، وصولا إلى السجن، حيث تكشف القصة عن سلسلة من المآسي التي تنسج خيوطها التقاليد الموروثة.

10ــ في قصة (معزوفة الأصابع):

تتناول هذه القصة قضية الحنين إلى الماضي والبحث عن الحرية، كإشارة إلى فقدان الهوية الجماعية، والرغبة في استعادة الوطن وكرامته، باستخدام لغة رمزية تجريدية، فرغم أن التفاصيل الموحية تعكس معاناة جماعية مغلفة بقصة فردية، إلا أن الشخصيات والأحداث تبدو كإسقاطات على وطن مضطهد يعاني من القهر، والصراع مع الماضي والمآسي والجراح التي لم تندمل، وهو ما يدفع إلى التأويل المرتبط بالواقع السياسي والاجتماعي.

11ــ في قصة (ما وراء النبض):

هذه القصة تتناول قضية الضياع والهروب من الواقع في مواجهة أزمات حياتية أو وجودية، ومن خلال السرد يمكن استنتاج أنها تعبر عن حالة نفسية داخلية للشخصية المحورية، قي محاولة للبحث عن الذات أو تجاوز الشعور بالعجز والخيبة،  ولكون النص يحمل تأملات فلسفية وتعبيرات مجازية ورمزية تفتح باب التأويل، يمكن أن يكون العالم الداخلي للشخصية انعكاسا لحالة الوطن، أو نتيجة تأثره بالعالم الخارجي وما يحدث فيه.

12ــ في قصة (ما تبقى من هامتي):

هذه القصة تتناول قضية تأثر المشاعر الوطنية نتيجة استغلال القوى الكبرى لخيرات البلاد وتحويل الشعوب ــ التي من المفترض أن تكون منتجة ــ إلى مستهلكة، مما يتسبب في تراجع مشاعر الانتماء تدريجيا من نفوس الشباب عندما يدركون أن أوطانهم، التي يفترض أن تكون رمزا للإنتاج والكرامة، قد تحولت إلى مستودعات استهلاكية تخضع لاستغلال القوى الكبرى، وتحت وطأة هذا الواقع، يشعر الشباب بالاغتراب، إذ يرون خيرات بلادهم تُنهب لتعود إليهم في هيئة منتجات تحمل أعباء اقتصادية ونفسية، فيما تصبح الكرامة الوطنية مجرد شعار فارغ.

هذه القصة تعبر عن واقع مرير يتنازع فيه الشباب بين الانتماء لأوطانهم والشعور بخذلانها لهم، ومن ثم فهي تحمل دعوة ــ ضمنية ــ إلى التأمل ومحاولة التغيير، لاستعادة كرامة الأوطان المهدرة في صخب السوق الاستهلاكي.

13ــ في قصة (شاعرة مع إيقاف التنفيذ):

هذه القصة تتناول قضية الوسط الأدبي الذي يقع في التناقضات: بين نجاحات الوهم وانسحاب الأصالة، وهو ما يعكس واقعا نعيشه، حيث تتصدر بعض الشخصيات المشهد الأدبي لا بسبب موهبتها، بل بدعم قائم على مصالح شخصية وعلاقات تتجاوز نطاق الأدب، وفي المقابل، تقرر شخصيات أخرى الابتعاد عن هذا الزيف، متمسكة بالقيم الحقيقية للأدب، مما يجعلها استثناء نادرا في مشهد يعج بمن يسابقن الزمن بحثا عن نجاحات وهمية على حساب الموهبة والإبداع الحقيقي.

14ــ في قصة (الكراسي الفارغة):

هذه القصة تتناول قضايا مرتبطة ببعضها: مأساة التشرد، فقدان الحب ووجع الوحدة، وهي قضايا إنسانية في الأدب تُبرز معاناة أطفال الشوارع، الذين يُحرمون من الرعاية والعطف، والحب الذي يتبدد بفعل العجز المادي، وقضية فراق الصحب والخلان الذي يترك القلب مثقلا بالوحدة والخذلان، وهذه القضايا التي تمثل أوجاعا فردية وجماعية، عبرت عنها الكاتبة في هذه القصة بأسلوب مؤثر يدعو للتأمل والتعاطف الإنساني.

وهكذا نلاحظ أن تنوع موضوعات القصص؛ جمعها خيط واحد متسق تماما مع عنوان المجموعة، وقد امتد هذا التنوع التكاملي إلى أسلوب السرد الذي برز فيه السرد البلاغي والرمزي والتجريدي، الذي سعت الكاتبة من خلاله إلى طرح قضايا إجتماعية وسياسية ووجدانية، تاركة للقارئ مساحة لتأويل الأحداث والشخصيات والمعاني، والرموز الموحية، التي كان للبحر والقارب النصيب الأوفر منها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأبعاد النفسية والفلسفية لرمزية البحر والقارب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا شك أن رمزية البحر والقارب في سياق الانكسارات والوجع والذكريات المؤلمة؛ تمتد إلى أبعاد نفسية وفلسفية عميقة، حيث تتداخل الطبيعة مع مشاعر الإنسان لتُجسد حالته الداخلية، وتُبرز عمق ارتباطه بالحياة، والبحث عن الخلاص وسط الأمواج المتلاطمة.

فالبحر يرمز للامتداد واللانهاية؛ فهو لامتداده واتساعه يُمثل امتداد الزمن واتساع المشاعر، ومرآة للذكريات التي لا تنتهي، حيث تتردد فيها أصداء الوجع والفرح على حد سواء، فضلا عن رمزية الغموض والمجهول؛ فهو عالم مليء بالاحتمالات، التي لا يمكن التنبؤ بمداها أو انتهائها، وتحمل في طياتها آلام الفقد، واضطراب المشاعر الذي يحاكي حركة الأمواج وهديرها، وكأن البحر يحمل أسرار القلب الموجوع، يتقلب بين المد والجزر كما تتقلب الأرواح بين اليأس والرجاء، وهو المأوى الأخير حيث يُلقي الإنسان بحمله إليه، أو يراه كحاضن للغائبين الذين رحلوا.

أما القارب فيرمز إلى البحث عن النجاة، في ظل ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة (وأمام الحياة بشكل عام)، فهو يمثل الأمل والرغبة في النجاة والتشبث "بما تبقى"، فالقارب أداة تعبر إلى المجهول، يمكن أن يمثل وسيلة لعبور مرحلة مؤلمة إلى أخرى قد تكون أكثر استقرارا، أو يمثل وداعا أخيرا لمن نحب، وفي بحر الفقد، يُصبح القارب رمزا للروح التي تصارع الغرق، تحاول أن تستمد من الذكريات ما يُبقيها عائمة.

وهكذا يجسد البحر والقارب معا ذلك الشعور المزدوج بين الرغبة في الرحيل (الاستسلام للألم) والرغبة في البقاء (التشبث بما تبقى منه)، وبتعبير فلسفي نستطيع أن نقول أن البحر والقارب في هذا السياق يتحدان ليُعبرا عن تلك الثنائية الأبدية: الألم والأمل، الفقد والبقاء، والوداع والذكرى؛ فهما صورة إنسانية متكررة، حيث يُحاول الإنسان ــ رغم انكساراته ــ أن يُبحر في الحياة، متسلحا بذكرى من أحب، وبقارب من صنع إرادته.

وقد مهد لتلك الرمزية وعبر عنها تصميم صورة الغلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صورة الغلاف بين نداء القدر و"آخر ما تبقى"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صورة الغلاف تعكس دلالات متشابكة بين الفقد والحنين، ويظهر فيها البحر كرمز للامتداد المجهول، بينما القارب الذي يحمل أشخاصا في الأفق يشير إلى رحلات الغربة والبحث عن أمل مفقود، والألوان الباهتة وظلال الأشخاص الذين في حوزة الكف الباهتة، التي تمثل "كف القدر" المتحكم في مسارات البشر وحملهم نحو مصيرهم المجهول، وهو ما يستدعي الشعور بالألم والضبابية، حيث يصبح الماضي طيفا باهتا، كأنه صدى "آخر ما تبقى" في ذاكرة الشخص الجالس وحيدا، في إشارة إلى فقد أو انتظار يائس، والمقعد الفارغ على الشاطئ يشير إلى غياب من رحلوا أو فُقدوا.

إن هذا التصميم الفني يخلق حالة وجدانية تعبر عن المسافة الفاصلة بين الحاضر، وما تبقى من الماضي، ولا يزال يلوح في الأفق، وبهذا المزج بين الحضور والغياب أضفى الغلاف بعدا فلسفيا عميقا يعكس مفهوم الفقد والحنين.

ولا يتبقى لي ــ في هذه القراءة السريعة في قصص المجموعة ــ إلا أن أشير إلى البعد الأدبي والجمالي لامتداد السرد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البعد الأدبي والجمالي لامتداد السرد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن القارئ لقصص هذه المجموعة يلاحظ استخدام الكاتبة لفن الإضافة وامتداد السرد إلى ما بعد المشهد الختامي ــ ربما لكونها في الأصل روائية ــ أو لكونها ترغب في تعميق الأثر النفسي للنص وتعزيز غايته السردية، من خلال إطالة أمد التأثير العاطفي باستخدام الإضافة، التي تمنح القارئ مساحة للتأمل في تطور الشخصيات والأحداث، فضلا عن كسر التوقعات السردية التقليدية، اتساقا مع فلسفة الحياة التي لا تعرف ختاما صارما، وإنما هي سلسلة متواصلة من الأحداث والتغيرات، ومن ثم أوحت الكاتبة بوجود امتداد إلى أفق أوسع من التفاصيل والتفسيرات التي تتجاوز حدود النص.

و"آخر ما تبقى" لي في هذه القراءة؛ هو (الختام).

ــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة ختامية

ــــــــــــــــــــــــــــ

لقد استمتعت بقراءة هذه المجموعة القصصية، التي أبدعت الكاتبة أ/ حكيمة جمانة جريبيع في تناول موضوعاتها، وتنوع أساليب سردها، وجمال وبلاغة صياغتها؛ فعبرت بهذا كله ــ وبكثير غيره ــ عن مهارة وتمكن واقتدار إبداعي نادر تستحق عليه التقدير والاحترام، مع خالص التمنيات الطيبة لها بمزيد من الإبداع والتألق والتميز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

ـــ نُشرت في مجلة النيل والفرات على جزئين (الجزء الأول نُشر في العدد 59 من بتاريخ 15 ديسمبر 2024 والجزء الثاني نُضر في العدد 60 بتاريخ 1 يناير 2025)

ــ نُشرت في النادي الأدبي بجريدة (الجمهورية) الجزائرية بتاريخ 16 ديسمبر 2024